الجزيرة:
2025-06-27@02:11:25 GMT

إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات

تاريخ النشر: 23rd, November 2024 GMT

إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات

يُعد الروائي والكاتب والشاعر الأردني الفلسطيني إبراهيم نصر الله أحد أبرز الأصوات الأدبية الفلسطينية والعربية المعاصرة، بمزيج الواقعية التاريخية والخيال الأدبي المبثوث في رواياته، التي لا تؤرخ للقضية الفلسطينية فحسب وإنما تضفي عليها مسحة إنسانية عبر رواية القصة من منظور الإنسان لا منظور الإمبراطوريات.

في هذا الحوار مع "الجزيرة نت" يتحدث نصر الله عن روايته الجديدة "مصائد الرياح" وديوانه الشعري "مريم غزة"، فيقول عن روايته الجديدة إنها "تتحرّك في 3 أزمنة، زمن فلسطيني متقاطع مع الاستعمار البريطاني في الثلاثينيات من القرن الماضي، وزمن فلسطيني متقاطع مع زمن بريطاني في نهايات القرن العشرين، واختلاط الزمنين مع زمن ثالث، هو الزمن الراهن".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعراء في زمن السيولة التواصلية؟list 2 of 2مر كالنيزك وخلّف كل هذا الضجيج.. الغياب المدوي لتيسير السبولend of list

ووُلد نصر الله في عمان لأبوين فلسطينيين هُجِّرا من قريتهما بَريج (غرب القدس) عام 1948، وقد درس في مدارس وكالة الغوث وحصل على دبلوم تربية وعلم نفس من مركز تدريب عمان لإعداد المعلمين، ونُشر له حتى الآن قرابة 15 ديوانا شعريا و22 رواية، منها مشروعه الكبير "الملهاة الفلسطينية" المكون من 12 رواية تغطي أكثر من 250 عاما من تاريخ فلسطين الحديث، تُرجمت أعماله إلى عدة لغات، وحظيت بجوائز ودراسات نقدية ورسائل جامعية عديدة.

في روايتك الجديدة "مصائد الرياح" دلالة رمزية، فأين تأخذنا في عملك الروائي هذا؟ وما الرسائل التي تقدمها من خلاله؟

هذه الرواية تتحرّك في 3 أزمنة، زمن فلسطيني متقاطع مع الاستعمار البريطاني في الثلاثينيات من القرن الماضي، وزمن فلسطيني متقاطع مع زمن بريطاني في نهايات القرن العشرين، واختلاط الزمنين مع زمن ثالث، هو الزمن الراهن.

كما أن للخيول والمرأة والرياح حيزا واسعا في هذه الرواية، بما يعنيه اقتراب هذه العناصر وتقاطعها من خلال القضية الفلسطينية من إمكانية لتوليد المعاني والدلالات، إنها أشبه ما تكون بأسئلة متجددة عابرة لقضية تبحث عن إجابات تليق بعدالتها.

في روايته "مصائد الرياح" يقدم إبراهيم نصر الله لوحة أدبية تمتزج فيها حقب تاريخية مختلفة (الجزيرة)

أما البعد الإنساني فيحضر عبر علاقات الحب التي ترتكز هذه الرواية في مسارها عليها، بما في كل ذلك من أسئلة فلسفية يمكن أن نقول إنها تتأمل العالم كله، والإنسان، لا في فلسطين وحدها، أو في منافي شعبها، بل في كل مكان.

بالنسبة إلى الرسائل التي تحملها الرواية لا يستطيع الكاتب أن يتحدث عن رسائله، فهذه مساحة مخصصة للقارئ والناقد، قد يلتقيان فيها وقد يختلفان، وقد يجدان جديدا يوسّع الرواية، أو عكس ذلك.

ضمن مشروعك الثقافي الممتد زمنيا "الملهاة الفلسطينية".. أين تجد هذه الرواية موقعها الإبداعي؟

إنها رواية الأجيال الجديدة، الجيل الثالث والجيل الرابع، فلسطينيا، في منافيهما، ومكانهما ومكانتهما ودورهما في تحولات القضية الفلسطينية منذ نهايات القرن العشرين حتى اليوم، أي أنها بمعنى آخر رواية الأحفاد، وهذه هي المرة الأولى التي يكون فيها للأحفاد هذه المساحة الواسعة في الملهاة، بعد أن كُرست كثير من روايات الملهاة للأجداد والآباء.

