أبان مخاطبة رئيس الوزراء السابق د. عبد الله حمدوك جموع السودانيين في شتم هاوس بلندن مؤخرا وفي اطار جهود تنسيقية تقدم الحميدة وسعيها الحثيث لوقف الحرب وادخال المساعدات الإنسانية إلي المتضررين من الحرب في السودان ، كان قد استعار في إحدى ردوده مقولة د. منصور خالد الشهيرة "النخبة السودانية وإدمان للفشل".
فشل الحداثة الاولي التي دخلت السودان علي شكل يسار شمولي ماركسي وقومي عروبي كانت تقوم علي فلسفة الهوية لكنها لم تتمكن من مجاراة الإسلام السياسي الذي إتضح انه كان الحصان الرابح في هذا المضمار ليس في السودان وحده، بل في كل المنطقة،
وإرتباط فلسفات الهوية بالحداثة كانت قد بدأت بظهورها وكانها هي النموذج أو البارادايم paradigm السائد بعد أن استفادت جدا من انجازات العلم الطبيعي وصيرورته وصعوده مما جعله النموذج الكاسح والمثال الذي يجب الاقتداء به في المعرفة الإنسانية. لم تتردد الماركسية مثلا في التشبه بالعلم الطبيعي وإعتلاء صهوته والاختباء داخل قلعته بعد أن اصبحت محصنة باليقين. ولذلك فإن فلسفات الهوية تقوم علي ظاهرة سيطرة العلم الطبيعي علي موضوعه وعلي دقته المتناهية وعلي إنجازاته كذلك . ولفرنسيس بيكون مقولة شهيرة في هذا الشأن مفادها انه لابد من معرفة الطبيعة تمهيدا للسيطرة عليها. وهو ما استلفته الماركسية منه لاحقا بقولها ان "الحرية هي معرفة الضرورة". مفهوم الحرية اذن في الماركسية مفهوم فوق انه غير دقيق، فهو كذلك يعد مفهوم " غير أصيل" اذ كان قد صكه رائد العلم الطبيعي فرنسيس بيكون في بدايات تطور العلم في القرن السابع عشر.
واذا كان للإسلام السياسي ادعاءات اخلاقية كبيرة بزعم انه يمثل ما أجمعت عليه "المدونة الإسلامية"، فكذلك للشيوعيين ادعاءاتهم ، بيد إنها إدعاءات علمية تشبها بالعلوم الطبيعية. وربما يكون ذلك هو ما اغراها بسرقة انجازات العلوم الطبيعية وما كان قد نسبه فرنسيس بيكون للعلم الطبيعي ، بأن تنسبه الي نظريتها في المعرفة. وهذا ببساطة أرجو أن تكون غير مخلة، يشير بوضوح إلى المشروعية التي تحاول الفلسفة الماركسية أن تستمدها من العلم في تبريرها لمحاولات سيطرتها علي العالم وحشد الناس والطبيعة والمعرفة لانجاز اهداف التاريخ المزعومة.، إذ يبدو انها مشروعية زائفة كما نري.
