كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (18)
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
تحقيق: ناصر أبوعون
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(إِلَّا أَنَّ وَقَفْنَا عَلَى أَنَّ مُلُوْكِ ظَفَارِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ لِلْهِجْرَةِ هُمُ الْمُنْجَوِيُّوْنَ؛ وَكَانَ آخِرُهُمُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُنْجَوِيُّ؛ وَكَانَ هَذَا سُلْطَانًا فَاضِلًا فِيْمَا يُرْوَى عَنْهُ، وَفِي أَيَّامِ هَذَا السُّلْطَانِ وَفَدَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَيٍّ الْقَلْعِيِّ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ عَالِمًا جَلِيْلًا، وَكَانَ أَهْلُ ظَفَارِ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَذْهَبِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَبَثَّ هَذَا الشَّيْخُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيّ مُحَمَّدِ بْنُ إِدْرِيْسَ فَتَبِعَهُ جَمِيْعُ أَهْلِ ظَفَارِ فَصَارُوا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَافِعِيَّةً إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَمَاتَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ الْمُنْجَوِيّ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَحَدًا، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُنْجَوِيينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُم بِمَذْحِج مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيْقَةِ ذَلِكَ.)]
*****
المنجويون دُعاة لا غُزاة
- قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(إِلَّا أَنَّ وَقَفْنَا عَلَى أَنَّ مُلُوْكِ ظَفَارِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ لِلْهِجْرَةِ هُمُ الْمُنْجَوِيُّوْنَ)].
- في قول الشيخ الطائيّ [(وَقَفْنَا عَلَى أَنَّ)]؛ معنيان يعضِّد كل واحد منهما الآخر: أمّا الأول فهو بمعنى: اطّلع عليه وعاينه، ومنه قول المُهَلهَل التّغلبيّ مخاطبا أخاه كُليبًا حين اتهمه أنه لن يثأر له إن قُتِل:(وَقَفْتَ عَلَى ثِنْتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا دَمٌ// وأُخْرَى بِهَا مِنَّا تُحَزُّ الغَلَاصِمُ)(01)
وأمَّا المعنى الثاني، فهو بمعنى: سأل عنه ووقف عليه بالتدبُّر، ومنه قول عبد الرحمن القاسم العَتَقِيّ:" وَإِنَّمَا وَقَفْنَا مَالِكًا عَلَى الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ فِي الإِيْلَاءِ"(02)
- وفي قول الشيخ الطائيّ: [(الْقَرْنِ الْخَامِسِ لِلْهِجْرَةِ)]؛ قصد به القصر وتحديد الفترة الزمنيّة و"يشكّل القرن الخامس الهجريّ – الحادي عشر الميلاديّ عشر الميلاديّ نقطة تحوّل خطيرة في التاريخ الإسلاميّ؛ ففيه تراكمت كل سلبيات نُظم الحكم السابقة وتركت ثمارها (المُرّة) في جميع مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والقوى العسكريّ، وكان بذلك قاعدة الارتكاز التي استندت إليها معظم حالات الانهيار والتفسخ، وشهدت هذه الفترة ابتعاد الأمة عن مركز الانطلاق، مكانًا، وزمانًا وثقافةً، وسلوكًا، وبمحاولات التشويه والتحريف والالتفاف على النصوص، ووضع الأحاديث والأخبار لأغراض سياسية، فتفرقّت الأمة أحزابًا، ومِللًا، ونِحَلًا، وأخذت كل طائفة من الكِتاب والسُّنة تأويلا يخدم أهدافها، فأدى ذلك كله إلى الانشقاق في السلطة السياسية المركزيّة، وانفرط عقد الدولة الإسلامية الواحدة، وأخذت تظهر في أطراف الدولة الأمويّة ثم العباسيّة بعدها دويلات مستقلة؛ فظهرت في الشرق الإسلاميّ الدولة الطاهرية بخراسان (205هـ -820م)، والدولة الصفاريّة بفارس (254هـ - 868م)، والدولة السامانية بفارس، وما وراء النهر (261هـ - 874م)، الدولة البويهية (320هـ - 932م)، والدولة الغزونيّة بأفغانستان والهند (366هـ - 976م)"(03)
- وقول الطائيّ: [(الْمُنْجَوِيُّوْنَ)]؛ فيه تخصيص وإشارة إلى الأسرة الحاكمة التي وفدت من اليمن وحكمت (ظَفار)، وقد ذكر صاحب حاشية مخطوط (صورة الأرض) لابن حوقل "أن (السلطان أحمدُ بن محمد بن منجوه) كان حاكمًا على بلاد الشحر سنة 540هـ ودار ملكه بـ(مرباط) وله أيضا مدينة ظَفار وتبعد مسيرة يوم ونصف من مرباط"، ثم ورث حكم ظفار من بعده ابنه (محمد).ويعتقد الباحث في التاريخ اليمني صالح الحامد في كتابه (تاريخ حضرموت) "باحتمال ظهور الدولة المنجوية قبل ذلك التاريخ حاكمين لظفار بالولاية والإنابة عن الفرس"، و"كانت ظَفار حتى نهاية القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي تحت الولاية الخاصة لآل منجويّ، وكانت مدينة مرباط مقر حكمهم وعاصمة دولتهم التي امتدت إلى أطراف حضرموت الشرقية" وهذه الأسرة "تركت مؤثراتها العميقة على عقول ووجدان سكان المنطقة على خلاف أغلب الغزاة (س.ب. مايلز43)"، وسرُّ ذلك التأثير في حقيقته نتيجة مباشرة لكونهم جاءوا إلى ظفار دعاة وليسوا غُزاة"وعُرف المنجويون بتشجيع العلماء وتجارة الخيل واللبان، واستمرت دولتهم ثلاثة قرون إلى مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي عندما انتهت على يد الحبوظيون"(04)
يُسمَع القرآن من قبور المنجويين
- قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَكَانَ آخِرُهُمُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُنْجَوِيُّ؛ وَكَانَ هَذَا سُلْطَانًا فَاضِلًا فِيْمَا يُرْوَى عَنْهُ، وَفِي أَيَّامِ هَذَا السُّلْطَانِ وَفَدَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَيٍّ الْقَلْعِيِّ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ عَالِمًا جَلِيْلًا)]
- وقول الشيخ الطائيّ: [(السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُنْجَوِيُّ)]؛ يقصد به الملك الثالث من المنجويين، وآخر من استملك على ظَفار منهم وانقطع نسله بموته، وهو(السلطان الأكحل محمد بن محمد بن أحمد المنجويّ)، وهو آخر سلاطين المنجويين وقد أدرك السلطانُ الثالثُ الإمامَ القلعيّ في أربع سنين من ولايته، وكان يلقَّبُ بالأكحل، وقال عنه الشيخ الطائيّ: [(وَكَانَ هَذَا سُلْطَانًا فَاضِلًا فِيْمَا يُرْوَى عَنْهُ)]، ووالده السلطان محمد بن أحمد المنجويّ (الحاكم الأوسط) لـ(ظَفار)، من بيت يُقالُ لهم: (آل بُلُخْ) بضم الباء الموحدة واللام وسكون الخاء، ونسبُهم من (مِذْحَج)، ومدحه الشاعر التكريتي في قصيدة مطوّلة سمّاه فيها وذكر مناقبه ومن أبياتها: (قُلْتُ هَذَا مِنْكُمُ سَرَفٌ// أَيُقَاسُ الْكُحْلُ بِـ(الْكَحَلِ)؟!)
