الثورة نت/ خاص

قبل سنوات قليلة فقط، كانت زراعة القوقعة بالنسبة لفاقدي السمع في اليمن حلمًا مؤجلًا؛ ليس لبُعد التقنية، بل لبُعد القدرة والإرادة، فمعظم الدول العربية سبقت اليمن في إدخال هذه الجراحة منذ التسعينات، وتحولت مع الوقت إلى برامج وطنية ممولة بالكامل.

أما اليمن، الذي أرهقه العدوان والحصار على مدى أكثر من عشر سنوات، وقلّصت خّيارات المرضى، فقد بقي خارج هذا المسار حتى بدأت إرادة محلية خالصة تُعيد رسم الخريطة من جديد، والذهاب باتجاه ترجمة القيادة السياسية نحو توطين الطب لخفض فاتورة العلاج في الخارج سنويًا.

من هنا، تبلورت نواة برنامج زراعة القوقعة داخل البلاد أواخر العام المنصرم 2024، عندما أجرى فريق متخصص برئاسة الدكتور عبدالكريم البلعسي في مدينة ذمار، أولى عملياته، منهيًا سنوات من انتظار المرضى للسفر إلى الخارج.

يؤكد الدكتور عبدالكريم البلعسي في تصريح لــ” الثورة نت”، أن هذه الخطوة لم تكن مغامرة طبية بقدر ما كانت استجابة لحاجة إنسانية ملحّة، كون “فاقد السمع يعيش عزلة كاملة، لا يتواصل، لا يتعلم اللغة، ولا يجد طريقًا إلى الإبداع إلا بشق الأنفس، ولا شك أن إعادة السمع استعادة لحياة كاملة”.

بناء برنامج من الصفر

لم يكن الطريق ممهدًا، فتكلفة جهاز القوقعة وحدها تتجاوز قدرة معظم الأسر اليمنية، حتى بعد الاتفاق مع الشركات على أسعار مخفّضة، ولهذا قدّم الفريق عروضًا مفتوحة شملت عمليات مجانية، وتحمّل تكاليف المستشفى، إضافة إلى خمسين جلسة تأهيل دون مقابل، رغم أن هذه الخطوات كان يُفترض أن تكون مؤقتة، يقول الدكتور البلعسي.

ويستدرك حديثه قائلاً: “لكن صعوبة أوضاع المرضى دفعت المستشفى للاستمرار جلسات التأهيل المجانية، بالتوازي مع دعم كريم من صندوق رعاية المعاقين، الذي شكّل كما يرى البلعسي “الأرضية التي جعلت البرنامج ممكنًا”.

ورغم الدعم، ما تزال فجوة الوعي كبيرة؛ فالكثير من الأسر لا تدرك أن نجاح العملية يعتمد على التوقيت، كلما خضع الطفل للجراحة قبل سن الخامسة، ازدادت فرص تكوّن اللغة بشكل طبيعي، وفقا لما يراه الدكتور عبدالكريم.

ويضيف: “أما من يولد فاقد السمع ويتجاوز هذا العمر، فتقلّ الاستفادة تدريجيًا، وإن كان بالإمكان تحقيق نتائج جيدة مع برامج تأهيل مكثّفة وطويلة، كما يتيح البرنامج الزراعة للمرضى الذين فقدوا السمع بعد اكتساب اللغة، في أي عمر تقريبًا”.

التأهيل المعركة الحاسمة

لا يتوقف البرنامج عند الجراحة، فالمستشفى أنشأ قسم سمعيات متكاملاً مزودًا بأحدث وسائل التشخيص، يعمل جنبًا إلى جنب مع قسم تأهيل مُتخصّص يبدأ دوره بعد العملية بثلاثة أسابيع، عند تشغيل الجهاز وبرمجته لأول مرة.

يقول الدكتور عبدالكريم البلعسي، هناك تبدأ “رحلة السمع”، تدريب المريض على تفسير الأصوات، تمييزها، تحويلها إلى معان، ثم بناء المهارات اللغوية خطوة خطوة.