لذا، وبشكل من الأشكال كانت رواية ملحة في هذا المسار السّردي الذي يستحق في اعتقادي أعمالا كثيرة تتأمله، خاصة أن مستقبل فلسطين مرهون بالأحفاد وما يمكن أن يقدموه، سواء عبر استمراريتهم في مواصلة نضال من سبقوهم أو في ابتكار أشكال أخرى من النضال، ونحن اليوم، كما كنا بالأمس أمام أجيال خلاقة.

مصائد الرياح رواية بقدر ما لها علاقة بفلسطين والأحفاد، كما أشرتُ، بقدر ما هي معنية بتشابك القضايا التي يوحدها الوجود الإنساني، أو تلتقي في هذا الوجود

كيف يطوّر الكاتب إبراهيم نصر الله مُنتجه الرّوائي؟ وما أدواتك إلى ذلك؟ وأين تجد أنك قدمت الجديد النوعي في "مصائد الرياح"؟

بالتجربة والمعايشة الطويلة للفكرة وطبقاتها والخبرة وتعزيز الكتابة بروافد ثقافية متجددة، تسعى لهضم جديدِ العالم في الأدب والفنون والعمل التحضيري لكل عمل، وهناك تحضير دائما لأكثر من عمل في الوقت نفسه، بحيث يمكن القول إن بعض الأعمال مرّ على التحضير لها أكثر من 15 سنة أحيانا ولم تُكتب بعد، كما حدث من قبل مع أعمال أخرى مثل "ثلاثية الأجراس" 29 عاما، و"زمن الخيول البيضاء" 22 عاما، و"قناديل ملك الجليل" 15 عاما، وهذا يتيح لك أن ترى البشر والأحداث من زوايا متعددة ونامية، أو متوالدة، وحين ينضج عمل تماما، وأحس بأن ميلاده قد حان أبدأ بكتابته.

رواية "قناديل ملك الجليل" من سلسلة روايات ملحمة الملهاة الفلسطينية صدرت لأول مرة عام 2011 (الجزيرة)

مصائد الرياح رواية بقدر ما لها علاقة بفلسطين والأحفاد، كما أشرتُ، بقدر ما هي معنية بتشابك القضايا التي يوحدها الوجود الإنساني، أو تلتقي في هذا الوجود، لكن هذه الرواية معنية باقتراحات فنية ومشروع فني له علاقة بالسرد وجوهر السّارد، وهو الرّاوي العليم، وهذا ما جعلها واحدة من "ثلاثية الراوي العليم".

في ظنّي أنه من الصعب جدا أن تكتب عملا أدبيا عن أي قضية وتقدم جديدا فيه إن لم يكن هناك اقتراح فني في داخله، و"مصائد الرِّياح" ربما تكون تمثيلا لهذا.

في ديوانك الجديد أيضا "مريم غزة" إنسان ومكان.. كيف نقرأ هذه المقاربة منذ الحرف الأول في هذا العمل الشعري؟

وُلِد ديوان "مريم غزة" بعد 7 أكتوبر 2023، وصدر في أكتوبر من هذا العام، بالعربية، عن دار طباق في رام الله، وبالإنجليزية (عدد من قصائده) عن دار عالم الشعر في نيويورك، وبالنسبة لسؤالك عن الإنسان والمكان، ففي اعتقادي أنهما كيان واحد في غزة، خلال هذه الحرب العالمية التي تُشن عليها، وهذا واحد من أعظم وأعلى مراحل تجلي العلاقة بين الإنسان الفلسطيني ووطنه والوطن الفلسطيني وإنسانه.

"مريم غزة" رحلة إبداعية ترافق مسارات البشر في حياتهم وموتهم وأحلامهم حيث يواجه الشعر القتل والتدمير (الجزيرة)

هناك قول فلسطيني ورد في روايتي "أعراس آمنة" أو "أعراس غزة" حين تُرجمت، يقول "لقد خَلق الله الإنسان من تراب المكان الذي وُلِد فيه، وتراب المكان الذي سيموت فيه".

الإنسان في غزة يقول إنه خُلِق هنا ويموت هنا، والوطن يقول إنه خُلِق من هذا الإنسان أيضا.