ووالده (السلطان محمد) يكاد يكون الملك الوحيد في سائر العصور وعموم الأرض الذي خرج تواضعًا وتقديرا من قصره لملاقاة الفقيه محمد بن علي القلعيّ، وحضّه على البقاء في (ظَفار) وقلّده القضاء، وقد ذكر بعض الثقاة أنّه كثيرا ما يُسمع من قبور(سلاطين المنجويَين) قراءة القرآن"(05).
القلعيّ إمام الشافعية في ظَفار
-[(وَفَدَ)]، ومعناه في العربية الخالصة قَدِمَ على ذي سُلطانٍ ونحوه، وشاهدُه في قول، خَمْعة بنت الخُسِّ الإياديّة، وقد سُئِلَت عن أحبِّ الرِّجالِ إليها؟ فَقَالتْ: "الْقَرِيْبُ الأَمَدْ، الْوَاسِعُ الْبَلَدْ، الَّذِي يُوْفَدُ إِلَيْهِ وَلَا يَفِد"(06)
- [الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَيٍّ الْقَلْعِيِّ)]، وهو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي خالع قسم بن علوي بن محمد بن علوي بن عبيد الله بن أحمد المهاجر، بن عيسى بن محمد النقيب بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- الذي هو زوج فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.
وُلِد القلعي في بيت (جبير) ثم تحوّل مع أبيه وعمّه، وبني عمومته إلى (تريم) سنة 521هـ، من أمٍّ علويه النسب، وهي فاطمة بنت الشيخ محمد بن علي ابن جديد. ومن شيوخه: العلّامة سالم بافضل، والإمام سالم بن بصرى، والشيخ العلامة علي بن إبراهيم الخطيب، وكان له الفضل في انتشار المذهب الشافعيّ في أرض (المهرة)، وما حولها، وتوفي في مرباط سنة 556هـ "(07).
و"نشأَ الإمامُ القلَعي نشأةً علميةً بمدينةِ زبيد من تهامة اليمن، واستقرَّ بها للعلم - تحملًا وأداءً – وكانت زبيدُ في زمن إقامةِ الإمام القلعي تعدُّ مركزًا من مراكز الشافعيةِ، يؤمها طلبةُ العلم. ومن تلاميذه الظفاريين:"الشيخُ سعدُ الدين محمدُ بنُ علي الظَّفاري الملقب بـ(تاج العارفين)، تلقَّى الفقه على يد الإمامِ القلعي وسائرَ العلوم الشرعية، وسافرَ فأخذ عن عبدالله الأسدي الطريقة الصوفيّة وتَحَكَّمَ له، وقد استقرّ بالشّحر وجرتْ بينه وبين الفقيه (المقدّم) مراسلات، وقد ألَّف تلميذُه (محمدُ بن علي باطحن) في مناقبه كتابًا أسماه (تحفةُ المريدِ وأنس المستفيد)، وتوفي الشيخُ سعدُ الدين سنة 607هـ"(08)
القلعيٌّ يمنيٌّ لا شاميّ ولا مغربيّ
- وقول عيسى الشيخ الطائي: [(وَفَدَ الشَّيْخُ الْقَلْعِيّ مِنَ الْيَمَنِ)] تأكيدٌ على نسبه وموطنه العربيّ القِحّ؛ لأن بعض المصادر غير الموثوقة قالت: "لا يُعْرَف موطنه الأصليّ، فهناك أقول بشاميّته وأخرى بمغربيته"(09)، وهذا القول لم يُقدِّم أصحابُه دليل دامغٌ عليه، بل تدحضه رواية صاحب كتاب (السلوك في طبقات العلماء والملوك)؛ حيث قال:"لمّا قدِمَ على أهل ظَفار من الحج إلى (مرباط)، و"بينَما كان يمشي المعلمُ (أبو نصيرٍ) بالساحل إذ أبصرَ خيمةَ القلعي فقصدَها، وجلسَ معه فبحث في العلم مسائل وقد نمى إلى علمِه أنَّ في المركبِ فقيهًا من أكابر العلماءِ، فألفاه جبلًا من جبال العلم، ووجد علمه ساقية أمام هذا البحر العباب الذي تتلاطم أمواجُه، فما كان منه إلا أن اعترفَ له بالإمامة، وطلب منه الإقامة، فلم يجبْه الإمامُ القلعي إلى ذلك فأحفاه المعلم في الطلب"(10)، "فقال: أُريد أن أصل بلدي؛ فلم أخرج منها على هذا العزم. فعادوا إلى سلطانهم المعروف بالأكحل وأخبروه أنهم مضطرون إلى مثله لينتفع الناس به". فرجع (أبو نصيرٍ) أدراجَه إلى السلطان المنجوي ليرشده إلى الكنزِ الذي وجده وأن يدركَ الفقيهَ قبل أن يسافر"، ففخرج السلطان إليه بنفسه في موكبه، وسلّم عليه والتزمه الوقوف معه وشرط له على ذلك أن يفعل له ما أحبّ. فاستحى (القلعيّ) وأجاب إلى ذلك. وله مصنفات عِدّة منها: قواعد المهذب، والمستعرب ألفاظه، وإيضاح الغوامض من علم الفرائض، ولطائف الأنوار في فضل الصحابة الأبرار، وكنز الحُفّاظ في غريب الألفاظ، وتهذيب الرياسة في ترتيب السياسة، وأحكام القضاء، وغيرها"(11)
- قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَكَانَ أَهْلُ ظَفَارِ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَذْهَبِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَبَثَّ هَذَا الشَّيْخُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيّ مُحَمَّدِ بْنُ إِدْرِيْسَ فَتَبِعَهُ جَمِيْعُ أَهْلِ ظَفَارِ فَصَارُوا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَافِعِيَّةً إِلَى يَوْمِنَا هَذَا)].
