عن جذور العلاقات الأمريكية الصهيونية
تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT
د. هيثم مزاحم **
يختلف الباحثون في تفسير أسس العلاقة المميّزة بين إسرائيل والولايات المتحدة وأسبابها، وهي علاقة تتجلى في أشكال عدة من بينها: التعاون المكثّف على المستويين الحكومي والشعبي ولا سيما التعاون الإستراتيجي، والدعم الأمريكي السخي لإسرائيل في مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والتكنولوجية، وأيضًا الانحياز الأمريكي التام لإسرائيل في الموقف من القضية الفلسطينية والصراع العربي– الصهيوني.
وما نشهده من دعم أمريكي مطلق للعدوان البربري على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ نحو ثمانية أشهر يعجز الأمر عن تفسيره إلا باعتبار أن الطرفين هما طرف واحد ومصلحتهما الاستراتيجية واحدة ومنطلقاتهما الأيديولوجية واحدة.
ويمكننا تلخيص التفسيرات المختلفة للعلاقة المذكورة بما يلي:
1 – إسرائيل هي ذخر استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
2 – إسرائيل هي قاعدة إمبريالية أمريكية في المنطقة العربية.
3 – تقاطع المصالح الاستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
4 – الولايات المتحدة تشعر بالتزام ديني – أخلاقي تجاه الدولة اليهودية.
5 – اللوبي اليهودي الأمريكي قوي جدًا إلى درجة تجعله يملي السياسة الأمريكية الشرق أوسطية.
يذهب الباحث كميل منصور في كتابه "الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل: العروة الأوثق" إلى أن ثمّة تفسيرات مبسطة للعلاقة الخاصة بين إسرائيل وأمريكا تجعل من إسرائيل أداة طائعة في يد أمريكا أو تجعل من الإدارة الأمريكية خادمًا للوبي اليهودي. ويلاحظ أن ثمة زعمين جازمين ودقيقين هما: "لو أن دعم إسرائيل لا يخدم مصالح الولايات المتحدة، لكانت سياسة الأخيرة مختلفة في الشرق الأوسط، ولو أن اللوبي الإسرائيلي لم يكن بهذه القوة، لكانت سياسة الولايات المتحدة مختلفة أيضًا" لكن المشكلة– في رأي منصور– هي "أن هذين الزعميْن الجازميْن – الصحيحين لو أخذنا كلًا منهما على حدةٍ– يحجب أحدهما الآخر. إضافة إلى كونهما غير كافيين لأنهما يعجزان عن شرح كيف وإلى أي حدّ يؤثر اللوبي، أو المصالح الأمريكية، على سياسة الولايات المتحدة حيال إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط".
فمن أجل تحاشي الوقوع في تناقض هذين الزعمين، علينا أولًا البحث عن مكانة إسرائيل في العقيدة الاستراتيجية الأمريكية، ومن ثم تحديد مدى مصلحة الولايات المتحدة في روابطها المميّزة مع إسرائيل.
وعلى الباحث الذي يحلّل العلاقة الأمريكية– الإسرائيلية ألّا يعتبر السياسة الأمريكية بالضرورة سياسة عقلانية – نفعية (براجماتية) متماسكة منطقيًا، لا يشوبها الخطأ. وفي الواقع لا وجود لعقيدة استراتيجية أمريكية ثابتة ومحددة؛ بل هي تنشأ وتتبلوّر مع الوقت، وقد تخضع لتغيّرات تبعًا للمعطيات والظروف السائدة. كما أنها تتأثر بالدرجة الأولى بالآراء الخاصة لصانعي القرار، وبمواقف الشخصيات والهيئات السياسية والأكاديمية المقدّرة أراؤهم لدى النخبة الأمريكية الحاكمة.
وقبل تحديد مكانة إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، ينبغي الرجوع قليلًا إلى بداية العلاقة الأمريكية– الإسرائيلية لإدراك الأسس التي قامت عليها والبحث في دوام صلاحيتها راهنًا.