الإنسان في غزة يقول إنه خُلِق هنا ويموت هنا، والوطن يقول إنه خُلِق من هذا الإنسان أيضا

مع ترجمة روايتك "زمن الخيول البيضاء" إلى اللغة التركية، كيف تُثري الترجمات إبداع الكُتّاب؟ وإلى أي مدى توصل قضيتك الثقافية ورسالتك الإبداعية إلى القراء؟

هذه العام صدرت "زمن الخيول البيضاء" بالتركية والإسبانية والمقدونية، وترجمت إلى الفرنسية ولم تصدر بعد، وإضافة لزمن الخيول صدرت ترجمات لسبعة كتب أخرى بلغات مختلفة، لذا، فهي سنة الترجمة بالنسبة لكتبي، إذ لم يسبق أن صدر هذا العدد في عام واحد.

والحقيقة أنني انتظرت صدور الطبعة التركية لأن محاولات سابقة مع دور النشر كانت تتعثر بين حين وحين، بسبب أن الجزء الأول من الرواية يتحدث عن الحقبة العثمانية في فلسطين، لكن صدورها عن واحدة من أعرق دور النشر التركية، وبترجمة الدكتور مصطفى إسماعيل كان أمرا مهما بالنسبة لهذه الرواية.

ترجمة رواية "زمن الخيول البيضاء" للإسبانية (الجزيرة)

من التجربة العامة التي تتعلّق بكتبي وغيرها من الكتب العربية، كما تتعلّق بكتب أخرى تُترجم إلى لغتنا العربية، فإن كل ترجمة هي ميلاد جديد للعمل الأدبي، ليس داخل اللغة نفسها فحسب، بل في داخل كل من سيقرأ هذا العمل الأدبي، وإذا أضفنا لذلك أن ما نكتبه صادر من داخل تجربة وطنية إنسانية تجاوز عمرها المائة عام، فإن ذلك أمر يضاعف أهمية فعل الترجمة.

في بداية الشهر الماضي وقّعتُ ديواني "فلسطيني"/مريم غزة، بترجمة الدكتورة هدى فخر الدين، في عدد من اللقاءات في أميركا، وقرأت منه، وكنت سعيدا ومتأثرا بالطريقة التي تمّ فيها استقبال القصائد، والسرعة التي نفدت فيها الطبعة الأولى، خلال 5 أيام فقط.

كل ترجمة هي ميلاد جديد للعمل الأدبي، ليس داخل اللغة نفسها فحسب، بل في داخل كل من سيقرأ هذا العمل الأدبي

كيف يمكن للكلمة أن تواصل معركتها في الصراع مع المحتل؟ ما عناصر قوتها؟ ومن أين تستمد صمودها؟

تواصِل بإيمانك بالقضية التي تدافع عنها، وإيمانك بقوة الكلمات، وإيمانك بأن البشر يتأثرون ويُغيِّرون، وإيمانك بهذا الشعب الذي لم يستسلم.

هذا الشعب يواصل صموده رغم كل هذه التضحيات، لذلك من المرعب أن ترى بعض الكُتّاب يستسلمون تحت ذرائع كثيرة.

في الحكاية الفلسطينية لا توجد حلول وسطى، ولا مكان للتأرجح.

في الحكاية الفلسطينية لا توجد حلول وسطى، ولا مكان للتأرجح

ما عوامل النهوض بالمشروع الثقافي للقضية الفلسطينية؟ وما أهم المسارات التي يجب أن نبدأ بها أو نواصل فيها؟

سؤال كبير، رغم أن المشروع الثقافي الفلسطيني مستمر وصاعد منذ ما قبل النكبة حتى الغد. ولكن، ربما على كل كاتب أن يطرح هذا السؤال على نفسه، وأن يجد الإجابة عنه، لا عبر إجابة مكونة من عدد من الكلمات، بل عبر مشاريع يقوم بها ويكرس نفسه لها.

العالم الثقافي ليس ضدنا، فأن يوقع خلال هذا الشهر أكثر من 5 آلاف كاتب على وثيقة لمقاطعة الكيان الصهيوني ثقافيا، فهذا أمر مذهل، ودائما أسجِّل لحركة المقاطعة دورها في القيام بالكثير على المستوى الثقافي والأكاديمي، قبل أكتوبر 2023 وبعده.

