لجريدة عمان:
2025-06-27@19:15:02 GMT

الفلسفة والأدب بين إدراك الحقيقة ونسج الخيال «3»

تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT

الفلسفة والأدب بين إدراك الحقيقة ونسج الخيال «3»

••في المقالة السابقة، تناولت مفهوم الأدب والفلسفة، وبيّنت أن الفلسفة تناقش الموضوعات الوجودية الكبرى وأنها تميل إلى العقل، وبيّنت أيضًا أن الأدب يعتمد على الخيال. هذه الخصوصية للأدب واعتماده على الخيال دفعت الفيلسوف أفلاطون إلى استبعاد الأدب من مدينته الفاضلة، وذهب إلى توصيف العلاقة بين هذين الحقلين المعرفيين بعلاقة العداوة وأن بينهما معركة، فالفيلسوف من وجهة نظره هو وحده القادر على فهم الحقيقة، أما الشاعر والأديب فهو يصنع الوهم.

•في هذه المقالة، سوف أبيّن أن المعركة القديمة بين الفلسفة والأدب لم تدم طويلًا، وأن ثمة التقاء ومصاهرة بينهما، فمع تطور الإنسان من الأسطورة إلى العقل، وخاصة في أوروبا، انبلج عصر الإصلاح الديني وأعقبه عصر التنوير الذي ولدت من رحمه الحداثة، وبدأ التقارب بين الحقلين المعرفيين وبدأ ينظر إليهما بنظرة واحدة مضمونها أنهما يشتركان في إنتاج المعرفة.

•وبالرغم من المقاربة بينهما في أنهما ينتجان المعرفة، إلا أنه كان هناك من يزال يقر بالاختلاف بينهما من حيث الموضوع واللغة، لكن بقفزة هائلة قفزها الفيلسوف نيتشه وكذلك الفيلسوف هايدجر، دحروا هذا الاختلاف من خلال استخدامهم للغة الأدبية في التعبير عن أفكارهم وتصوراتهم، فغاص هايدجر في بحر البيان بمحسناته البديعية وما يشتمل عليه من استعارة ومجاز، فعشق الشعر والنثر، واعتبر اللغة وما تنطوي عليه من سحر وبلاغة هي سر الكينونة ومن خلالها يتم التعرف على هذه الكينونة، وكذلك كان نيتشه يفصح عن تصوراته وأفكاره الفلسفية من خلال استخدامه للغة أدبية رشيقة تنطوي على الصور الجمالية والمجازية والاستعارات، والتي جعلت أسلوبه مميزًا في انسيابيته وتدفقه.

•فنيتشه الفيلسوف الذي قدم فلسفته في قالب أدبي من خلال أسلوب السرد الروائي المعتق بالانزياح والجماليات هو في رأيي من أذاب الحدود والفواصل بين الفلسفة والأدب، فقد استخدم نيتشه اللغة الأدبية بما تزخر به من صور بديعة وجماليات للتعبير عن الحقائق والفكر. فمن خلال الأدب كان يتلمس نيتشه الحقيقة، واستطاع أن يصورها من خلال معطيات اللغة الأدبية المنسابة والمتدفقة والتي بثها معاني نفسه وروحه وألبسها رداء روحه ووجدانه، فعبّر عن الحقيقة بكل وجوهها من خير وحق وجمال وعدالة، وفسّر العالم وقام بتأويله من خلال هذه اللغة الأدبية رحبة المدى واسعة الأفق والتي وسعت نفسه ومشاعره، وعبّرت عن خوالج نفسه وروحه من خلال التعبير الرمزي والتصوير المجازي، وتجسد ذلك التعبير من خلال جل مؤلفاته الفلسفية وتحديدًا في مؤلفه البديع والقيم «هكذا تكلم زاردشت»، وبهذه الرؤية النيتشوية الوجدانية الماثلة من العمق الإنساني عمق العلاقة بين الفلسفة والأدب فجعلهما ذرية بعضها من بعض، فكلاهما يرفدان وهجهما من خلال رؤيتهما الرحبة للعالم، وكلاهما تجليات إبداعية إنسانية، وكلاهما يستمدان وجودهما من رحم الحرية، ففلسفة نيتشه تقوم على إدراك حقيقة الوجود باستجلاء عمق المشاعر الإنسانية وذلك من خلال تعبيراته الأدبية الساحرة والذي أجادها ببراعة، فمن خلال هذه التعبيرات استطاع أن يفصح عن تصوراته وأفكاره.

