هل يعرقل إصرار إسرائيل على البقاء في محور فيلادلفيا المفاوضات؟
تاريخ النشر: 6th, September 2024 GMT
تقديم: محمد كريشان
5/9/2024المزيد من نفس البرنامجرسائل إسرائيل المتضاربة عن اتفاق محتمل بغزةتابع الجزيرة نت على:
facebook-f-darktwitteryoutube-whiteinstagram-whiterss-whitewhatsapptelegram-whitetiktok-whiteالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات
إقرأ أيضاً:
المفاوضات بين إسرائيل وحماس: رهانات معقدة وتحديات حاسمة
تزامنت المفاوضات الحاسمة بين إسرائيل وحماس في شرم الشيخ مع الذكرى الثانية لهجوم السابع من أكتوبر، الحدث الذي غير موازين القوة في المنطقة وفتح فصلا جديدا من الصراع بين المقاومة والسياسة. رمزية التاريخ تجعل اللقاء أكثر من مجرد مفاوضات تقنية؛ إنها مواجهة غير معلنة بين ذاكرتين: ذاكرة الخوف لدى إسرائيل وذاكرة الصمود لدى الفلسطينيين. ومع أن المفاوضين يتحدثون عن صفقة إنسانية وخطة واقعية، فإن ما يدور فعليا هو اختبار لإمكان تحويل التفوق العسكري إلى تسوية سياسية قابلة للبقاء.
أكبر تحد يواجه هذه الجولة يتمثل في أزمة الثقة البنيوية بين الطرفين، فالمفاوضات لا تنطلق من أرضية سلام، بل من تراكم من الوعود المجهضة والانتهاكات المتبادلة. إسرائيل تطالب بتفكيك القدرات العسكرية لحماس كشرط مسبق لأي وقف للنار، بينما ترى حماس أن ذلك يعني تسليم سلاحها قبل ضمانات حقيقية بعدم عودة الحرب. من يضمن التنفيذ؟ ومن يعاقب عند الإخلال؟ وما الجهة المخولة بالإشراف؟ في غياب آلية ضبط واضحة، يصبح كل التزام مؤجل رهينة لحسابات القوة لا للقانون أو الضمانات الدوليةهذه المفارقة تجعل كل بند من الخطة الأمريكية محاصرا بالريبة: من يضمن التنفيذ؟ ومن يعاقب عند الإخلال؟ وما الجهة المخولة بالإشراف؟ في غياب آلية ضبط واضحة، يصبح كل التزام مؤجل رهينة لحسابات القوة لا للقانون أو الضمانات الدولية.
التحدي الثاني يرتبط بالتوازن الداخلي الهش داخل المعسكرين؛ نتنياهو يدخل التفاوض وهو محاصر بضغط شعبي داخلي، وبائتلاف حكومي يتربص بأي تنازل يمكن أن يقرأ كضعف، وأي خطوة باتجاه هدنة طويلة أو انسحاب جزئي قد تفتح الباب لانهيار حكومته، لذلك يتعامل مع المفاوضات كإدارة أزمة لا كمحاولة لحلها. في المقابل، تخوض حماس بدورها معركة شرعية داخلية بين جناحها العسكري وقيادتها السياسية، حيث يخشى الصقور أن تفضي التسويات إلى تجريدهم من النفوذ، بينما ترى القيادة السياسية في أي اتفاق فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة الحضور الدولي. وهكذا تواجه المفاوضات معادلة داخلية مزدوجة: حكومة إسرائيل تخشى السقوط إن تنازلت، وحماس تخشى الانقسام إن وافقت.
أما التحدي الثالث فيتمثل في التسلسل الزمني للالتزامات، وهو قلب المعادلة التفاوضية. فالخطة الأمريكية تنص على تتابع محدد: وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وانسحاب تدريجي، ثم حوكمة انتقالية. لكن منطق القوة يجعل كل طرف يصر على أن يبدأ الآخر أولا؛ إسرائيل تشترط الإفراج الكامل عن المحتجزين قبل أي انسحاب، وحماس تطالب بوقف شامل للنار قبل أي تبادل أو التزامات أمنية. هذا الصراع على البداية يحول كل خطوة إلى فخ محتمل: فالتأخير في التنفيذ يقرأ كخداع، والامتثال المبكر يفسر كضعف. وهكذا يصبح التفاوض سلسلة من الامتحانات المتبادلة، لا مسارا نحو اتفاق نهائي.
