بداية نطرح سؤالا قد يكون مهما على الأقل من وجهة نظرى المتواضعة، وقد يتفق معى البعض وقد يختلف بعض آخر، لكن الاتفاق والاختلاف سنة كونية مقبولة.
السؤال: هل العقل العربى عقل بائس أصابه الفقر والعوز؟!
هل عقولنا العربية يستهان بها.؟!
هل العقل العربى الذى أنجب عمالقة الفكر الذين ملأوا الدنيا فكرا إن تنظيرا أو عمليا أو فلسفيا أو دينيا، هل هذه العقول بائسة فقيرة أصابها التحجر والركود وأصابتها التبعية البغيضة، ومن ثم يستهان بها ويحقر من شأنها.
هل عقل الكندى والفارابى وابن سينا والغزالى والعامرى ومسكوية وأبوبكر بن العربى ومحى الدين بن عربى وشيخ الاشراق السهروردى المقتول وابن باجه وابن طفيل وابن مسرة وابن جبيرول وموسى بن ميمون وابن طفيل وابن رشد والمؤتمن بن العسال، ورواد الفكر العربى الحديث الطهطاوى، محمد عبده، وعبدالله بن النديم واشكيب أرسلان ومالك بن نبى، وقاسم أمين.
وأئمة الفكر المعاصر نصر أبوزيد، وحسن حنفى، وعاطف العراقى وزكى نجيب محمود وأمين الخولى ويمنى الخولى وتوفيق الطويل وناجى التكريتى وباسل مولود التكريتى، ومن قبل هؤلاء ملك حفنى ناصف. وطه عبد الرحمن ومطاع صفدى
أليس كل هؤلاء أصحاب مشاريع حضارية مبانيها جميعا على العقل، هل عقول هؤلاء نصفها بالبؤس ونحقر من شأنها.؟! هل عقول هؤلاء فقيرة لم تنتج فكرا؟!
هل كتابنا المعتبرون أولئك الذين يملأون الدنيا فكرا وتملأ كتاباتهم الأفق، هل يليق بنا ونحن أبناء القرن الحادى والعشرين، قرن التقدم التقنى والذكاء الاصطناعى والسموات المفتوحة، هل يليق بنا أن نصف عقول هؤلاء بالبؤس؟!
هل الذوبان فى الفكر الحداثى وما بعده والتأثر بالحضارة الغربية التى فى الأساس أسست دعائمها وركائزها على الحضارة العربية والعقل العربى فى شتى مجالات المعرفة ؟!
هل وصلت بنا الأوربة والتغريب إلى حد وصف عقولنا العربية المفكرة بالبؤس .
هل عقلنا العربى يرفض الحداثة والمعاصرة، هل نرفض التقدم التقنى، هل نرفض المواكبة، من يدعى علينا ذلك فليس منا أو على الأقل هو عربى النسب والأصل لكنه تنصل من عروبته ورمى نفسه مستغرقا بالكلية فى الآخر الغربى منبهرا بما شاهده من تقدم مادى، لكن ألم يسأل نفسه، هل هؤلاء أحدثوا تقدما لو بنسبة واحد فى المائة، تقدما روحيا، لماذا يشعر دوما هؤلاء بالقلق الوجود والانهيار القيمى، لماذا يولون وجوههم شطر قبلتنا العربية.
بماذا يوجهون حملاتهم الاستشراقية ناحيتنا، لماذا ترجموا مؤلفاتنا إلى لغاتهم المختلفة، لماذا يناصبوننا العداء دوما ؟!، لماذا يبذلون كل جهدهم وجهودهم فى الكيد للعرب والمسلمين ؟!
لأن عقلنا العربى تفوق عليهم حتى مع آلاتهم الجبارة وتكنولوجياتهم المتقدمة تفوقنا عليهم ومعى دليل على ذلك، استقطاب العلماء واستقدامهم إلى بلدانهم واغرائهم بالاموال الطائلة، لأنهم يعلمون علم اليقين أن العقل العربى إذا ما وظف توظيفا صحيحاً فحدث ولا حرج.