•إن الفلسفة النسقية التقليدية القديمة كانت لا تقبل هذا التقارب بينها وبين الأدب، ففلسفة «إيمانويل كانط» العقلانية لا تسمح بمقاربة الأدب الذي يغرق في الخيال، وينحو بعيدًا عن صرامة المنطق الذي يجافي فكرة التدفق والانسياب واستخدام الصور الجمالية، اختلف الأمر تمامًا مع الفلسفة المعاصرة، فجاء نيتشه ليزيد التقارب، وكذلك «آرثر شوبنهاور» الذي أكد على أن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من أزمته إلا بالفن، وكذلك فعل الفيلسوف «هيجل»، الذي تناول أفكاره الفلسفية بلغة شاعرية وأعلى من قيمة الفن والموسيقى والتراجيديا، هكذا كانت الفلسفة المعاصرة التي قاربت بينها وبين الأدب. ومن أهم الفلسفات التي ولدت من رحم الأدب، هي الفلسفة الوجودية التي يتزعمها الفيلسوف «جان بول سارتر»، فتناول أفكاره الفلسفية برؤية أدبية ووجدانية عميقة، ونجد ذلك في روايته «الغثيان» التي أصّل فيها لنظرته للإنسان وفكرة وجوده، وكذلك نجد الفيلسوف «ألبير كامو» ينحو منحى سارتر في روايته «الغريب» التي عرض فيها للوجود الإنساني من خلال تعرضه لأزماته الوجودية، وانبثقت من خلال أعماله، سواء في رواية الغريب أو في كتابه «المتمرد»، رؤيته الخاصة عن الوجود الإنساني، وبلور رؤيته وصاغها بأسلوب أدبي ممزوج بمشاعره الإنسانية الفياضة، وبلغة الأديب صاغ أفكاره الفلسفية التي تبحث عن الماهية والوجود والحرية والحياة والموت.

•ويُعد الأديب الروسي «فيدور دستويفسكي» هو الأب الملهم للمذهب الفلسفي الوجودي، فأدبه الزاخر بالأفكار الفلسفية هو من أمدّ هذا المذهب بفكرة الوجودية، فأدب دستويفسكي هو تعبير عن الوجودية الإنسان وفهم طبيعته وسبر غور عمقه الإنساني من خلال تناول حياته وما يدور فيها من أحلام وآمال وتطلعات وانتكاسات ومخاوف وغيرها من المشاعر الإنسانية.

•لا شك أنه توجد علاقة وطيدة بين الأدب والفلسفة منذ نشأتهما، وبالرغم من نشوب معارك للفصل بينهما، لكنها لم تفلح في ذلك نظرًا للتقارب الشديد بينهما، فكما ذكرت آنفًا أنه توجد بينهما آصرة قربى من خلال وحدة الرؤية، فكلاهما يبحثان عن الحقيقة من خلال رؤيتهما للعالم، وكلاهما تجليات للإبداع الإنساني.•

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

الفلسفة السياسية والنظرية السياسية (2): الأيديولوجيا

الأيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار والقيم التي تشكل رؤية الإنسان للعالم وتوجه سلوكه. على سبيل المثال، قد تكون الأيديولوجيا دينية، مثل ما ينبثق عن الإسلام، أو سياسية، مثل الاشتراكية. هي تساعد في تفسير الأحداث وتبرير الأفعال، لكنها ديناميكية وتتغير مع الظروف الاجتماعية. تؤثر الأيديولوجيا على كيفية اتخاذ القرارات، سواء في الحياة اليومية أو في السياسة. على سبيل المثال، قد تؤدي أيديولوجيا معينة إلى دعم سياسات معينة أو رفضها بناء على المعتقدات.