يلزمنا هذا الإجماع الواسع فلسطينيا وعربيا أيضا، لأن العالم الثقافي عالميا يتفوق علينا في هذا المجال في وقوفه الواضح جدا مع فلسطين.

العالم الثقافي ليس ضدنا، فأن يوقع خلال هذا الشهر أكثر من خمسة آلاف كاتب على وثيقة لمقاطعة الكيان الصهيوني ثقافيا، فهذا أمر مذهل

تضامنت أرواح كليمنجارو مع فلسطين في تجربة واقعية وروائية.. كيف تجد امتداد هذه الأرواح مع فلسطين؟

ربما لا تكون كلمة "تضامن" هي الأنسب، لأن العلاقة بيني وبين هذه القضية لا تقوم على هذا الوصف، فهي خيار يوشك أن يكون عمره 50 عاما أمضيتها في الكتابة، وروايتي "أرواح كليمنجارو" رواية قريبة جدا لقلبي، ليس فقط لأنها تمسّ تجربتي المتمثلة في صعودي جبل كليمنجارو، بل بمن صعدتُ معهم الجبل، هؤلاء الأطفال الذي تحدّوا إصاباتهم وبتر أطرافهم وقرروا الصعود.

الرواية تحكي قصة يوسف ونورة اللذين يصعدان جبل "كليمنجارو" بتنزانيا بصحبة متطوعين ليثبتوا للعالم قدرتهم على هزيمة المحتل (الجزيرة)

أما الأرواح التي ساندتهم، وهي لأناس من عدة قارات وعدة أديان من الإسلام إلى المسيحية إلى البوذية وغيرها، فهي الأرواح التي نأمل أن تتعدد وتتكاثر وتكون جزءا في السعي للحياة الحرّة التي يحيا هذا الشعب ويموت من أجلها.

روايتي "أرواح كليمنجارو" رواية قريبة جدا لقلبي، ليس فقط لأنها تمسّ تجربتي المتمثلة في صعودي جبل كليمنجارو، بل بمن صعدتُ معهم الجبل، هؤلاء الأطفال الذي تحدّوا إصاباتهم وبتر أطرافهم وقرروا الصعود

في "طيور الحذر" تتبع بطل الرواية منذ يكون جنينا في بطن الأم.. لماذا اخترت هذا النوع من الخيار الأدبي؟

لكل رواية منطقها الفني، وإذا لم تستطع أن تملك هذا المنطق فإن بناءها الحكائي ينهار.

"طيور الحذر" تعرض حياة الطفولة بجمالها وتعقيداتها وتشير للحذر الذي يتعلمه الأطفال كي لا يصبحوا أسرى للأحداث التاريخية والقيود المجتمعية (الجزيرة)

طيور الحذر كانت بحاجة لهذه البداية، ولولا ذلك لما كان ممكنا أن تُفهم النهاية، أو يُفهم مسار الشخصية والعالم الذي حولها.

كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية؟ وما دورها في التحفيز وتسليط الضوء على الأعمال النوعية؟

الجوائز ليست ظاهرة عربية، إنها ظاهرة عالمية، إيجابية عموما، ولكن على الكاتب أن يُقرر في لحظة ما، ما الجائزة التي يمكن أن يقبل بها، وما الجائزة التي عليه أن يرفضها، والجوائز التي يمكن رفضها مع اتساع عملية التطبيع مع الصهيونية.

كيف يمكن للروائي أن يصنع من الواقع خيالا روائيا مؤثرا؟

ليتني أملك إجابة، فهذا السؤال أطرحه على نفسي مع كل عمل جديد أفكر في كتابته، إذ مع كل كتاب جديد تكتشف أنك تكتب للمرة الأولى وتكون مرتبكا.

ليست الثقة في القدرة على الكتابة هي التي تكتب الروايات، بل الشك في هذه القدرة هو الذي يجعلنا نكتب شيئا مختلفا دائما.