الإمامة في الفقه لأبي حنيفة
- قال الشيخ عيسى الطائيّ: [(وَكَانَ أَهْلُ ظَفَارِ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَذْهَبِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ)]؛ و(حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ) نسبةً إلى المذهب الحَنفيّ لصاحبه "الإمام، فقيه الملّة، عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيميّ، الكوفي، مولى بني تيم الله بن ثعلبة يقال: إنه من أبناء الفرس"، "وُلِد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك. قال محمد بن سعد العوفي: سمعت يحيى بن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لايحفظ"، و"عن أسد بن عمرو، أن أبا حنيفة - رحمه الله- صلى العشاء والصبح بوضوء واحد أربعين سنة" (كناية عن قيام الليل)، و"روى نوح الجامع، عن أبي حنيفة أنه قال: ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك، فهم رجال ونحن رجال" و"قال الفقيه أبو عبد الله الصيمري: لم يقبل أبو حنيفة العهد بالقضاء، فضُرِبَ وحُبِس، و"روى حيان بن موسى المروزي، قال: سئل ابن المبارك: مالك أفقهُ، أم أبو حنيفة؟ فقال:أبو حنيفة"، و"قال الخريبي: ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل"، و"قال الشافعي: الناس في الفقه عِيَالٌ على أبي حنيفة، والإمامة في الفقه ودقائقه مُسلمة إلى هذا الإمام. وهذا أمر لا شك فيه". و"توفي شهيدا مسقيا بـ(مرض استسقاء البطن) في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة"، فلمَّا مات أبو حنيفة كان عنده ودائع كثيرة، وأهلها غائبون، فنقلها ابنه حَمَّاد -وكان فقيها مثل أبيه - إلى الحاكم ليتسلّمها، فقال له الحاكم: بل دعها عندك فإنك أهلٌ. فقال: زِنْها واقبضها حتى تبرأ منها ذِمَّةُ الوالد، ثم افعل ما ترى. ففعل الحاكم ذلك. ووعهد إلى القاضي بذلك بقي في وزنها وحسابها أيامًا، واستتر حمّاد فما ظهر حتى أودعها القاضي عند أمين"(12)
يُفتي الناس وعمره 15 سنة
- وقول الطائيّ [(فَبَثَّ)]؛ من بَثِّ الحديثِ ونحوه، أي: أفشاه وأذاعه، ونعثر على شاهده في بيت شعر لابن الحُدَاديّة الخُزاعيّ، الذي يقول فيه: (بَكَتْ مِنْ حَدِيْثٍ بَثَّهُ وَأَشَاعَهُ// وَرَصَّفَهُ وَاشٍ مِنَ الْقَوْمِ رَاصِعُ)(13)
- [(الشَّافِعِيّ مُحَمَّدِ بْنُ إِدْرِيْسَ)]، هو "محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافعي بن السائب بن عبيد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن مناف القرشيّ. يجتمع مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في مناف، لقي جده شافع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مترعرع، وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأُسِرَ، وفدى نفسه، ثم أسلم، فقيل له: لِمَ لَمْ تُسْلِم قبل أن تفتدي نفسك؟ فقال: ما كنتُ أَحْرِمُ المؤمنين طمعًا لهم فيَّ. وُلِدَ الشافعيُّ بـ(غزّة) سنة 150هـ، وهي السنة التي مات فيها أبو حنيفة – رضي الله عنه- ونشأ بمكّة، وكتب العلم بها وبمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَدِمَ بغداد مرتين، وخرج إلى مصر سنة 199هـ، ولم يزل بها حتى وفاته. وقال الربيع: كان الشافعيُّ يختم القرآن كل ليلة، وفي كل رمضان ستين ختمة. وقال ابن حنبل: ستة أدعو لهم سَحَرًا، أحدهم الشافعيّ. وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعيّ يُفتي وهو ابن خمس عشرة سنة. والشافعيّ - رحمه الله – أول من تكلَّم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه. وتوفي بمصر يوم الجمعة، ودفن بعد العصر في آخر يوم من رجب سنة 204هـ، وتبلغ آثاره 140 كتابًا"(14)
المذاهب مسالك إلى الجنة