جذور العلاقة الأمريكية – الإسرائيلية
تعود العلاقات الأمريكية– الصهيونية إلى ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948؛ أي إلى بداية القرن التاسع عشر؛ حيث أدّت الحركات البروتستانتية البيوريتانية (التطّهرية Puritanians) دورًا كبيرًا في تهيئة الأرضية الملائمة لنشاط الحركة الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة. وتدعو هذه الحركات– التي أطلق عليها البعض تسمية "الصهيونية المسيحية" أو "الصهيونية غير اليهودية"– إلى إعادة توطين اليهود في فلسطين وبناء وطن قومي لهم فيها لاستعادة "مملكة إسرائيل لكي تظهر مملكة المسيح، لأن تلك نبوءة تسبق العودة الثانية للمسيح المُنتظر".
وقد جرى تسييس هذه الرؤية الدينية بحيث اعتُبرت إسرائيل الواردة في العهد القديم، هي إسرائيل الواجب إنشاؤها في فلسطين، وهكذا بدأت الحركات البيوريتانية بتعبئة الرأي العام الأمريكي بهذه المعتقدات الصهيونية وجرت عملية استعارة للأسماء العبرية وأطلقت على أبنائهم ومستوطناتهم الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية.
واعتبر البيوريتانيون أنفسهم "العبرانيين الحقيقيين" وسمّوا أنفسهم "أطفال إسرائيل في طريقهم إلى الأرض الموعودة"، ثم قاموا بإرسال بعثات استكشاف إلى فلسطين، ثم بدأوا بإقامة المستوطنات اليهودية الأولى فيها، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وكان الرئيس الأمريكي جون آدامز (1767– 1848) قد دعا إلى استعادة اليهود وطنهم، في رسالته إلى صديقه الكاتب اليهودي مانويل نوح عام 1818، وقال فيها: "أتمنى أن أرى ثانيةً أمة يهودية مستقلة في يَهوُدا" (قسم من الضفة الغربية). وقد بذل القس وليام بلاكستون جهودًا كبيرة من أجل الحركة الصهيونية؛ إذ أسس عام 1887 في شيكاغو منظمة سمّاها "البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل" اعتُبِرَت أول "لوبي" (مجموعة ضغط) لمصلحة الصهيونية السياسية. ولعل أبرز نشاطات بلاكستون قيامه بجمع تواقيع نحو 413 شخصية أمريكية على عريضة قُدمت إلى الرئيس الأمريكي بنجامين هاريسون في 5 مارس 1891، طالبت الرئيس باستخدام نفوذه لتحقيق مطالب الإسرائيليين بفلسطين كوطنٍ لهم.
جرى ذلك قبل نشوء الحركة الصهيونية، عام 1897، بأكثر من ست سنوات، في موازاة ذلك، قام دبلوماسيون أمريكيون في الشرق الأوسط بحض الحكومة العثمانية على توطين اليهود في فلسطين. ويُعتبر الرئيس الأمريكي ولسون أحد أكثر الرؤساء تأثرًا بالصهيونية نظرًا لتربيته المسيحية الإنجيلية؛ حيث كان يرى أنه يتوجب عليه تحقيق "رغبة الرب" في إعادة الأرض المقدسة إلى شعبها اليهودي، ومن هنا كان تأييده الكامل لـ"وعد بلفور" الذي نص على إعطاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين.
وفي عام 1922، صادقت الحكومة والكونجرس الأمريكيان بصورة نهائية على "وعد بلفور"، كما قامت الحركات المسيحية الصهيونية بإنشاء منظمات ولجان مهمتها "الدفاع عن قضية الوطن القومي اليهودي"، فتولّت التنسيق مع المنظمات الصهيونية اليهودية الأمريكية في ممارسة الضغوط السياسية على الإدارة الأمريكية من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين، وأثمرت هذه الضغوط عن موافقة الرئيس الأمريكي هاري ترومان على خطة تقسيم فلسطين، في خطبته الشهيرة في الرابع من أكتوبر 1946.