نعم نحن لا ننكر أن عقلنا العربى تعرض لكبوات على مر تاريخ العقلانية العربية نتيجة لظروف منها الاضطهاد الدينى وسيطرة الساسة والحكام على العقول والتضييق على الحريات مما أدى إلى تقوقع هذا العقل على ذاته، لكن ما أن تخمد جذوته إلا أن يأبى أن يعود من جديد مستنفرا الهمم بكل همة مجددا شبابه وهكذا.
لكن أن نقول عقلنا العربى بائس فهو ليس بائسا وإنما من الممكن أن نقول هو أصابه بعض اليأس لماذا ؟!، لأنه كلما يظهر فكر جديد تجد من يحاول وأده فى مهده من أنصار الكلاسيكية التقليدية التى جل اهتمامها التشبث بالماضى، نحن لا نرفض الأصالة وإنما نوظفها توظيفا جيدا للانطلاق منها إلى الحداثة والمعاصرة.
العقل العربي.فإنه لا بأى أحد أن يستهين بعقولنا العربية، ليست العربية وحسب، بل بكل العقول، لماذا لأن العقل هبة إلهية، وما يكون ذلك فلا يمكن احتقاره أو الاستهانة به.
أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (1 من 3)
في هذا الملف الخاص، نقدم للقراء رحلة فكرية وثقافية استثنائية، تبدأ من قلب أوروبا، مرورًا بآسيا، وصولًا إلى قلب العالم الإسلامي في القاهرة. النص الذي بين أيدينا اليوم هو الجزء الأول من ورقة ثلاثية ينشرها الكاتب جمال سلطان على "عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحته الشخصية على منصة فيسبوك، ليسرد قصة المفكر الإسلامي الذي اتهمه الأزهر بالجاسوسية، قبل أن تتكشف الحقيقة لاحقًا ويكرمه العلم والأدب الإسلامي.
تُظهر هذه السيرة كيف يمكن للمعرفة والثقافة والبحث الصادق أن تحوّل حياة الإنسان، وكيف أن التماس الجوانب الإنسانية والدينية والفكرية في الحضارات المختلفة يمكن أن يقود إلى تحولات روحية عميقة، رغم كل العراقيل والشبهات التي قد تواجه الباحث المستقل.
الجزء الأول يروي نشأة الباحث المجري "جيولا يوليوس جرمانوس"، مساره الأكاديمي، اهتمامه باللغات الشرقية، أولى لقاءاته بالإسلام، وهجرته الفكرية من بودابست إلى إسطنبول، ثم الهند، وصولًا إلى مصر والأزهر الشريف، حيث بدأت رحلة اختبار وفهم الإسلام على أرض الواقع، قبل أن يواجه اتهامات بالعمالة والجاسوسية.
هذه الورقة ليست مجرد سيرة، بل قراءة في التلاقح بين الفكر الأوروبي والإسلامي، وتجربة فردية تتحول إلى درس عام في الانفتاح، والبحث، والتسامح، وحماية الحقائق العلمية من الأوهام السياسية والاجتماعية.
البداية من بودابست
في العام 1884 ولد في العاصمة المجرية "بودابست" الطفل "جيولا يوليوس جرمانوس"، من أسرة مسيحية متدينة، أمضى فترة تعليمه بتفوق حتى تخرجه من الجامعة المجرية في العام 1903، فقررت الجامعة إرساله في بعثة "منحة" إلى إسطنبول لدراسة اللغة التركية، وحيث تتصل المجر ثقافيا وحضاريا بالدولة العثمانية على امتداد حقبة كبيرة من التاريخ، بل إنها لسنوات طويلة كانت جزءا من الدولة العثمانية، وما زالت حتى اليوم الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية قوية بين تركيا والمجر.