- يقول الشيخ عيسى الطائيّ [(فَتَبِعَهُ جَمِيْعُ أَهْلِ ظَفَارِ فَصَارُوا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَافِعِيَّةً إِلَى يَوْمِنَا هَذَا)]، "والمذاهب كلّها مسالك إلى الجنة وطرق إلى السعادة، فمن سلك منها طريقا وصله. وقال غيره: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حُكم الحاكم، وهو أربعة: ما خالف الإجماع، أو القةاعد، أو النصّ أو القياس الجليّ"(15)" ولم تكن الأوضاع العقائديّة في ظفار حِكرا على مذهب بعينه، فبالإضافة إلى الوجود الإباضيّ العريق في البوادي، فقد كان في المدن أيضًا الاعتزال الخالص، ويتضح ذلك من تولي الإمام القلعي مهام القضاء والإفتاء في عهد (الأكحل)، والإمام القلعي لم يكن شيعيًّا، بل كان على مذهب الاعتزال الخالص حيث وجدناه في كتابه (تهذيب الرئاسة، وترتيب السياسة) يذكر بعض محاسن وفضائل معاوية بن أبي سفيان إضافةً إلى تآليفه الفقهية الشافعيّة"(16)
جواز تقليد المذاهب بشروط
يقول السيوطيّ: "اِعْلَمْ أنّ اختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سرٌّ لطيف، أدركه العالمون وعمي عنه الجاهلون، وقد وقع الخلاف في الفروع بين الصحابة – رضي الله عنهم -، وهم خير الأمّة، فما خاصم أحدٌ منهم أحدًا، ولا نسب أحدٌ إلى أحدٍ خطأ ولا قصورًا، والدليل قصة اختلاف الصحابة في أسرى بدر فإنّ أبابكر ومن تبعه أشاروا بأخذ الفداء منهم، وعُمر ومن تابعه أشاروا بقتلهم، فحكم النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بالأول، ونزل القرآن بتفضيل الرأي الثاني، مع تقرير الرأي الأول، وهذا دليل على تصويب الرأيين، وأنّ كلا من المجتهدين مصيبٌ"(17). وقال القرافيّ (المالكيّ المذهب) في التنقيح: قال الزناتيّ (المالكيّ المذهب) يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط: (أ) أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع. (ب) وألّا يتتبّع رخص المذاهب. (ج) وأن يعتقد الفضل في المذهب الذي يُقلده بوصول أخباره إليه.
أحوال وأحكام الانتقال بين المذاهب
إنّ "الانتقال من مذهب إلى إلى مذهب آخر جائز كما جزم الرافعيّ، وتبعه النوويّ، وللمتنقل أحوال: فأمّا الحال الأولى: أن يكون السبب الحامل على الانتقال أمرا دنيويًا كحصول وظيفة أو قربًا من الملوك. فهذا حكمه "كمهاجر أم قيس" (لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه). وله صورتان؛ إحداهما: أن يكون عاريا من معرفة الفقه وليس له مذهب. والصورة الأخرى: أن يكون فقيها في مذهبه ويريد الانتقال لغرضٍ دنيويّ. وهذا مُحرّمٌ لأنه تلاعب بأحكام الشريعة. وأمّال الحال الثانية: أن يكون الانتقال من مذهب إلى مذهب لغرضٍ دينيّ، وله وجهان؛ الأول: أن يكون فقيها في مذهبه وقد ترجّح عنده المذهب الآخر لما رآه من وضوح أدلته. وهذا يجب عليه الانتقال أو يجوز له الانتقال كما قال الرافعيّ. ولهذا لمّا قدِم الشافعيّ مصر تحوّل أكثر أهلها شافعيّةً بعد أن كانوا مالكيّة. وأمّا الوجه الآخر: أن يكون عاريا من الفقه، وقد اشتغل بمذهبه فلم يحصل منه على شيء، ووجد مذهب غيره سهلا عليه سريعا إدراكه، بحيث يرجو التفقّه فيه، فهذا يجب عليه الانتقال ويحرم عليه التخلّف لأن التفقّه خيرٌ من الاستمرار في الجهل. وأمّا الحال الثالثة: أن يكون الانتقال من مذهب إلى مذهب مجرد عن القصدين (الدينيّ والدنيويّ)، وهذا يجوز للعوام وليس للفقهاء؛ لأنهم تفقهوا في مذهبهم والأولى أن يشتغلو به والعمل بمقتضاه بدلا من انقضاء العمر في تحصيل المذهب الآخر"(18)
ظفار تحت المنجويين الثلاثة
- قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَمَاتَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ الْمُنْجَوِيّ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَحَدًا، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُنْجَوِيينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُم بِمُذْحَج مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيْقَةِ ذَلِكَ.)]
- قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَمَاتَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ الْمُنْجَوِيّ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَحَدًا)]؛ لقد تعاقب على حكم ظفار في القرن الخامس الهجريّ ثلاثة ملوك من بني المنجوي (الجد أحمد)، و(ابنه محمد)، و(الحفيد محمد)، وقدموا من اليمن دُعاةً لا غُزاة، وشهدت ظَفار في عهودهم التي نيّفت على ثلاثمائة عام استقرارًا، وسماحةً مذهبيَة، وتشجيعًا للعلم والعلماء، وقد كانت واحةً سكينة للوافدين عليها، وقاصديها من البر والبحر، وقد ذكر المؤرخون أنّ السلطان أحمدُ بن محمد بن منجوه المَذْحِجّي البُلُخيّ استولى على ظَفار سنة 540هـ؛ ثمّ اعتلى سُدّة الحكم فيها ابنه السلطان محمد بن أحمد بن منجوه (والد الأكحل) وهو الذي عاصره (الإمام القلعي) وعاش مدة طويلة في عهده"، وذكر (السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف باعلوي) في كتابه: (بضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت – مج3) أنه توفي سنة 573هـ، ثم تولى حكم ظفار من بعده ابنه (السلطان الأكحل محمد بن محمد المنجويّ)، وهو آخر سلاطين المنجويين وقد أدرك الإمامُ القلعي أربع سنين من ولايته، وكان يلقَّبُ بالأكحل لكحل كان بعينيه، توفي سنة 596هـ"(19)
أكثر القبائل في الجنَّة مَذْحِج
- وقول الطائيّ: [(وَلَمْ يُعَقِّبْ أَحَدًا)]، أي: انقطعت سلسلة نسبه لأنه لم يُنجِب. وفي اللغة: (عَقِبُ الشَّخص): ولدُهُ، ووَلَدُ وَلَدِهِ الباقون مِنْ بَعْده. وشاهدُه الشعريّ نعثر عليه في بيت للمُتَلَمِّسِ الضُّبْعِيّ: (وَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَكُوْنَ لِـ(عَقِبِهِمْ)// زَنِيْمًا، فَمَا أُجْرِرْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَا)(20)
- وقول الطائيّ: [(إِنَّ الْمُنْجَوِيينَ يَتَّصِلُ نَسَبُهُم بِمَذْحِج مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ)]، و"(مَذْحِج): بفتح فسكون فكسر الحاء؛ حلفٌ قبليّ واسع يضم عددا من القبائل داخل اليمن وخارجها؛ أشهرها:(مُراد)،و(عَنْس)، و(الْحَدَا)، و(بنو الرَّيَّان)، و(بنوعُبيدة)، و(النُّخَع)، و(بنومُسْلِيه)، و(زُبَيد)، و(الجُعْفِيّ)، وغيرها. ومركز (قبائل مَذْحِج) اليوم في نواحي(ذَمار)،وفي (دثينه) من(أَبْيَن)، وفي مديرية (الزَّاهر) من بلاد (البيضاء). وكانت تُعرَف هذه المنطقة باسم (سَرْو مَذْحِج)؛ أي: موطنهم"(21). وفي حديث طويل متنُه، وإسنادُه صحيح، ورواه عمرو بن عبسة، وأخرجه النسائي في (السنن الكبرى) (8351) مختصرًا، وأحمد (19446) واللفظ له قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – {شرُّ قَبيلتَينِ في العَربِ نَجرانُ، وبَنو تَغلِبَ، وأكثرُ القَبائلِ في الجنَّةِ مَذحِجٌ}.
يتبع....
المراجع والمصادر:
(01) ديوان المهلهل، شرح وتحقيق: أنطوان محسن القوّال، دار الجيل، بيروت، ط1، 1995، ص: 76
(02) المدونة الكبرى، مالك بن أنس الأصبحيّ الحِميريّ (ت، 179هـ)، رواية: سحنون بن سعيد التنوخيّ، مطبعة السعادة، مصر 1323هـ، 2/117
(03) الحياة السياسية والاجتماعية في المشرق الإسلاميّ خلال القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلاديّ، د. إيهاب محمد علي زاهر، مجلة آفاق للعلوم، العدد: 7 – مارس 2017م، ص ص: 89، 90/ وانظرأيضا: مروج الذهب للمسعوديّ ج1، ص: 306، ج2، ص: 73
(04) حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة العاشر والسابع عشر للميلاد بين الإباضية والمعتزلة، سالم فرج مفلح، ط1، دار حضرموت للدراسات والنشر، المكلا، اليمن 2006م، ص: 141
(05) السلوك في طبقات العلماء والملوك، أبو عبد الله بهاء الدين محمد بن يوسف بن يعقوب الجُندي السكسكيّ الكندي (ت، 732هـ)، تحقيق: محمد الأكوع الحَوَاليّ، مج3، مكتبة الإرشاد، صنعاء، اليمن، 1994م، ص ص: 453، 455
(06) البيان والتبيين، الجاحظ(ت،255هـ)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجيّ، مطبعة المدنيّ، القاهرة، ط7، 1998م، 1/312
(07) الإمام صاحب مرباط، أبو بكر بن علي المشهور، ط1، 2002م، ص ص: 15، 17، 18، 20/ أدوار التاريخ الحضرميّ للسيد محمد أحمد الشاطريّ (1:162)
(08) نسبة تتلمذ سعد الدين للقلعي أفاده المعشني في الآثار التاريخية لظفار
(09) سالم فرج مفلح في كتابه: (حضرموت بين الإباضية والمعتزلة)؛ نقلا عن كتاب تاريخ الشعراء الحضرميين، عبدالله محمد السقاف، 1353هـ
(10) العدة المفيدة، 1/ 92، عقود الألماس، 2/ 76.
(11) السلوك في طبقات العلماء والملوك،455، 456
(12) سير أعلام النبلاء، شمس الدين لذهبي، ج6، ص ص: 391، 395، 399، 400، 402
(13) عشرة شعراء مُقِلّون، صِنْعة: حاتم الضامن، جامعة بغداد، 1990م، ص: 38
(14) انظر ترجمته المختصرة الوافية في (المنهج الأحمد، في تراجم أصحاب الإمام) للعليميّ، مطبعة المدنيّ/ السنن المأثورة للإمام محمد بن إدريس الشافعيّ (150هـ - 204هـ)، رواية أبي جعفر الطحاويّ الحنفيّ عن خاله ابن يحيى المُزنيّ تلميذ الشافعيّ، وثَّقَ أصوله وخرّجَ حديثه ووضع فهارسه وعلّق عليه د. عبد المعطي أمين قلعجيّ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 1986م، ص ص: 87-102
(15) المرجع نفسه، ص ص: 50، 51
(16) سالم فرج مفلح في كتابه: (حضرموت بين الإباضية والمعتزلة)، ص:154 نقلا عن كتاب (تاريخ المذاهب الإسلامية في بلاد اليمن، د. أيمن فؤاد السيد، 1988
(17) جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، الحافظ جلال الدين السيوطيّ، تحقيق: عبد القيوم محمد شفيع البستويّ، دار الاعتصام، 1989م، ص: 27، 28، 31
(18) المرجع نفسه، 41، 42
(19)الإمام محمد بن علي القلعي..ناشر المذهب الشافعي بحضرموت، أكرم بن مبارك عصبان (عضو مجلس علماء وادي حضرموت)، مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر، https://hadramout.center/articles/4011، نقلا عن: قلادة النحر، ص51، صورة الأرض لابن حوقل، 1/ 38.
