أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

في المقال السابق، كُنَّا في ظلال قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان:34).

وأوضحنَا كيف أنَّ المفسِّر اليوم خالَف في تفسيره ما طرحه المفسرون الأوائل الذين لم يُعاصروا معطيات العلم الحديث بخصوص إمكانية تحديد جنس الجنين؛ وبذلك استفاد من التجربة وما توصلت إليه علوم الطبيعة في تغيير تفسير الآية، وبما يتوافق مع المعطيات العلمية الحديثة، يقول أ. د. الدكتور عبد الجواد محمد الصاوي المستشار العلمي للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي، في مقاله "مفاتح الغيب.. وعلم ما في الأرحام"، ما نصُّه: "... أما تعرُّض بعضهم لتفاصيل علم ما في الأرحام وإدخال قضية العلم بنوع الجنين، في الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فقد تبين اليوم خطؤه، حيث ثبت بيقين أن العلم بنوع الجنين هو من عالم الشهادة؛ الخاضع لسنن الاستكشاف والمعرفة التي بثها الله في الخلق، وإدخال هذه القضية في الغيب المحظور إنما كان اجتهاد منهم، رحمهم الله، وليس فيه سند من قرآن أو سنة، أو لعله من باب تفسير عموم ما في الأرحام الوارد في الآية".

وكما نُلاحظ، فإنَّ الدكتور الصاوي يرى أنَّ التفسير الذي طرحه أوائل المفسرين واعتبارهم معرفة جنس الجنين من مختصات الغيب لم يعد مقبولًا اليوم ويعد اجتهادا خاطئا، فالعلم اليوم أثبت إمكانية معرفتنا بجنس الجنين، كما نلاحظ أن بعض العلماء -كما هو واضح من كلام السيد كاظم الحائري/ راجع الجزء الأول من المقال- يتجه إلى توسعة مفهوم "ويعلم ما في الأرحام" ليشمل بُعدًا غيبيًّا كمفهوم السعادة والشقاء، وهي أمور خارجة عن نطاق العلم التجريبي موضوعًا.

لننتقل إلى آية أخرى وهي قوله تعالى في سورة الطارق: "فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ". والإشكالية التي أثيرت على هذه الآيات هي في قوله تعالى: "يخرج من بين الصلب والترائب"، وقد ذكر عدد من المفسرين الأوائل أن المقصود بالترائب هو صدر المرأة، وهو منافٍ لما توصل إليه العلم الحديث؛ فلا علاقة لماء المرأة ولا البويضة بصدر المرأة.

يذكر الطبري في تفسيره "والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: هو موضع القِلادة من المرأة؛ حيث تقع عليه من صدرها؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، وبه جاءت أشعارهم". ويُذكر على بن إبراهيم القمي في تفسيره "النطفة التي تخرج بقوة يخرج من بين الصلب والترائب، قال: الصلب الرجل والترائب المرأة وهو صدرها". وهو نفس ما يذهب إليه الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان ويذهب إليه القرطبي والفخر الرازي والطبرسي.

لكننا نرى أن عددًا من المعاصرين من المفسرين نحو نحوًا مغايرًا في تفسيرهم، وذلك بناء على ما توصلت إليه علوم الطبيعة، فنجد مثلا الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل يقول: "ويكفينا الرجوع إلى الآيات المبحوثة لدفع الغموض الحاصل، فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرينة "ماء دافق"، وهذا لا يصدق إلا على الرجل، وعليه يعود الضمير في "يخرج". وعليه، فينبغي إخراج المرأة من هذه الدائرة، ليكون البحث منصبا على الرجل فقط، وهو المشار إليه في الآية، و"الصلب والترائب" هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي، لأن ماء الرجل إنما يخرج من هاتين المنطقتين"، وهناك محاولات تفسيرية أخرى وكلها تصبُّ في محاولة تفسير النص بما يتوافق مع معطيات التجربة.

وهكذا نلاحظ أن الخلاف بين النص وبين ما توصلت إليه علوم الطبيعة لم يكن محل نزاعٍ في حضارتنا الاسلامية؛ وذلك لأن علماءنا الأعلام لا يشككون في نزاهة القرآن الكريم من الخطأ، وأنه مصدر حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكنهم يفرقون بين مسألة عصمة النص من الخطأ وتفسيرنا له؛ فهذا التفسير هو اجتهاد وعُرضة للخطأ، والتجربة والملاحظة هي أدوات مهمة نملكها اليوم، والتي يمكن من خلالها التحقق من صحة تفسيرنا، فاذا كشفت الملاحظة والتجربة بأن تفسيرنا للآيات لا يتوافق مع الحقائق العلمية المثبتة، فإننا نقطع حينها بخطأ تفسيرنا فلا يمكن للقرآن الكريم أن يجانبه الصواب.