ورغم التحديات، يكشف البلعسي عن نتائج تبعث على التفاؤل، مؤكدًا أن 52 حالة خضعت للزراعة منذ بدء البرنامج وحتى سبتمبر 2025، معظمها لأطفال دخلوا عالم الصوت لأول مرة.

“لا شيء يضاهي اللحظة التي يسمع فيها طفل صوت أمّه بعد صمت طويل”، يقول الدكتور البلعسي، “وهذه النتائج تؤكد أن اليمن قادر على تقديم خدمات تضاهي ما يُقدَّم في الدول المتقدمة لو توفر الحد الأدنى من الدعم”.

دفعة دولية تعزّز الثقة

وأحدثت مشاركة اليمن في مؤتمر زراعة القوقعة لآسيا والمحيط الهادئ في ماليزيا الذي انعقد منتصف شهر نوفمبر الجاري نقلة مهمة للبرنامج، إذ عرض الفريق اليمني ممثلا بالدكتور عبدالكريم البلعسي، دراسة علمية شاملة حول الحالات المزروعة.

وناقش الخبراء العالميين حول الطرق الأحدث للحفاظ على الخلايا السمعية أثناء الجراحة، وهو توجه يشهد اهتمامًا عالميًا لتجنب أي تلف قد يؤثر على التقنيات المستقبلية.

يؤكد الدكتور البلعسي، أن هذا الاحتكاك الدولي منح البرنامج اليمني ثقة إضافية، ورسّخ توجه المستشفى نحو نماذج عمل مشابهة لتجارب ناجحة في المنطقة، والتي تجمع بين التشخيص والجراحة والتأهيل اللغوي تحت سقف واحد، وتمنح الطفل متابعة مستمرة لثلاث سنوات لضمان بناء اللغة بشكل طبيعي.

برنامج وطني

يشير الدكتور البلعسي إلى أن ما تحقق حتى الآن يُعد إنجازًا في بلد يعاني من انهيار منظومته الصحية، لكنه يبقى خطوة أولى في طريق طويل، مؤكداً أن نجاح البرنامج يتطلب “تكاتفًا مجتمعيًا وخيريًا”، لأنه دون دعم مالي واستمرارية في التأهيل، لا يمكن للطفل أن يصل إلى مرحلة الاندماج الكامل في التعليم والحياة اليومية.

ورغم كل ذلك، يؤكد الدكتور البلعسي، أن ما بدأ في ديسمبر 2024 تحوّل اليوم إلى مشروع طبي متكامل يعيد السمع، ويعيد الأمل، ويقدّم نموذجًا يثبت أن اليمن يستطيع بإرادة علمية ومجتمعية، أن يفتح أبوابًا جديدة للحياة رغم صعوبات الواقع وتحدياته.

إحصائيات وأرقام

تُظهر الدراسات العالمية أن فقدان السمع يبدأ منذ اللحظة الأولى للحياة، حيث يُولد ما بين طفل إلى ثلاثة أطفال من كل ألف مولود حول العالم بضعف سمع شديد، وهو رقم يرتفع في الدول النامية ليصل إلى ستة أطفال لكل ألف مولود.

ومع ازدياد الوعي الطبي وتطور التقنيات، شهد العالم توسعًا كبيرًا في عمليات زراعة القوقعة؛ فبعد أن كان عدد العمليات لا يتجاوز سبعين ألفًا عام 2000، ارتفع الرقم ليصل إلى أكثر من 1.2 مليون عملية حتى عام 2023، ما يعكس النمو الهائل في الاعتماد على هذه التقنية كحل فعال لاستعادة السمع.