تأثرت في وقت مبكر بالأفلام السينمائية.. كيف يمكن التأثر سينمائيا في ظل زخم كبير من يوميّات الكفاح والجراح؟

لا تناقض أبدا، فالفن حليف الحقيقة في جوهره، ودائما اعتبرت الفيلم الجيد رواية بصرية، وهذا النوع يوازي أحيانا الرواية الجيدة المكتوبة، لذا، فإن مشاهدة عمل سينمائي من هذا النوع فيه غنى وكثافة وأبعاد متجددة عبر هذه اللغة البصرية. منذ طفولتي تعلّقت بالسينما، ولم أزل حتى اليوم أشاهد على الأقل 4 أفلام أسبوعيا من السينما المتنوعة، وأحيانا أشاهد كل يوم فيلما، من اليابان وكوريا حتى كولومبيا والأرجنتين.

هناك تعدد جمالي في السينما وتطوّر فني يفوق أحيانا ما تقدّمه الروايات، ولذا أعتبر السينما مصدرا أساسيا في ثقافتي وكتابتي.

هناك تعدد جمالي في السينما وتطوّر فني يفوق أحيانا ما تقدّمه الروايات، ولذا أعتبر السينما مصدرا أساسيا في ثقافتي وكتابتي

يبحث العديد من الأدباء الشباب عما يمكن أن نسميه خرائط الطريق إلى الإبداع، بِمَ تنصحهم؟

يستطيع أي كاتب أن يوجّه النصائح، ويقدّم الوصايا، لكن العالم لا يأخذ بالوصايا، ربما كان آخر ما قرأته لهمنغواي، فيه الكثير، فهو يقول "إنسَ (ككاتب) مأساتك الشخصية. نحن جميعا غاضبون منذ البداية، يجب أن تتأذى بشدة قبل أن تتمكن من الكتابة بجدِّية. لكن حال تعرُّضك للأذى اللعين، استخدمه، ولا تغش به".

قلت "أنا لا أقاتل كي أنتصر، ولكن كي لا يضيع حقّي"، كيف وُلدت هذه المقولة؟ ومتى؟ وماذا ترى في الانتظار الطويل للانتصار؟

هذا القول وُلِد أثناء كتابتي لرواية "زمن الخيول البيضاء"، وجاءت ضمن تطوّر واحد من أهم أحداث الرواية، في لحظة مفصلية، أمّا ما يجيب على الجزء الثاني من سؤالك، فهي ربما جملة أخرى وردت في الرواية ذاتها أثناء مواجهة الفلسطينيين للاستعمار الإنجليزي والهجمة الصهيونية قبل النكبة، والتي تقول "عمر الرجال أطول من عمر الإمبراطوريات، ولم يحدث أن ظلت "دولة" ما منتصرة إلى الأبد".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات إبراهیم نصر الله یقول إنه خ ل ق هذه الروایة مریم غزة أکثر من بقدر ما یمکن أن کاتب أن التی ت مع زمن من هذا فی هذا

إقرأ أيضاً:

خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»

«إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب: ابتداء الخطاب فعل عسير؛ إنه الخروج من الصمت»

رولان بارت، التحليل النصي

ما أقدمه هنا ليس قراءة شاملة لرواية الروع للكاتب العماني زهران القاسمي، الصادرة عن دار منشورات ميسكلياني 2025. لست بصدد تتبّع النص من ألفه إلى يائه، ولا أزعم أني أُحيط بجسده كله. بل هي قراءة جزئية، انتقائية، تنطلق من قناعةٍ نقدية أن للمفتتح والنهاية سلطة مزدوجة في الفعل الروائي: سلطة التأسيس وسلطة الإقفال.

لذلك، سأقف عند المفتتح، تلك العتبة التي تُشبه الباب الموارب، وحيث تهمس الرواية بأول أسرارها، وعند الفصل الأخير 22)، التي تشبه ارتداد الضوء الأخير في مشهد الغروب، حيث تكتمل الدائرة، أو تنكسر، لا فرق، فكل نهاية هي ضرب من الانفجار أو الانطفاء.

لقد بدا لي بناءً على تفكيكي للنص، أن هاتين المنطقتين – البدء والانتهاء – هما بيت الحيل السردية، والموضعان اللذان تُخزّن فيهما الرواية مجمل مكرها الأدبي، ومفاتيحها الكلية لفهم بنيتها العميقة.