إنَّ ذلك يعني أنَّ الملاحظة والتجربة هي المصدر الأول لمعرفة الطبيعة، وكان ذلك متجذرًا في عقول عدد من العلماء الذين تصدوا لتفسير القرآن الكريم، لذا لم يجد هؤلاء من غضاضة في إعادة النظر في تفسيرهم للقرآن الكريم بناء على ما توصلت إليه علوم الطبيعة عبر التجربة، فهم يدركون أنَّ التجربة من أدوات الحس ومصدر معرفي يمكننا من خلاله الوصول إلى اليقين، أما تفسيرنا للنص فهو اجتهاد في فهم النص المقدس، وهذا الاجتهاد عرضة للصواب والخطأ.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

المغرب يسترجع تماسيح من سويسرا

زنقة 20 | متابعة

أعلنت حديقة الحيوانات “كروكوبارك” أكادير، أنها ستستقبل 16 تمساحا من نوع “سوكوس” (suchus) من حديقة حيوانات “أكواتيس” (Aquatis) في لوزان.

وأفاد بلاغ لحديقة الحيوانات “كروكوبارك” أكادير بأن حديقة “أكواتيس” تعتبر حاليا “المكان الوحيد المعروف خارج إفريقيا الذي نجح رسميا في تربية هذا النوع”.

وأضاف المصدر ذاته أنه تم تصميم مساحة مخصصة ومجهزة داخل الحديقة من أجل راحة هذه المجموعة من التماسيح، حيث سيتم وضع صغارها هناك لفترة مقدرة في سنة للتكيف.

وأشار إلى أن “كروكوبارك” أكادير تبذل، بالتعاون مع السلطات المحلية، بما في ذلك الوكالة الوطنية للمياه والغابات وخبراء الحفاظ على الحياة البرية، “كل جهد ممكن لضمان نجاح هذه المبادرة لإعادة التوطين، استنادا إلى هذا النهج الجديد من الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة وهو تعاون يقوم على منظمة ثلاثية”.

وأكد البلاغ أن تواجد نسل “سوكوس” بكروكوبارك أكادير قد يساهم “يوما ما في العودة إلى طبيعتها، مما يساهم في استعادة النظام البيئي المحلي”، مبرزا أن هذه المبادرة تتجاوز إعادة توطين هذه الفصيلة من التماسيح، حيث تهدف أيضا إلى توعية الزوار بأهمية حماية الأنواع وموطنها الطبيعي.

وذكر بأن حديقة حيوانات “La tète d’or” المتواجدة في مدينة ليون قامت، في شتنبر 2022، بمنح زوج من التماسيح “سوكوس” لحديقة “كروكوبارك”، وهو نوع منقرض من واحات جنوب المغرب منذ الخمسينيات، وقد تكيفا تماما مع بيئتهما الجديدة وتم تقديمهما للزوار الذين يأخذون الوقت لمشاهدة هذا النوع الجميل.

وأشار إلى أن حديقة “كروكوبارك” تتبنى، منذ تأسيسها، عددا من المنهجيات والاستراتيجيات التي تساعدها في تحقيق رسالتها الرئيسة في صون الطبيعة، والحفاظ على التنوع البيولوجي بكافة أشكاله وجوانبه.

كما استضافت الحديقة، التي تعتبر أن التعليم والتوعية عنصران أساسيان لضمان تعايش متناغم بين الإنسان والحياة البرية، خلال سنة 2015 العديد من الفعاليات الثقافية والعلمية والفنية والبيئية، “مما يظهر التزامها بالحفاظ على الطبيعة”.

مقالات مشابهة

  • إسرائيل بين المعرفة الأكاديمية والمعرفة الإعلامية
  • غضب بيئي في السليمانية.. منظمات تطالب بحماية الطبيعة من الشركات
  • تحفهم السكينة ويحيطهم الأمان والخدمات كافة.. ضيوف الرحمن يتوافدون إلى صعيد عرفات لأداء ركن الحج الأعظم
  • المغرب يسترجع تماسيح من سويسرا
  • أستاذ علوم سياسية: البيان الختامي لقمة السبع ليس فيه جديد عن القضية الفلسطينية
  • أستاذ علوم سياسية: تضييق الغرب على روسيا سيؤثر على باقي دول العالم
  • برج السرطان: لا تهربي من الواقع.. توقعات الأبراج وحظك اليوم الجمعة 14 يونيو 2024
  • مكتبة محمد بن راشد تنشر 5 إصدارات علمية لمجموعة من الباحثين الإماراتيين
  • مكتبة محمد بن راشد: إطلاق 5 إصدارات جديدة من الرسائل العلمية
  • مصدر في "حزب الله" يكشف تفاصيل عن أكبر هجوم على إسرائيل منذ 8 أكتوبر