غالبا الأيديولوجيات تدخل الذهن من تفاعل الإنسان ونظم سائدة في المجتمع كنظام الحكم بالذات، وربما يفكر الإنسان في تطويرها من العيش والحاجات وطريق سدها أو الغرائز وإشباعها. الإسلام مثلا نظام حكم قد يعتبره البعض أيديولوجيا دينية، لكن هذا خطأ فالإسلام يحوي فلسفات متعددة ومعايير وقيم، فهو يقع في موضع جامع لفلسفات لها معايير وقيم، لكن يمكن أن ينتج أيديولوجيا في النظرية السياسية من خلال رؤية للواقع تتغير مع الزمان والمكان. أما الاشتراكية فهي نظرية سياسية منبثقة عن الشيوعية التي لم تك قادرة على الدخول إلى الواقع مباشرة، بينما الرأسمالية فلسفة إدارة المال والآليات المحيطة بها ويمكن أن تشكل بيئة سياسية لكن لا تضع نظرية سياسية، لذا تجد هنالك فاعلية لمراكز القوى وما يمكن أن يسمى بالدولة العميقة، فسلوكها في الإدارة الداخلية مختلف عن سلوكها خارج الدولة في المستعمرات مثلا.

غالبا ما تستخدم الصفة الأيديولوجية في مجتمعنا كتعبير عن التعصب والسلوك السيئ لفئة سياسية كالشيوعية أو مجموعة دينية، وتربط بالفشل، بينما الأيديولوجيا هي منظمة الأفكار
التفريق بين التفكير الفلسفي والأيديولوجي قد لا يُفهم من العقليات البسيطة والشعبوية أي السوقية. بالتأكيد الأيديولوجيا تؤثر على تعبير الشخص نحو الأمور، لكني أرى أن هنالك اختلافا بين السلوك المنبثق عن أيديولوجيا وذاك المنبثق عن آلية، فالسلوك المنبثق في التعامل الحَسَن بهدف مصلحة لا يعبر عن قناعة، السلوك الأيديولوجي يعبر عن قناعات، والاثنان قد لا يلتزمان بالسلوك السوي الذي من الطبيعي أن تفرضه قيمهما عندما تتعاظم الغريزة أو الحاجة. وهنا تأتي الفلسفة والتي هي الأفكار الرادعة، وهذه أيضا تضبط ولكن قد يخرج الإنسان عنها مرافقا له نوع من الإحساس بالذنب وهذا رادع عن الاستمرار.

وإذا كان ظهور المصطلح أول مرة عند الفيلسوف الفرنسي أنطوان دستو دو تراسي في نهاية القرن الثامن عشر، حيث استخدمه لوصف "علم الأفكار" فإنه اليوم توسع. وهنا تظهر مشكلة الخلط التي قد تمنع التحديث والتطوير أو التوسع في الأفكار عندما يتعامل مع القيم، وهي معايير فلسفية لا أرى أن تدمج معا كتعريف رغم بقائها كمنظومة عمل وحياة، كذلك الأخلاق فهي نظام معياري لانتظام السلوك.

