الدبلوماسية العُمانية.. صوت العقل ولسان الحقيقة
تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT
صالح الحارثي **
لم يشهد عصرنا الحديث، قضية مؤلمة ونازفة كالقضية الفلسطينية؛ فهي قضية المفارقات والتناقضات في الثوابت والمبادئ، قضية الشرق الأوسط الأولى؛ بل والعالم برمته.. قضية تقاطع المصالح وتلاقيها.. قضية الاحتلال الغاشم الذي بسببه ومن أجله اشتعلت المنطقة وانشغل العالم بها.. قضية الجرح العربي النازف الذي يأبى أن يندمل.
على مدى نصف قرن وأكثر من الصراع العربي الإسرائيلي المرير، كان موقف سلطنة عُمان واضحًا منذ البداية تجاه نصرة القضية الفلسطينية، وسخَّرت لها كافة جهودها الدبلوماسية وطار وزير خارجيتها معالي السيد بدر بن حمود البوسعيدي، إلى أكثر الدول تاثيرًا في مجريات هذه القضية، ونادى في منابر جامعاتها ومنتدياتها، موضحًا مخاطر الاحتلال والأعمال العسكرية الإسرائيلية على أمن الشرق الأوسط وامتداد انعكاساتها على العالم. ولم يُبالغ في تصريحاته ضد الاحتلال، فكًل كلمة قالها كانت موزونة وفي مكانها الصحيح، ولم يزايد أبدًا في قضية خاسرة وهو يتحدث إلى العالم عن "السياسة المألوفة المتمثلة فى الدفاع عن إسرائيل مهما كانت النتائج وأنها لن تحل المشكلة؛ بل يتعين بدلًا من ذلك معالجة السبب الحقيقي للأزمة الحالية"؛ وهي "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني لفلسطين... باعتباره السبيل الوحيد لاستعاد السلام إلى المنطقة".
لم يتصلب وزير الخارجية العُماني في مواقفه، كما بدا للبعض ذلك، عندما ساند جنوب أفريقيا في طلبها محاكمة قادة الاحتلال كمجرمي حرب، ولم يغالي في وصف واقع حاصل تقف فيه بعض الحكومات مكتوفة الأيدي تجاه ما يحصل في فلسطين ولبنان وتُدين التصرفات الإيرانية، في حين تمتنع عن فعل الشيء نفسه مع إسرائيل؛ بل وتمُدُّها بالسلاح في صورة فاضحة لازدواجية المعايير.
إنَّ نتائج ما اشتغلت عليه سلطنة عُمان حول هذه القضية بجانب عدد من شقيقاتها من الدول العربية والإسلامية والدول المُحبة للسلام، بدأت تؤتي ثمارها الآن، وذلك من خلال ازدياد عدد الدول الأجنبية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، والمشهد السياسي العالمي الرسمي والشعبي الذي يقف الآن بجانب الشعب الفلسطيني، والذي أصبح يُصيب إسرائيل بالجنون، على عكس ما كان في بداية "طوفان الأقصى" الذي استغلته الأخيرة وطوّعته لصالحها تحت زريعة "مكافحة الإرهاب"!
لقد ركبت عُمان منذ البداية المركب الصعب، وقالت كلمة الحق، واعتمدت في ذلك على علاقاتها القوية والمتميزة مع الدول المُحبة للسلام، ولم تخش من لمس الخطوط الحمراء التي رسمها الكيان الصهيوني على كل من يحاول الاقتراب منها، وبَنَتْ قرارها ذلك من باب الثوابت في سياستها، والمقاصد النبيلة في إنسانيتها، إيمانًا منها بأن القضية الفلسطينية قضية حق وقضية عدالة وقضية شعب، يعيش وطأة الضيم والظلم والقهر؛ فالتضامن مع الشعب الفلسطيني ليس اختيارًا؛ بل مطلب وواجب تُحتِّمه علينا العروبة، وتقتضيه فينا الشرائع الدينية، ويُمليه علينا الضمير الإنساني.
ومع ذلك نحن لا نكره اليهود- كأصحاب ديانة- لكن نُنكر عليهم أفعالهم الوحشية والمروعة وأياديهم المُلطَّخة بدماء شعب أعزل.. نكره جرائم الإبادة التي ارتكبوها.. نكره رفضهم للحلول السلمية والتفافهم على القوانين الدولية.. نكره فيهم الكذب والإسفاف والمراوغة، فقد جرَّبناهم في أكثر من مرة.. جرَّبناهم في "مؤتمر مدريد" و"اتفاقات أوسلو" و"كامب ديفيد" و"مبادرة السلام العربية".. استقبلنا زعمائهم ظنًا مِنَّا أن مَدَّ يد السلام سوف ينفع، لكن كمن ينفخ في الهواء.. ومع ذلك ستظل آيادينا مدودة للسلام.. السلام الذي سيوفر الأمن للجميع، ولا يتأتى هذا إلّا بالإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية المُستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وغير ذلك فهو "إما أنه مخدوع أو ساذج أو يُحاول عمدًا تجنُّب الحقيقة".