في الحلقة المقبلة، سنتحدث عن المعارضة الأمريكية داخل وزارة الخارجية لقيام إسرائيل، وكيف تحوَّل الموقف الأمريكي إلى تجاوز هذه المعارضة.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية ببيروت
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل تنجرف الولايات المتحدة نحو حرب ضد الصين بسبب تايوان؟
أصبحت تايوان على ما يبدو في الآونة الأخيرة أكثر جدية بشأن الدفاع عن نفسها، بعد أن مددت فترة التجنيد الإجباري إلى عام كامل وزادت ميزانيتها الدفاعية لشراء طائرات مسيّرة وصواريخ مضادة للسفن، وتحول تركيزها طويل الأمد من الأسلحة الثقيلة وأساليب الحرب التقليدية إلى الإستراتيجيات الدفاعية الأكثر تنوعا وتطورا.
ويخشى المحللون العسكريون من أن تتمكن الصين من غزو تايوان بحلول عام 2027 على أقرب تقدير. وفي حال اندلعت الحرب، فإن أمل تايوان وتوقعها هو أن تدخل الولايات المتحدة المعركة إلى جانبها، بينما تشير محاكاة الحرب إلى اندلاع قتال مكلف وخسائر كبيرة، بما فيها شبح التصعيد المحتمل إلى حرب نووية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الهويات الخائفة وسرديات المظلومية.. دراسة لجذور العنف في سورياlist 2 of 2قارة غنية مستغلة.. أفريقيا بين فرص الشراكة وتحديات المكانةend of listوفي تحليل نشرته مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية، تساءل رامون ماركس المحامي الدولي المتقاعد ونائب رئيس مؤسسة "رؤساء تنفيذيون من أجل الأمن القومي" عمّا إذا كانت الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان أم لا؟ في حال اندلعت شرارة حرب تتدرب من أجلها القيادة الأميركية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما يتوافق مع متطلبات قانون العلاقات مع تايوان، الذي يتطلب مثل هذا التخطيط لحالات الطوارئ.
قرار الرئيس لا يكفيوقد صرح الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عدة مرات بأن الولايات المتحدة ستدافع عن الجزيرة في حال تعرضها لهجوم من الصين.
وبموجب المادة الثانية من القسم الثاني من الدستور، يمتلك الرئيس السلطة -بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة- لإصدار الأمر باستخدام القوة العسكرية ردا على أي هجوم.
ومع ذلك، فإن هذه السلطة التنفيذية غير كافية لمنح الرئيس صلاحية أحادية لإعلان تحالف دفاعي مع تايوان دون مشاركة إضافية من الكونغرس، كما ينص على ذلك، ليس فقط الدستور ولكن أيضا قانون صلاحيات الحرب.
وأوضح ماركس أن الولايات المتحدة لم تبرم أي معاهدة عسكرية مع تايوان، ولا يلزم قانون العلاقات مع تايوان أو أي قانون اتحادي آخر الولايات المتحدة بالدفاع عنها.
إعلانويقتصر قانون العلاقات مع تايوان على إلزام الولايات المتحدة "بالحفاظ على القدرة على مقاومة أي لجوء إلى القوة أو غيرها من أشكال الإكراه التي يمكن أن تعرض أمن شعب تايوان أو نظامها الاجتماعي أو الاقتصادي للخطر".
ولم يصدر الكونغرس في أي وقت مضى قرارا يدعو إلى الدفاع عن تايوان، بينما تظهر عدة استطلاعات رأي في الولايات المتحدة عدم تأييد قتال واشنطن من أجل تايبيه، وتفضيل الوضع الغامض الراهن بدلا من ذلك، رغم أن واشنطن وبكين لا تزالان عالقتين في انزلاق خطِر نحو الحرب.
ويرى ماركس أن الولايات المتحدة يمكن أن تنزلق إلى الحرب في ظل سيناريوهات متعددة، مع قيام السفن الحربية والطائرات الأميركية بدوريات منتظمة في المياه القريبة من تايوان، ما قد يدفع نحو صراع كبير مع القوات البحرية الصينية فجأة.
وكتب الأدميرال جيمس ستافريديس وإليوت أكرمان رواية عن أن حادثا بحريا واحدا في بحر الصين الجنوبي يمكن أن يتصاعد إلى حرب نووية مع الصين، وإذا فرضت الصين حصارا على تايوان، فقد ينتهي الأمر بالولايات المتحدة بسهولة إلى قتال إن أمر رئيس البحرية الأميركية بمرافقة السفن التجارية المارة عبر الخطوط البحرية الصينية.