(20) ديوان المُتلَمِّس الضُّبعيّ، روايو الأثرم وأبي عُبيدة عن الأصمعيّ، تحقيق وشرح وتعليق: حسن كامل الصيرفيّ، معهد المخطوطات العربيّة، القاهرة، 1970م، ص: 37
(21) معجم البلدان والقبائل اليمنية، إبراهيم أحمد المقحفيّ، ط1، ج2، دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع، صنعاء، اليمن، والمؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، لبنان، 2002م، ص: 1472
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عيسى بيومي يكتب: الذكاء الاصطناعي الفائق.. طموح أو وهم
بعد أن ترك ليوبولد أشينبرنر - أحد باحثي شركة "أوبن أيه آي" الأمريكية الرائدة في الذكاء الاصطناعي - وظيفته وأسس شركته الخاصة للذكاء الاصطناعي العام، نشر مقالًا مثيرًا من ١٦٥ صفحة في يونيو ٢٠٢٤، تحت عنوان "للتوعية بما يحدث: العقد القادم" يفصّل فيه رؤيته لتطور الذكاء الاصطناعي من الآن حتى عام ٢٠٣٤. يقول في مقاله: "إن السباق للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام قد بدأ، نحن نبني ماكينات يمكنها أن تعقل وتفكر، وبحلول عام ٢٠٢٥/٢٠٢٦ ستتفوق هذه الماكينات على كثيرين من خريجي الجامعات، وبنهاية العقد ستكون أكثر ذكاء منك ومني؛ سوف تصل للذكاء الفائق القدرة بالمعنى الحرفي للكلمة.."
وعلى الرغم من أن أشينبرنر وبعض الباحثين يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي العام هو نتيجة حتمية لتطور الذكاء الاصطناعي التوليدي المستخدم اليوم في النماذج اللغوية والتصويرية، لا تُجمع غالبية الخبراء على إمكانية حدوث ذلك، أو على الأقل ليس في هذا الزمن المنظور؛ فما هي حجتهم ولماذا الخوف من الوصول لهذا المستوى الذي يطلقون عليه الذكاء الاصطناعي العام؛ وما سوف يتبعه من مستوى الذكاء الفائق لحدود وقدرات الذكاء البشري في كافة المجالات؟
هل هو ممكن؟
هناك من الفلاسفة وعلماء المعرفة – مثل الأسترالي ديفيد تشالمرز - من يتصور أن عمليات التطور العشوائي التي أنتجت مستوى الذكاء الإنساني، يمكن بالقصد تكرارها للوصول إلى نفس النتيجة أو أفضل إذا قام مبرمج ذكي بتصميم وتوجيه برامج جينية، بل ويقدّر تشالمرز حدوث ذلك خلال القرن الحالي، مستدلًا على ذلك بالتفوق الهائل للهندسة البشرية في بعض المجالات مقارنة بإمكانات التطور العشوائي البطئ. ألم يتمكن الإنسان من الطيران محققًا في زمن جد قصير ما أنجزه التطور في ملايين السنين، وإن فعل ذلك بطرق مختلفة؟ كما يمكن الوصول لمستوى الذكاء الاصطناعي المرغوب بهذا المفهوم إذا استطعنا تشغيل لوغاريتمات البرامج الجينية تلك على حواسب ذات سرعات كافية.
لكن اقتفاء أثر عمليات التطور الطبيعي لإنجاز مستوى مصطنع من الذكاء لا يبدو ممكن التحقيق عمليًا؛ لأن القدرة الحسابية المطلوبة لمحاكاة عمليات التطور التي أفرزت الذكاء البشري هائلة وليست في متناولنا، مع الأخذ في الاعتبار سمات عمليات الانتخاب الطبيعي مثل تأثير المصادفة واحتمالات الإخفاق في التكيف مع البيئة وحدوث تحورات جينية عفوية غير مفيدة أو لا علاقة لها بالذكاء.
مسار ثانٍ لإمكانية تطور الذكاء الاصطناعي وذكاء الآلة يمكن تحقيقه بمحاكاة عمل الدماغ البشري؛ إما بمضاهاة الوظائف البيولوجية للمخ بشكل كامل أو اتخاذها نموذجًا للاحتذاء به.
المضاهاة الكاملة للمخ أو ما يعرف بتحميل العقل (Mind uploading) تعني إجراء مسح شامل للمخ ليتم تحويل وظائفه البيولوجية إلى نموذج مرقمن في الكومبيوتر فينتج عنه برنامجًا ذكيًا يماثل المخ البيولوجي في وظائفه. إنجاز هذا التماثل الكامل يتم على ثلاث مراحل؛ الأولى المسح المفصل لشرائح دقيقة لمخ إنسان بعد الوفاة بالميكروسكوب الإلكتروني، ثانيًا إدخال البيانات الناتجة من عمليات المسح في كومبيوتر لإعادة بناء الشبكات العصبية الثلاثية الأبعاد للمخ الأصلي ثم دمج الخريطة الناتجة بمجموعة من النماذج الحسابية العصبية، ثالثًا تطبيق البناء الحسابي العصبي الناتج على كومبيوتر قوي لتكون المحصلة في النهاية بناء مرقمن للمخ الأصلي بذاكرته وشخصية صاحبه، أي يتواجد عقل بشري محاكًا كبرنامج كومبيوتر يمكن استئثار صفاته الوظيفية المحاسبية لأداء أعمال عقلانية.
أين نحن الآن من تنفيذ هذه المحاكاة الكاملة للمخ البشري؟ أحد التقديرات الحديثة التي ذكرها الفيلسوف السويدي نيك بوستروم في كتابه الذكاء الفائق، تتوقع الوصول للإماكانات التقنية المطلوبة لإنجاز تلك المحاكاة بمنتصف القرن الحالي.