** سفير سابق
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
شوبنهاور ولعبة العقل
فوزي عمار
لماذا نخوض النقاشات لا بحثًا عن الحقيقة؛ بل بحثًا عن الانتصار؟ كان هذا السؤال هو الذي طرحه الفيلسوف الألماني آرثر شوبناهور في كتابه "فن أن تكون دائمًا على صواب".
ففي عالمنا اليوم، حيث تتدافع الآراء وتتصادم في كل مكان، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى جلسات العمل والعائلة، ثمة حقيقة مزعجة يطرحها الفيلسوف الألماني: نحن لا نبحث عن الحقيقة عندما نتحاور، بل نبحث عن الانتصار فحسب. هذا الكتاب الذي كتبه قبل قرنين من الزمان، يبدو اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى.
يكشف شوبنهاور أن العقل البشري في الجدال لا يعمل كباحث عن الحقيقة، بل كمحامٍ بارع يدافع عن موقف مسبق.
هذه الفكرة التي بدت جريئة في زمنه، تجد اليوم تأييدًا في علم النفس الحديث عبر مفهوم "التفكير المعلل"؛ حيث نستخدم قدراتنا العقلية ليس لاكتشاف الحقيقة؛ بل لتبرير ما نؤمن به مسبقًا. فكم مرة رأينا أنفسنا نلتقط الحجج التي تدعم موقفنا ونهمل تلك التي تنقضه؟ إنه الانحياز المعرفي.
الحيل الجدلية التي عددها شوبنهاور ليست مجرد حيل لخداع الآخرين، بل هي في الحقيقة أدوات تكشف كيف نخدع أنفسنا أولًا. خذ مثلًا حيلة "إغضاب الخصم"، تلك الآلية التي نلجأ إليها عندما نثير غضب الطرف الآخر، فنعطّل بذلك قدرته على التفكير المنطقي.
هذه ليست مجرد خدعة؛ بل هي استغلال لطريقة عمل الدماغ البشري، حيث يتعطّل الفص الجبهي المسؤول عن التفكير المنطقي عندما تنشط اللوزة الدماغية مركز الانفعالات.
لكن شوبنهاور يذهب أبعد من ذلك، فهو يرى أن النقاش ليس مجرد تبادل أفكار، بل هو في الحقيقة معركة على الهيمنة والهيبة الاجتماعية.
كم من مرة رأينا شخصًا يعلن انتصاره في نقاش ما رغم خسارته الحجة؟ هذا بالضبط ما يتحدث عنه شوبنهاور عندما يوضح أن الحقيقة قد تهزم في ساحة الجدال أمام خطاب أكثر تأثيرًا أو أكثر دهاء. إنه نفس ما أكده لاحقًا عالم الاجتماع الأمريكي الكندي إرفنغ غوفمان عندما وصف الخطاب البشري بأنه ليس وسيلة لنقل الأفكار بقدر ما هو عرض للهيمنة والقوة.
في زمننا هذا؛ حيث أصبحت الحقائق قابلة للتشكيل والتعديل حسب الرغبة، وحيث يمكن أن تتحول الأكاذيب إلى حقائق بمجرد تكرارها، يأتي كتاب شوبنهاور ليس كدليل لخداع الآخرين، بل كتحذير من أننا جميعًا نقع ضحايا هذه الآليات دون أن ندري. إنه يذكرنا بأن ساحة الجدال مليئة بالألغام النفسية التي يجب أن نكون واعين لها.
الدرس الأهم الذي يقدمه شوبنهاور ربما يكون هو أننا يجب أن نكون حذرين حتى من جدالنا الخاص، فقد نكون أول ضحاياه؛ ففي عالم أصبحت فيه القدرة على الإقناع أهم من الحقيقة ذاتها، يصبح فهم هذه الآليات أشبه بسلاح نقدي ضروري للبقاء. كما إننا نتعلم قوانين المرور لتجنب الحوادث، علينا أن نتعلم قوانين الجدال لنحمي أنفسنا من الخداع.
شوبنهاور لم يكتب كتابه ليعلمنا كيف نغلب الآخرين؛ بل كتبه ليعلمنا كيف لا نغلب بأنفسنا. في النهاية، ربما يكون أعظم انتصار هو أن نعترف بأننا لسنا أبدًا على صواب كما نعتقد.
في الختام، يذكرنا شوبنهاور بأن الحياة ليست محكمةً تحتاج إلى محامين أذكياء، بل هي رحلة بحث مشتركة عن فهم أعمق لأنفسنا والعالم. ربما تكون أعظم حكمة نستقيها من كتابه هي أن "الاعتراف بالجهل بداية المعرفة"، كما قال سقراط من قبله.
العالم الحديث بحاجة إلى إعادة اكتشاف "أخلاقيات الحوار" التي تحدث عنها فلاسفة من ثقافات مختلفة، من سقراط إلى كونفوشيوس؛ فالحكمة لا تكمن في إثبات أنك على حق، بل في إدراك أن الحقيقة قد تكون أكبر من أن يحوزها طرف واحد.
وقبل كل هذا ما أجمل الآية الكريمة في هذا الصدد التي يقول فيها عز وجل " وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف: 54) صدق الله العظيم.
وتبقى الكلمة الأخيرة للقرآن الكريم: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125)؛ ففي الجدال بالتي هي أحسن خلاصة الحكمة كلها.
رابط مختصر