ويقول ماركس، إن الوضع الذي تواجهه واشنطن في تايوان غير مسبوق، فعلى عكس جميع صراعاتها العسكرية السابقة منذ الحرب العالمية الثانية، ستواجه الولايات المتحدة هذه المرة قوة نووية من أجل الدفاع عن دولة لا توجد لدى واشنطن أي التزامات دفاعية تجاهها.
الكونغرس والشرعية الدوليةوعندما خاضت الولايات المتحدة الحرب في كوريا عام 1950، فعلت ذلك بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي، وخاضت حرب فيتنام بموجب قرار خليج تونكين الذي أصدره الكونغرس عام 1964، وشنت حرب الخليج عام 1990 بموجب قانون أقره الكونغرس، وهو التفويض باستخدام القوة العسكرية، كما شنت حملتي البوسنة وكوسوفو تحت مظلة قرارات مختلفة للأمم المتحدة.
وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، سمح قانون صادر عن الكونغرس بالتدخل العسكري الأميركي في أفغانستان والحرب على ما سُمي بـ"الإرهاب"، والتفويض باستخدام القوة العسكرية عام 2001 ، كما خاضت الولايات المتحدة حرب العراق بموجب قرار التفويض باستخدام القوة العسكرية ضد العراق عام 2002 ولم تكن أي من هذه الدول قوى نووية.
وإذا أطلقت الصين النار على سفن البحرية الأميركية، فإن الرئيس مُخوّل بصفته القائد الأعلى للرد بسرعة، وبإمكانه أن يأمر القوات المسلحة باتخاذ إجراء، بما فيها توجيه ضربات تصعيدية محتملة، مع مراعاة المزيد من التشاور مع الكونغرس بموجب أحكام قانون صلاحيات الحرب.
وقال ماركس إن تفاهم بكين وواشنطن بشأن وضع تايوان يرجع إلى عام 1972 وبيان شنغهاي، حين اعترف الجانبان أن "جميع الصينيين على جانبي مضيق تايوان يؤكدان وجود صين واحدة، وأن تايوان جزء من الصين"؛ وعقب إصدار البيان، اعترفت الولايات المتحدة دبلوماسيا بجمهورية الصين الشعبية وأغلقت سفارتها في تايوان، ثم أقر الكونغرس قانون العلاقات مع تايوان، الذي حدد الإطار القانوني لعلاقة واشنطن الجديدة مع تايبيه.
إعلانويرى ماركس أن الولايات المتحدة تواجه وضعا حساسا، حيث إن هدفها هو ردع الصين عن مهاجمة تايوان، وإبداء نوع من الاستعداد للدفاع عن تايبيه -وإن كان غامضا- يدعم هذا الهدف، لكنه يجب أن يكون ضمن حدود، لأن تزويد تايوان بالأسلحة العسكرية لدعم وضعها كمنطقة تتمتع بحكم ذاتي أمر، وإلزام الولايات المتحدة مسبقا بخوض حرب مع الصين إذا هاجمت تايوان أمر آخر، فسلطة الرئيس الدستورية هنا ليست بلا حدود.
ويعد الاستناد إلى دور الرئيس في إدارة الشؤون الخارجية بصفته القائد الأعلى سندا قانونيا ضعيفا للغاية إذا ما تعلق الأمربالتعهد بالدفاع عن تايبيه، ويتطلب الدستور أن يكون للكونغرس رأي في الأمر، واعتبر ماركس أن الرئيس بايدن تجاوز الحدود عندما تعهد بشكل متكرر بأن تدافع الولايات المتحدة عن تايوان إذا تعرضت لهجوم من الصين، وهي تعهدات تراجع عنها مساعدوه لاحقا.
ومن الجدير ذكره، أن الولايات المتحدة أبرمت معاهدات دفاعية أقرها مجلس الشيوخ مع كل من اليابان والفلبين، بينما سيكون من الصعب سياسيا الحصول على دعم رسمي من الكونغرس للقتال من أجل تايوان، ومع ذلك فإن الأمر لا يعد مبررا للسماح للرئيس بتجاوز الكونغرس.