في محاولة قام بها حديثًا باحثون من جامعة هارفارد وخبراء في الذكاء الاصطناعي من جوجول؛ لرسم خريطة كاملة لملليمتر مكعب واحد من المخ، غاصوا فيها لأعمق ما أمكن الوصول إليه في الرسم العصبي مستخدمين أحدث تقنيات موجودة، قسموا هذه العينة لخمسة آلاف شريحة، وصوروا كل شريحة بالمجهر الإلكتروني، ثم أعادوا تجميع هذه الصور فبلغ عدد الخلايا فيها خمسين ألف خلية ومائة وخمسين مليونًا من التشابكات العصبية، مما كشف للباحثين طلاسم وألغازًا لا ذكر لها في أحدث مدونات العلوم ولم يمكنهم تفسيرها؛ مما يثبت وجود فجوة بين ما هو معلوم وما يجب التوصل له على حد قول جيف ليستمان أحد أساتذة هارفارد لصحيفة الجارديان. وبحساب تكلفة إجراء هذه التجربة على كل المخ تبين ضخامتها لحد المستحيل، فقد وصلت لخمسين مليارًا من الدولارات وإجراء مسح إلكتروني لما يوازي مائة وأربعين فدانًا مما يخلق منها أكبر مركز للبيانات على سطح الأرض، وهذا لإجراء مرحلة المسح فقط، فما بالك بإنفاذ كل المراحل؟
وفي نفس السياق أعلنت جامعتا جونز هوبكنز الأمريكية وكامبريدج البريطانية عام ٢٠٢٣ نجاح فريق عالمي من الباحثين في رسم خريطة كاملة لمخ ذبابة الفاكهة يقتفي كل وصلة عصبية فيه، مما يقرب العلماء من فهم آلية التفكير ويعزز مستقبل أبحاث المخ ويلهم لبناء أنظمة جديدة لتعليم الآلة. وهذا يبين أن الحديث عن مسار محاكاة المخ البشري رقميًا ليس من قبيل الخيال وإنما تُبذل الجهود وتُنفق الأموال والسنون في محاولة الاقتراب منه. هذا على الرغم من الصعوبات التكنولوجية الهائلة التي تواجه تنفيذ أول محاكاة كاملة للمخ البشري خاصة تطوير تكنولوجيا المسح وتكنولوجيا قراءة الصور للمستوى الضروري لنجاح المحاكاة المنشودة، إذا قارنّا مخ ذبابة الفاكهة الذي يتكون من حوالي ثلاثة آلاف خلية عصبية ونصف مليون تشابكًا، بالمخ البشري الذي يتكون من ستة وثمانين بليون خلية عصبية ومائة تريلليون تشابكًا!
أما بالنسبة لاتخاذ الوظائف البيولوجية للمخ كأمثلة للاحتذاء بها؛ فالتقدم المضطرد في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي سيكشف عن المبادئ العامة لعمل المخ مما يساعد على توجيه جهود تطوير الذكاء الاصطناعي، مثل تقنية الشبكات العصبية المطبقة حاليًا في نماذج الذكاء الاصطناعي والمستوحاة من فهم وظائف الخلايا العصبية في المخ الطبيعي، وكذلك فكرة التنظيم الهرمي التي نقلها خبراء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من المخ إلى تقنية تعليم الآلة. ولأن الآليات الأساسية لعمل المخ محدودة العدد يُنتظر الكشف عن أسرارها جميعًا بمرور الوقت واستمرار البحث بما يمكن من ابتكار ماكينة ذكية على غرار المخ البشري، وإن كان يصعب تحديد متى يحدث ذلك.
مسار ثالث للوصول إلى مستوى الذكاء الفائق أو الاقتراب منه؛ عن طريق محاولة تعزيز الوظائف البيولوجية للمخ. فالتقدم الحادث في التكنولوجيا الحيوية سيسمح بالتحكم المباشر في الجينات البشرية، مما يتيح آليات أكثر فاعلية من استخدام العقاقير المنشطة للذاكرة والنشاط العقلي أو التوجيه الوراثي عن طريق برامج تحسين النسل. فربما يؤدي التقدم في التكنولوجيا الجينية لاصطناع جينوم بشري وتصميم جنين حسب المواصفات المطلوبة.
مسار رابع لتطور الذكاء الاصطناعي نحو الذكاء الاصطناعي العام ومنه للذكاء الفائق؛ يُسمى التطور الذاتي المتكرر، وهو كما يدل اسمه يعني تصميم البرنامج المقصود بما يسمح له بتصحيح أدائه لوظيفته فيكتسب من ثم مهارات جديدة، ويتم ذلك بتطبيق لوغاريتمات التعلم التدريجي الذي يحلل البيانات المتاحة له ويكتشف ما خفي فيها من أنماط تؤهله للارتقاء بذكائه، بمعنى تعديل هندسته وطريقة عمله، وكلما أنتج نسخة مطورة من نفسه أصبح أقدر على الوصول لنسخة أرقى من سابقتها، وهكذا يصبح يومًا في مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق. لن يصاحب ذلك دوافع الطموح أو الغرور أو الحب أو الكراهية أو غير ذلك من أحاسيس البشر فهذا أعقد في احتمال حدوثه ويتطلب جهدًا هائلًا لمحاولة إضافته إلى ماكينة إذا تُقنا إليه.
مسار خامس نحو الذكاء الفائق يمكن اقتفاؤه بربط المخ بالكومبيوتر عن طريق شرائح إلكترونية وأقطاب كهربية،على سبيل المثال. فقد أثبتت التجارب التي أجراها العلماء على الفئران إمكانية تحسين الذاكرة بهذا الأسلوب. ويتخيل الباحثون في هذا المجال إمكانية تفاعل عقولنا مع المعلومات بسرعة الضوء، حيث تعمل الذاكرة بدون أخطاء، وتتفوق إمكاناتنا المعرفية على ما هي عليه الآن؛ لذلك فمستقبل غرس الرقائق العصبية الدقيقة في المخ – في رأيهم – سيمكن الإنسان من الارتقاء بذكائه إلى مستويات غير مسبوقة، فيفكر ويتعلم ويتفاعل مع عالمه بطريقة مختلفة تمامًا، ويستشهدون على ذلك بنجاح التطبيقات الطبية لهذه التكنولوجيا. وسوف يساعدهم على تحقيق طموحهم التقدم المتواصل في علم المواد وتكنولوجيا الرقائق المتناهية الصغر والهندسة البيولوجية، ولهذا يتصورون مستقبلًا للذكاء الفائق عن طريق التكنولوجيا تكون الرقائق العصبية إحدى دعائمه.