استطاع "جرمانوس"، بشخصيته الجادة والمحبة للعلم، أن يحذق اللغة التركية القديمة "العثمانية" في عامين، قراءة وكتابة ومحادثة، وكانت إسطنبول في تلك الفترة تعج بالحركات السياسية والتنظيمات المتمردة على السلطان عبد الحميد، فتواصل الشاب "جرمانوس" مع نشطاء في حركة "تركيا الفتاة" المعارضة من باب الاستطلاع ومعرفة ما يجري، وتم رصد اتصالاته، فألقي القبض عليه بتهمة التآمر، إلا أن الحكومة النمساوية ـ من خلال قنصلها العام في إسطنبول ـ تدخلت لدى الباب العالي، فتم العفو عنه وترحيله إلى بلاده، حيث كانت النمسا في ذلك الوقت تعتبر من حلفاء الدولة العثمانية وتحتفظ بعلاقات طيبة مع السلطان عبد الحميد خان.
في إسطنبول قرأ "جرمانوس" تفسيرا للقرآن الكريم باللغة التركية، فكان أول تماس له مع الإسلام من خلال نصوص أهله، وليس من خلال جهود المستشرقين الأوربيين، مثل أستاذه المستشرق الشهير"جولد تسيهر" الذين اعتادوا الطعن في الإسلام وتقديم صورة مشوهة عنه، حكاها هو بالتفاصيل بعد ذلك، وكان اطلاعه على القرآن شعاعا فكريا لازمه بعد ذلك عشرات السنين وانتهى به إلى الهداية إلى دين الإسلام.
التحول الثقافي والمعرفي الذي ولد معه في إسطنبول، دفع الباحث الشاب إلى الاهتمام بشكل كبير بتعلم اللغتين: الفارسية والعربية، لكي يتعرف أكثر على الثقافة الإسلامية، واعتمد في تعلم العربية بشكل خاص على نفسه، من خلال المعاجم المتوفرة، فاستطاع القراءة في العربية، دون تبحر في معرفة قواعد النحو والصرف والبلاغة وغيرها، لكن المسؤولين عن التعليم اهتموا بتطوره العلمي وقرروا تكليفه بتدريس اللغات الشرقية في معهد عال متخصص في آداب الشرق، ثم انتقل إلى الجامعة في بودابست في العام 1912، أستاذا للغات الشرقية : العربية والفارسية والتركية، ثم رئيسا لهذا القسم حتى تقاعده بعد أربعين سنة، وحظي باحترام ومكانة كبيرة في بلده بعد جهوده الضخمة في الترجمة من العربية إلى المجرية والعكس، حتى أن الجامعة أوجدت "كرسيا" باسمه في الجامعة.
أول صدمة له في مصر، أنه عندما كان يحدث عمال الميناء المصريين باللغة العربية الفصحى كانوا يضحكون منه، ويحدثونه باللهجة العامية، وبعض تعليقاتهم كانت تحمل سخرية، مما أثر في نفسيته، وكتب إلى زوجته رسالة يقول فيها أنه كان يخشى أن يسخر منه أهل مصر لضعف لغته العربية، ففوجئ بأنهم يسخرون من اللغة نفسها. في تلك الأوقات كان الباحث المجري الشاب تغشاه رؤى أثناء نومه تثير دهشته، حكاها في مذكراته وكتبه تصله بأجواء الشرق المسلم، كما كانت تنتابه موجات شوق شديدة لزيارة مكة ورؤية البيت الحرام الذي اطلع على صور نادرة له في مناسبك الحج، حتى أرسل له شاعر الهند الكبير "طاغور" دعوة لزيارة الهند وتدريس مادة "الحضارة" في جامعاتها، فسافر إلى هناك عام 1929 وبقي فيها ثلاث سنوات يتنقل بين مدن : دلهي ولاهور وحيد آباد، يتعمق أكثر في قراءاته حول الإسلام، ويخالط طبقات المجتمع الهندي المسلم كلها، وخاصة الفقراء منهم، فتأثر بشدة من اعتزازهم بدينهم، ومحافظتهم عليه، وطيب قلوبهم وكرمهم، رغم فقرهم الشديد، وعيشهم في أكواخ من القش، وكان إذا زار بعضهم يضيفونه بكرم وحب كبيرين رغم أنه غريب وغير مسلم.