التباس المعنى للأيديولوجيا:

غالبا ما تستخدم الصفة الأيديولوجية في مجتمعنا كتعبير عن التعصب والسلوك السيئ لفئة سياسية كالشيوعية أو مجموعة دينية، وتربط بالفشل، بينما الأيديولوجيا هي منظمة الأفكار، وغالبا ما ترتبط الأيديولوجيات السياسية (مثل الإسلامية، القومية، الليبرالية) بالانقسامات الطائفية وتدهور الخدمات مثل الكهرباء والمياه، ما يجعل الجمهور يرى الأيديولوجيات كشعارات فارغة، عندما تفتقد الرؤية ويحبط الجمهور. والرؤية مهمة للعمل السياسي الجاد، وهي قواعد الحساب بين الأحزاب والجمهور، وبفقدانها سنجد الطموحات الشخصية تظهر، مع فقدان الثقة وعزوف الجمهور عن الانتخابات عند ظهور الفساد على هذه الطبقة. الأيديولوجيات تُشوَّه بسبب ارتباطها بأنظمة سياسية غير عادلة؛ دعم إصلاحات تعزز تكافؤ الفرص وتمثيل الفئات المهمشة يمكن أن يحسن صورتها، والابتعاد عن التحالفات المثيرة للجدل أو المرتبطة بالفساد يعزز المصداقية.

الأيديولوجيا، والتنظير، عوامل أساسية لا يقوم بدونها فكر فاعل على الأرض، ولكن عليها أن تتبنى التفكير بما هو مطلوب لصناعة الحياة والمستقبل وليس بتجميد الفكر والإنسان أو جره إلى الماضي والعجز، أو إفراغ الطاقة بتغليب التخلف والعدمية
من الضروري إشراك الشباب ومراجعة وتعديل الخطاب، فالفساد لا يهدم المدنية فحسب بل يهدم القيم والثقافة، وبذلك تضيع الفلسفة والنظرية وكل ما يتبعها من فروع وتسميات.

خلاصة القول:

الفلسفة السياسية هي الأساس الفكري، تُلهم النظرية السياسية التي تُطوّر إطارا تحليليا، بينما الأيديولوجيا تُحوّل هذه الأفكار إلى برامج عملية؛ هذا في الحالة الطبيعية التي لا تستدعي الوصف السلبي لأي من هذه المعطيات.

الأيديولوجيا، والتنظير، عوامل أساسية لا يقوم بدونها فكر فاعل على الأرض، ولكن عليها أن تتبنى التفكير بما هو مطلوب لصناعة الحياة والمستقبل وليس بتجميد الفكر والإنسان أو جره إلى الماضي والعجز، أو إفراغ الطاقة بتغليب التخلف والعدمية.

عندما نضع فكرة كتحقيق المساواة للجميع علينا أن نكون صادقين في توزيع الموارد، وأن يكون الحاكم والمحكوم بنمو متوازن، وليس نموا انفجاريا عند المسؤولين وانحدارا عند الشعب، أو زيادة الضرائب لتعظيم الوارد بدل القضاء على الفساد، فهذه كلها من عوامل عدم الاستقرار وإن كان الأمن مستتبا وفق معايير السلطات.

مقالات مشابهة

  • هل صيام يوم عاشوراء يغفر كبائر الذنوب؟.. علي جمعة يكشف الحقيقة
  • الفلسفة السياسية والنظرية السياسية (2): الأيديولوجيا
  • همس الحقيقة وصخب الاتهام.. هل يغرق صوت العدالة؟
  • أبرز الدول العربية التي تعتمد على النفط في توليد الكهرباء
  • قفزة نوعية.. قمر صناعي «كمومي» يعالج البيانات بسرعات تفوق الخيال
  • الفلاحي: المقاومة تركز على ضرب الآليات التي يصعب تعويضها خلال الحرب
  • السماء تشتعل فوق الركاب.. فوبيا الطيران تنتقل من الخيال إلى الرادار
  • صادم: الحليب بينهما! 3 أطعمة تجنبها على معدة فارغة
  • خلال 24 ساعة... إليكم المهام التي أنجزها الدفاع المدني
  • ترامب صرخ في وجه نتنياهو: محادثة صعبة بينهما بشأن إيران