يتجلى تحد آخر جوهري في طبيعة الحوكمة الانتقالية المقترحة لغزة، فالمبادرة الأمريكية تتحدث عن "هيئة تكنوقراطية فلسطينية بإشراف دولي" تتولى إدارة القطاع خلال المرحلة الانتقالية. غير أن هذه الصيغة، التي تبدو تقنية على الورق، تحمل في طياتها مأزقا سياسيا معقدا؛ من يختار أعضاءها؟ وما حدود صلاحياتها الأمنية؟ وهل تخضع لإشراف الأمم المتحدة أم للدول الراعية؟ إسرائيل تخشى أن تتحول إلى غطاء لعودة نفوذ حماس تحت مسمى مدني، وحماس ترى فيها محاولة لإقصائها سياسيا عبر واجهة محايدة ظاهريا. وأي غموض في هذا الملف قد يسقط المفاوضات حتى لو تم الاتفاق على باقي البنود.
ويتعاظم التحدي الخامس في البيئة الميدانية غير المستقرة، فالمفاوضات تجرى بينما لم يتوقف القصف تماما، ولم تحسم السيطرة على عدد من النقاط الميدانية، وكل حادث عسكري قادر على قلب الطاولة وإعادة الخطاب إلى لغة النار. لذلك تسعى الأطراف الوسيطة، خصوصا مصر وقطر، إلى تثبيت هدوء عملياتي مؤقت يتيح استمرار التفاوض. غير أن استمرار هذا التوازن الدقيق يتطلب ضبطا متزامنا للإعلام، وللخطاب السياسي، ولحركة القوات، وهو أمر نادر في سياق تحكمه الحسابات الانتخابية داخل إسرائيل والانفعالات الشعبية في غزة.
الخطة الأمريكية تتجنب الخوض في مسألة الدولة الفلسطينية، وتكتفي بالحديث عن "مسار مستقبلي نحو تسوية دائمة". هذا الغموض المقصود يجعل الاتفاق أقرب إلى هدنة إنسانية موسعة لا إلى حل سياسي متكامل
إلى جانب هذه العقبات المباشرة، هناك تحد هيكلي أعمق يتمثل في غياب الأفق السياسي النهائي، فالخطة الأمريكية تتجنب الخوض في مسألة الدولة الفلسطينية، وتكتفي بالحديث عن "مسار مستقبلي نحو تسوية دائمة". هذا الغموض المقصود يجعل الاتفاق أقرب إلى هدنة إنسانية موسعة لا إلى حل سياسي متكامل، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو إضفاء شرعية سياسية على طموحات ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام. كما أن ربط إعادة الإعمار بالمساعدات المشروطة والرقابة الأمنية سيجعل الاقتصاد الفلسطيني رهينة لتقلبات المزاج الدولي، ما يضعف فرص استقرار أي نظام إداري لاحق.
غير أن التحدي الأشد تأثيرا يظل سياسيا في جوهره، وهو رؤية نتنياهو لطبيعة التفاوض. فطالما ظل يرى الحوار مع حماس أداة لالتقاط الأنفاس وترتيب ميزان القوى قبل جولة جديدة من الحرب؛ لن يتحول التفاوض إلى مسار استراتيجي للسلام. هذه الرؤية البراغماتية القصيرة الأمد تجعل كل هدنة مشروطة بزوال الحاجة إليها، لا بترسيخ أسسها القانونية والسياسية. لذلك، لن تنجح أي خطة في فرض تسوية حقيقية ما لم يكسر هذا المنطق الذي يحول كل مفاوضة إلى فاصل زمني بين حرب وأخرى.
إن مفاوضات شرم الشيخ لا تُختبر بقدرتها على إنتاج نصوص دبلوماسية جديدة، بل بقدرتها على بناء ثقة سياسية متبادلة تردم الهوة بين السلاح والكلمة. لكن الطريق ما يزال محفوفا بالتحديات التي تجعل التوقيع أسهل من التنفيذ، والتنفيذ أهون من الاستمرار، وما لم يتغير منطق الصراع ذاته، ستبقى كل مفاوضة مجرد استراحة مؤقتة في حرب طويلة لم تقل بعد كلمتها الأخيرة.