لحظة من لحظات الإشراق
حتى كان يوم جمعة ذهب إلى مسجد "دلهي" الكبير، ثم استقبل المصلين وأعلن إسلامه أمامهم ، ونطق بالشهادتين نطقا عربيا مبينا، ثم اعتلى المنبر فخطب فيهم، فلما نزل داهمته حشود من البشر ـ كما يحكي في مذكراته ـ، من يحتضنه، ومن يقبله ، ومن يقبل رأسه، ومن يقبل ثيابه، وهي موجة من الفرح والنشوة العارمة بهدايته إلى الإسلام هزت أركانه، ووصفها وصفا بليغا في كتابه "الله أكبر"، واختار لنفسه اسم "عبد الكريم"، وأصبح "عبد الكريم جرمانوس"، وعندما سألوه عن أسباب هدايته للإسلام قال: "هي لحظة من لحظات الإشراق، لأن الإسلام دين الذهن المستنير، وإن أصحاب التفكير الحر ليجدون في هذا الدين السمح، عقيدة وشريعة ما يستولي على الإعجاب، وما يهدي إلى الإقناع، وعندي أنه سيكون معتقد الأحرار كلما تخلصوا من ربقة النشأة، ووطأة التقليد، وأنا أعرف كثيراً من المستنيرين يجلون الإسلام ديناً، ويكنون في سرائرهم إيماناً وإذعاناً".
في الرحلة الهندية تعرف على شاعر الهند الإسلامي الكبير ـ قبل انفصال باكستان ـ محمد إقبال، وجرت بينهما مسامرات ومحاورات عن أحوال المسلمين، وكان لقاؤه بإقبال من المعالم التي أثرت فيه بعمق، وصفها بأنها أسعد أوقات حياته، لشفافية الشاعر الكبير وعمق ثقافته وحبه العارم لدينه وحنانه على أمة الإسلام.
قضى "عبد الكريم" في الهند ثلاث سنوات مترعة بالحركة والدراسة والتدريس، حتى رغب في أن يذهب إلى مصر لتعلم اللغة العربية بعمق في الأزهر الشريف، فسافر ونزل من سفينته في الإسكندرية، ويحكي عن أول صدمة له في مصر، أنه عندما كان يحدث عمال الميناء المصريين باللغة العربية الفصحى كانوا يضحكون منه، ويحدثونه باللهجة العامية، وبعض تعليقاتهم كانت تحمل سخرية، مما أثر في نفسيته، وكتب إلى زوجته رسالة يقول فيها أنه كان يخشى أن يسخر منه أهل مصر لضعف لغته العربية، ففوجئ بأنهم يسخرون من اللغة نفسها.
حظي وجوده في القاهرة باحتفاء عدد كبير من الأدباء والكتاب، وكان للطفه ودماثة أخلاقه سريع الوصول إلى صداقات الناس، والتقى بالعديد من وجوه النخبة المصرية وقتها، مثل عبد الوهاب النجار وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وإبراهيم المازني، ومحمود تيمور، ومحمد رجب البيومي وغيرهم، والتحق بالأزهر لبدء الدراسة، فاحتفى عدد من طلبة العلم بهذا "المجري" الأشقر الذي أتى للتزود بالعلم في الأزهر الشريف، إلا أن بعض مرضى النفوس أطلقوا الشائعات حوله، وسربوا لبعض المشايخ أن هذا الرجل إنما هو جاسوس أجنبي يستبطن الإلحاد ويظهر الإسلام وينبغي الحذر منه وإبعاده عن الأزهر، والمؤسف أن شيخ الأزهر وقتها الشيخ الظواهري اقتنع بكلامهم، وطرد عبد الكريم من الأزهر على خلفية اتهامه بالجاسوسية.
وبعد فترة من الوقت تكشفت الحقائق لشيخ الأزهر، وأدركوا خطأ ما فعلوه، فاعتذروا له، وقربوه منهم، وقرروا منحه عضوية مجمع البحوث الإسلامية، أرفع مؤسسة علمية بالأزهر بعد هيئة كبار العلماء، وظلت عضويته فيه قائمة حتى وفاته.
ونستكمل الحديث غدا بإذن الله ...