ولعل هذا التأسيس النقدي يتقاطع مع ما قاله رولان بارت في معرض حديثه عن أهمية الافتتاح، إذ يرى أن «قضية افتتاح الخطاب قضية هامة كشفت عنها البلاغة القديمة والكلاسيكية، فقدمت قواعد غاية في الدقة لابتداء الخطاب، وهي، في رأيي، مرتبطة بالإحساس بوجود حبسة متأصلة في الإنسان، وأن الكلام صعب، وربما ليس هناك ما يُقال: إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب؛ إنه الخروج من الصمت. والحقيقة أنه لا يوجد سبب للابتداء من هنا لا من هناك، لأن القول ببنية لانهائية. فدراسة مفتتحات السرد إذن هامة جداً» رولان بارت، التحليل النصي، ص 36-37

بهذا المعنى، يصبح مفتتح رواية الروع ليس مجرد مدخل تمهيدي، بل لحظة كاشفة عن وعي النص باعتباطية «البدء»، كما يسميه بارت، وقلقه البنيوي من الفراغ الذي يسبق القول.

تُعتبر روايات الكاتب العُماني زهران القاسمي مثل القنّاص، تغريبة القافر، وجوع العسل، والروع، محطات سردية تتقاطع فيها العديد من الثيمات والأسئلة المرتبطة بالهوية، والمكان، والزمان، والصراع الوجودي. يتقاسم البطل في هذه الروايات مجموعة من السمات المتكررة: شخصية أحادية تُساق إلى مواجهة وجودية مع الذات، والتاريخ، والمحيط، ضمن عالم يفتقر إلى البدائل.

تتشابك هذه الأعمال ضمن سرديات تحتفي بالشخصيات القروية المهمّشة، التي تتحرك في فضاءات زمانية ومكانية مشتركة، ما يجعل كل رواية إعادة صياغة لذات الوجود، ضمن تمثيلات سردية متباينة.

وإذا كان نجيب محفوظ قد حوّل الحارة إلى كيان سردي مكتمل، لا بوصفها فضاءً مكانيًا فقط، بل كبنية دلالية قائمة بذاتها، تضج بالحياة، وتحتضن عالمًا إنسانيًا شديد الكثافة والتعقيد، فإن الروع، على نحو موازٍ، تُشيّد القرية لا كخلفية للحدث، بل ككائن حيّ ينبض بالسرد، ويتكلم بلسان الجماعة، ويعكس هشاشة الكائن في مواجهة تحولات الزمن.

القرية في رواية «الروع» ليست «مكانًا» فحسب، بل مجاز سردي، تتلاقى فيه الشظايا الفردية بالتاريخ الجمعي، وينتظم فيه التبئير السردي كمنظورٍ حميميّ، يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض، ويُبرز أثر العنف، لا على الفرد فقط، بل على الجماعة كلها.

الروع تأتي امتدادًا لهذا السياق، حيث يواصل الخطاب الروائي تركيزه على صورة البطل الأحادي في مواجهة وجودية ذات طابع كوني، محكومة بإكراهات المكان والزمن، تكرار لا يُفضي إلى رتابة، بل إلى تعميق المستويات الاجتماعية والنفسية للشخصية.

في رواية الروع، يُقدِّم الخطاب الروائي نصًّا يأتي مفتتحه بلغةٍ صادمة، مشبعة بعنف بصري ومجازي، تستفزّ الإدراك الحسيّ والذهنيّ للقارئ، ثم يختتمها بفصول تفتح أفقًا للتأويل المأساوي المفتوح، مستندًا إلى تشكيل معقّد تتداخل فيه السيميائيات (العلامات البصرية واللغوية)، والبعد النفسي، والأسلوبي، في سياق سردي متوتر وعنيف، تتخلله ظلال من الجنون والأسطورة.

في المشهد الافتتاحي، يُشكّل الخطاب الروائي صورة لجسد مصلوب، ممزق ومبتور، على «روع» الحقل، وهو مشهد ينهض على بنية صُوَرية ذات دلالات توراتية وإسلامية، تعيد تشكيل جسد الضحية في خطاب الشهادة والتضحية واللعنة معًا. الجسد هنا ليس كيانًا فرديًا، بل علامة سردية كبرى تحيل إلى انهيار النظام للعالم. نقرأ: «جثة بلا رأس، بلا كفين أو قدمين، تمثل مصلوبة على روع الحقل».