ومن الواضح التأثير الهائل الذي سيحدثه الإنسان ذو الذكاء الفائق وقتئذ على ابتكار ماكينات ذات ذكاء خارق تمكنه من السيطرة على الكون والحياة ومصيره، أو ربما تسيطر هي عليه. فالماكينات الذكية اصطناعيًا بهذا القدر ستمتلك من الميزات ما تتفوق به على المخ البيولوجي، مثل السرعة المحاسبية الهائلة، وسرعة الاتصال الداخلي بين أجزائها بشكل يفوق التصور، والحجم الضخم الممكن الوصول إليه مما يعزز قدراتها الخارقة، وسعة الذاكرة التي لا حدود لها، كما أن قدراتها لا يصيبها الإجهاد والوهن ولا تتدهور بالهرم أو يتحتم عليها الموت، ويمكن تطوير أدائها كلما تقدمت تكنولوجيا بناء الكومبيوتر وبرامج تشغيله التي يمكن نسخها بلا نهاية.
يطمح العلماء للوصول للذكاء الفائق بسبب قدراته المذهلة الواعدة التي ستعين على إيجاد حلول لتحديات مضنية مثل تغير المناخ والأمراض المستعصية والفقر والجهل، لكنهم في نفس الوقت يتغافلون عن تداعياته الغامضة على الحضارة الإنسانية والوجود البشري؛ حين يصل الذكاء الاصطناعي بالتكنولوجيا أو تصل هي به إلى مرحلة اللاعودة، حين تخرج التكنولوجيا عن سيطرة الإنسان تمامًا، ما يسمونه نقطة التفرد التكنولوجي.
القوى المعرفية الخارقة والإرادة
في فهمنا للذكاء الاصطناعي بكل أنواعه ودرجاته لا يجب أن ننسى أو نتغافل عن طبيعته ومن ثم نخطئ في إسقاط صفات إنسانية على كيفية عمله وأدائه لوظائفه التي صُمم من أجلها؛ ولو تجاوزت قدراته حدود ما خطط له مصمموه نتيجة لما يستوعبه من بيانات ومعلومات وما يستنبطه من أنماط عجز العقل البشري عن اكتشافها وربما تمنحه فرصة تطوير قدراته، فهذا بالضبط ما تحتويه معادلات إنشائه وما يُنتظر منه بلوغه وإن كنا لا نقدّر مداه.
الذكاء الاصطناعي لا يزال بعيدًا عن تكافؤ أي من خصاله المعرفية مع العقل البشري، لكن تطور تكنولوجيا التعليم العميق وابتكار برامج اللغات القادرة على جعل الحواسب تخاطب البشر بلغاتهم مثل (GPT-4)، تحت مسمى الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ دنا بالذكاء الاصطناعي قليلًا من خواص الذكاء الطبيعي.
وإذا تواصلت الخطوات نحو الوصول إلى كامل قدرات ذكاء البشر وتفوقت الماكينة على المخ البيولوجي؛ فالوصول إلى مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق أو الخارق مسألة ترتبط بالوقت وتخطي المصاعب التكنولوجية وتذليل المقاومة الاجتماعية والسياسية المتوقعة بوسائل قانونية.
وبسبب تشابك وتعقد العناصر المؤثرة على انتفاضة الذكاء الاصطناعي إلى تلك الآفاق الخفية لا يمكن تخمين زمن الوصول هل هو عقود أم قرن من الزمان أم غير ممكن على الإطلاق، ولهذا يعتقد البعض أن الهلع الشائع من تطور الذكاء الاصطناعي لأفق الذكاء الخارق هو من قبيل الخيال والخوف من مجهول لا نفهم طبيعته أو نعرف صفاته، والبعض الآخر يجد ضرورة في ضبط الأبحاث ومراقبة شركات التكنولوجيا حتى لا تنحرف إلى مسار يؤدي إلى نتيجة تسبق وضع المحاذير ويفوت الأوان؛ فتواجه البشرية حينئذ ماكينات ذات ذكاء خارق لا تفهم مقاصدها أو كيف تنفذ إرادتها.
تكنولوجيا تتحرر من صانعها
يجزم جانب من الخبراء وعلماء الذكاء الاصطناعي ومن ورائهم المستثمرون بأموالهم ومستقبل البشرية؛ أن الوصول لمستوى الذكاء الاصطناعي الفائق ممكن، والسعي إليه مبرر ومرغوب، لأنه أمل الجنس البشري في إيجاد حلول للمشاكل الطبيعية المستعصية التي تحاصر وجوده وتهدد مستقبله مثل الأوبئة والبراكين وتغير المناخ وارتطام الكويكبات والشهب بكوكب الأرض، بل ويمكنه أيضًا وضع حد لأخطار من صنع الإنسان نفسه مثل التدمير العشوائي لحضارته بما تسببه التكنولوجيا ذاتها بأشكالها المتعددة من العبث بتوازن موارد الحياة على كوكب الأرض والإخلال بنواميس الطبيعة والتنافس المدمر بين الدول. لكنهم لم يذكروا جوانب أشد خطرًا على المكنون الإنساني مثل فساد الذمم واضمحلال الضمائر وانتشار الظلم والعنصرية وعدم المساواة وغيرها من مساوئ الأخلاق التي هي في الحقيقة الخطر الأعظم المهدد لوجود الإنسان.