للمفكر ثيودور ادورنو مساهمة قيمة حول " ديالكتيك الانوار " كان قد حاول فيها الإجابة علي التساؤل المهم: لماذا وصل جدل التنوير إلي طريق مسدود ؟
مدرسة فرانكفورت ميزتها إنها اشتغلت علي الجانب الهيجيلي من الماركسية بعد أن أدركت مدى خطورة فلسفات الهوية ومجتمعاتها، ومن المفارقات إن هذه الفلسفة لا تتردد في التضحية بالانسان من أجل الإنسان ! ولنا امثلة حية فيما حدث في عالمنا المعاصر علي أيام الثورة الثقافية في الصين وفي تجربة الخمير الحمر في كمبوديا وفي ملايين الضحايا داخل ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي، اضافة طبعا لما شهدناه في السودان من مجازر وتدمير تعاظمت وتائرها منذ استيلاء الجبهة القومية علي السلطة وحتي اليوم. ولقد كانت لجرائم النازية في المانيا ابلغ الأثر علي رواد مدرسة فرانكفورت لان اغلبهم كان من الطائفة اليهودية. وقد كان الالمانى يورغن هابرماس آخر فلاسفة هذه المدرسة، هو من بدأ يتجه باليسار إلي رحاب الديمقراطية بمعالجة أخطاء هيجيل وفلسفته التوليتارية وكان كتابه الشهير الذي صدر في ستينات القرن الماضي
The Structural Transformation of the Public Sphere
كان يمثل بدايته في السير في الإتجاه الصحيح ، وهو عبارة عن دراسة نقدية حول كيفية تشكل الرأي العام حيث حصر الدياكتيك أو الجدل في حيزه " الكانطي " المتواضع حتي لايتم تخريب المعرفة كما فعل معها جورج هيجيل بادعاءت " معرفة الشئ في ذاته" أو بعبارة أخري ادعاءات أن ما بالاذهان يقابل لما في الاعيان. واستفاد هابرماس في رحلته الفكرية من الانعطاف اللغوي linguistic turn
الذي بدأ تقريبا مع دي سوسير ثم جورج هربرت ميد بدايات القرن العشرين. بعد ان استطاع الأول ان يوضح في كتابه الشهير " علم اللغة العام" أن اللفظ أو الكلمة او الدال ليس له ارتباط مباشر بالمدلول بل إن له ابعاد أخري نفسية لاشعورية قوية مؤكدا بذلك استقلال الثقافة عن بناءات كارل ماركس الذي كان قد جعل الثقافة مجرد بناء فوقي تابع للبناء التحتي المرتبط بقوي الانتاج وعلاقات الإنتاج.
إن أهم ما حدث من تطور في الفكر الإنساني المعاصر هو تأكيد ضرورة صيانة الحريات العامة المنصوص عليها في المواثيق الدولية لأن المعرفة تتأسس علي العلاقة بين الناس وليس بين الذات وموضوعها في العالم المحيط بها، وعلى والحوار والمحاججة مع أجل التوصل إلي اجماع هو الاقرب إلي معرفة " الموضوع " المراد معرفته سواء اكان ذلك في العلوم الطبيعية أو الإنسانية، وذلك بدلا عن زعم ان ما بالاذهان يقابل ما بالأعيان، لأنها مسلمات بالية لا تقود إلي معرفة او الي تتطور والى تفتح ونمو.
talaat1706@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان کان قد
إقرأ أيضاً:
عراقنا… الهوية التي لا تتجزأ !!
بقلم : تيمور الشرهاني ..
لطالما حاولت بعض الأصوات النشاز أن ترسم حدوداً وهمية بين أبناء البلد الواحد، فتارةً تتحدث عن “عرب سنة وشيعة”، وتارةً أخرى ترسم خطوط التفريق بين القوميات والطوائف. لكن الحقيقة أعمق وأكبر من كل تلك المحاولات الضيقة: العراق ليس مجرد فسيفساء مذهبية أو قومية، بل هو كيان متجانس تتوحد فيه القلوب قبل الأديان والمذاهب.
وفي عراق الحضارات، حيث ضفاف الرافدين تشهد على عراقة الإنسان وعبق التاريخ، تتجلى وحدتنا الكبرى. نحن العراقيون سنةً وشيعة، عرباً وأكراداً وتركمان وأيزيديين ومسيحيين وصابئة يجمعنا وطن واحد، قلب نابض بالحب، وروح لا تعرف الانكسار.
لسنا كعكةً سهلة التقسيم على موائد الطامعين. نحن شعب طوته السنون واشتد عوده في مواجهة الصعاب، ننهل من تاريخ مجيد وحضارة عريقة، ويجمعنا الحلم بمستقبل يليق بنا جميعاً ولقد أثبتت الأحداث أن العراقيين، مهما اشتدت عليهم العواصف، يعودون دوماً إلى أصلهم الواحد: عراقيتهم الصافية التي لا تتبدل.
فليكن اختلافنا مصدر قوة لا ضعف، ولنتوضأ جميعاً في محراب المحبة والتسامح. لا تسألني عن مذهبي أو طائفتي، بل انظر إلى يدي الممدودة إليك، وإلى سلوكي الذي يعكس أصالة العراقي وإنسانيته. فهنا، في أرض الرافدين، لا مكان للكراهية، بل للمحبة والتآخي والغفران.
لنبقَ كما كنا دوماً، أبناء وطن واحد، قلب واحد، وحلم مشترك… ولننتصر لوحدتنا أمام كل التحديات.
تيمور الشرهاني