وعلى مستوى التكلفة، تتراوح أسعار أجهزة القوقعة عالميًا بين 15 إلى 30 ألف دولار للجهاز الواحد، بينما تنخفض في الدول العربية إلى ما بين 8 و20 ألف دولار حسب نوع الجهاز والشركة المصنعة. أما في اليمن، فتشير التقديرات إلى أن تكلفة الجهاز تتراوح بين 8,000 و13,000 دولار، وهو رقم يشكل عبئًا كبيرًا على معظم الأسر اليمنية.

وتؤكد الدراسات أهمية العمر المبكر في نجاح الزراعة؛ فالأطفال الذين يخضعون للعملية قبل سن الخامسة يحققون ما بين 80% و90% من مهارات اللغة الطبيعية المتوقعة، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 40%–60% لدى من تجاوزوا سن العاشرة، الأمر الذي يبرز أهمية التدخل المبكر.

وتصل معدلات نجاح العمليات عالميًا إلى 95% في الحالات التي تتلقى برنامج تأهيل شامل، فيما يشير الباحثون إلى أن السبب الأكثر انتشارًا لفشل الزراعة ليس العملية نفسها، بل غياب التأهيل السمعي واللغوي اللاحق لها.

وبالاعتماد على تقدير علمي لمعدلات فقدان السمع، ومع تسجيل نحو 800 ألف مولود سنويًا في اليمن وفق الاحصائيات العالمية، يُتوقع أن يُولد ما بين 3,000 و4,000 طفل سنويًا بضعف سمع يحتاج إلى تدخل عاجل، وهو رقم يضع اليمن ضمن أعلى الدول احتياجًا لبرامج زراعة القوقعة والتأهيل السمعي، خصوصًا في ظل الظروف الإنسانية والاقتصادية الحالية.

خطوة فارقة

واستجابة لهذه الحاجة المُلحّة، فقد مثّل تدشين برنامج زراعة القوقعة الإلكترونية في جامعة ذمار نهاية ديسمبر من العام الماضي خطوة فارقة في مسار الرعاية السمعية باليمن، إذ جاءت الندوة التعريفية التي نظمتها كلية الطب والجمعية اليمنية لأطباء الأنف والأذن والحنجرة برعاية مستشفى البلعسي، كأول فعالية من هذا النوع في البلاد، تحت شعار “شركاء معاً في تخفيف معاناة فاقدي السمع”.

وأكد المشاركون أن الفعالية لم تكن مجرد لقاء علمي؛ بل إعلان دخول اليمن رسميًا إلى مجال طبي دقيق ظلّ غائبًا لسنوات بسبب الحرب والعدوان وتراجع البنية الصحية.

توجه رسمي لتعزيز الخدمات في التخصصات النادرة 

وخلال الفعالية، شدد محافظ ذمار محمد ناصر البخيتي على أن الاهتمام بزراعة القوقعة يأتي في إطار توجه رسمي لتعزيز الخدمات في التخصصات النادرة، مؤكدًا أن البلاد التي تمكنت من إحراز تقدم في مجالات معقدة، باتت اليوم قادرة على خوض مسار جديد في تطوير قدراتها الطبية.

هذا الخطاب عكس إدراكًا متزايدًا لأهمية الاستثمار في التكنولوجيا الطبية المتقدمة، ومواجهة الفجوة الواسعة التي يعيشها آلاف الأطفال والبالغين المصابين بفقدان السمع.

كما أكدت مداخلات مسؤولي وزارة الصحة ورئاسة الجامعة أن هذا البرنامج يشكّل نواة لتوسيع خدمات التأهيل السمعي في اليمن، مع الاعتماد على كوادر محلية قادرة على إجراء العمليات النادرة وتقديم رعاية ما بعد الزراعة.

ولأن السمع يمثل حجر الأساس في نمو اللغة والتواصل، فقد جاءت الدعوة واضحة لزيادة الدعم للمرضى وتوفير بيئة طبية وتعليمية تساعد على بناء منظومة وطنية مستدامة في هذا التخصص، بما يخفف جانبًا كبيرًا من معاناة الأسر التي تكافح للحصول على العلاج داخل البلاد وخارجها.

الحلم إلى واقع

إجمالًا، يمكن القول إن تجربة زراعة القوقعة في اليمن، رغم التحديات الكبيرة، أثبتت أن الإرادة والمعرفة قادرتان على تحويل الحلم إلى واقع ملموس، ومع كل عملية ناجحة وطفل يستعيد القدرة على السمع والكلام، تتضح أهمية توطين الصناعات والخدمات الطبية المتقدمة داخل اليمن، لتصبح متاحة لجميع المواطنين دون الحاجة إلى السفر أو تحمل تكاليف باهظة.

فاستثمار الخبرات المحلية، ودعم البحث العلمي، وتوفير المعدات الحديثة، لن يعيد الحياة للصم فقط، بل سيضع أسسًا راسخة لتطوير قطاع صحي متكامل قادر على مواجهة التحديات المستقبلية ورفع جودة الخدمات الطبية في البلاد، بما يضمن تحقيق العدالة الصحية والارتقاء بمستوى الرعاية لكل فرد.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: زراعة القوقعة فی الیمن ما بین

إقرأ أيضاً:

40 مليون كلب في الشوارع.. نقابة الأطباء البيطريين ترد

أكد الدكتور أحمد بنداري، وكيل نقابة الأطباء البيطريين، أن الأعداد المتداولة بشأن وجود 40 مليون كلب في الشوارع غير دقيقة مطلقًا، موضحًا أن مصر لا تمتلك أي حصر رقمي رسمي يمكن الاستناد إليه لتحديد العدد الفعلي للكلاب الضالة.

وقال بنداري، خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامية عبيدة أمير في برنامج «صباح البلد» المذاع على قناة «صدى البلد»، إن التقديرات الواقعية لا تقترب من هذا الرقم نهائيًا، رغم الإقرار بوجود زيادة ملحوظة في أعداد الكلاب في المدن والقرى والنجوع.

وأضاف أن الرقم الذي جرى تداوله قُدم في طلب إحاطة داخل البرلمان في أغسطس الماضي، لكنه غير مستند إلى بيانات أو إحصاءات رسمية، نافيًا ما نُسب لرئيس جمعية الرفق بالحيوان المصرية بشأن تأكيد هذا العدد.

وأشار وكيل النقابة إلى أن التوازن البيئي في مصر يمكنه استيعاب ما بين 8 و10 ملايين كلب وفقًا للدراسات المتداولة، لكنه شدد على عدم وجود حصر حقيقي لتعداد الكلاب في الشوارع حتى الآن.

طباعة شارك نقابة الأطباء البيطريين الأطباء البيطريين كلاب الشوارع

مقالات مشابهة

  • كيف يواجه اليمنيون المجاعة المحدقة في بلادهم؟
  • في يوم الطفل العالمي .. كيف يصنع وجود الأب صغيرا أكثر سعادة ونجاحًا
  • جيل واع يصنع مستقبله.. ثقافة جاردن سيتي يحتفل باليوم العالمي للطفل
  • لامبارد يصنع معجزة كوفنتري.. قيادة تاريخية تعيد الحلم بالبريميرليج وتضعه على أبواب منتخب إنجلترا
  • الدكتور سمير برقة لـ" ياهلا بالعرفج": "طريق الهجرة النبوية" هو أول كتاب يتناول طريق الهجرة بدراسة ميدانية ومنهجية ديموغرافية على أرض الواقع..!
  • الأطباء يكشفون لحظة تحول كوب القهوة إلى سمّ!
  • جبران من جنيف: ملتزمون بتعزيز التعاون مع العمل الدولية ودعم مسار الإصلاح
  • 40 مليون كلب في الشوارع.. نقابة الأطباء البيطريين ترد
  • تعرف على قدرات F-35 الأكثر تطوراً وفتكاً في العالم.. المقاتلات التي تثير رعب الحوثيين في اليمن