هذه الجملة الأولى تنهض كبنية افتتاحية مكثفة، يمكن أن نحللها على ضوء ما يسميه رولان بارت بـ«اللحظة الدالة»، حيث يخترق المشهدُ القارئَ باختلاله البنيوي. المفردة الأولى «جثة»، ذات الحمولة الجنائية/ الإجرامية والإيحائية بالنعيم والخلاص، تقابلها البنية البصرية العنيفة للجسد المبتور والمصلوب، وهو ما يخلق مفارقة دلالية تعمل كسيمياء سلبية للجثة، أي جثة الموت واللعنة، لا النعيم. الجثة إذًا جسدٌ يُستخدم بوصفه علامة للخراب، لا النجاة.

ينتقل الراوي بعد ذلك إلى وصف رد الفعل الجسدي والنفسي للبطل محجان، مستخدمًا استراتيجية أسلوبية تعتمد على التهويم النفسي، وتداخل التخييل مع الواقع، مما يجعل البنية الزمنية متصدعة وغير خطية. تتجسد هذه التقنية في جملة مثل: «اسودت الدنيا في عينيه، وكأن جاثوما يضغط عليه ويُكبّل حركته».

هنا تظهر تقنية التناص النفسي مع أدبيات الكوابيس والتراث الشعبي عن الجاثوم، ويغدو الحدث جزءًا من كابوس غير قابل للتصديق أو الإدراك الحسي الواضح، وهي آلية بنيوية تفكك الحكاية المركزية وتعيد تشكيلها ككابوس سردي دائم.

تُقدَّم شخصية محجان لا بوصفها شاهدة على العنف فحسب، بل باعتبارها متورطة في بنية السرد كمفعول به مستلب. يبدأ بمحاولة تفسير المشهد بوصفه «كذبة»، وهو ما يحيل إلى تفكيك مفهوم «الواقعي المتخيل»، حيث ينهار الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم: «هذا حلم». «سيقوم من مكانه. ثم أغمض عينيه، وحين فتحهما لم يحدث شيء».

هذه اللعبة السردية بين الواقع والهلوسة تشكّل تيمة متكررة في الرواية، كما أنها تقود البنية السردية إلى نوع من اللايقين، الذي يعمّق تأويل الجريمة كفعل غامض، غير متحدد الهوية أو المصدر، مما يضاعف أثره السيميائي.

في الفصول الأخيرة، نلاحظ انتقالًا من الكثافة والانفعالية إلى الحط من شأن الحدث نفسه بطريقة مأساوية ساخرة. نقرأ «حسيت كأني أنا المصلوب».

بهذه الجملة، ينهي السارد، أو محجان نفسه، كل مسافة بين الجسد المصلوب وجسده، ويقع التماهي التام، وهو ما يعكس التقاطع الزمني بين زمن القصة وزمن الحكاية. الجملة تكرّر على لسان الشخصية في حكاياتها المتكررة، لتصبح لازمة سردية، وكأنها استعاضة عن فعل الفهم أو التفسير. التكرار هنا يحمل وظيفة ميتاسردية، حيث تصبح الحكاية تبريرًا للحكاية، وتتحول إلى نمط ثابت في محاولة عقلنة الكابوس.

لكن هذه المحاولة تنقض نفسها عند الختام، حين يتأكد الخراب في الحقول، و«رتعت فيها الحمير»، ويختلط المشهد الكابوسي بالواقع اليومي للحياة القروية. وتتحول الأرض من حضن للخصب إلى حضن للفوضى «لقد رتعت فيها الحمير وجاست خرابًا ودمارًا في حقول القمح والقت والذرة، وحطمت كروم العنب، وداست أقدامها اليابسة المجففة كل زهرٍ يانع، وكسرت كل غصن طري»

هنا، نصل إلى المفارقة الصادمة، إذ تقابل صورة المصلوب العالي، المهيب، بالحمير العابثة، في مشهد يبدو عبثيًا، لكنه ينطوي على عمق نقدي للبنية المجتمعية وقيمها. يظهر ذلك في تداخل علامات الحياة (القمح، الذرة، العنب) مع فعل التخريب، وتكثيف مفارقة الحياة/الموت.

تتجلى الخاتمة في رواية الروع بوصفها بلوغًا أيقونيا لذروة التوتر الدرامي والتحول النهائي في الشخصية المركزية، محجان، الذي تتصاعد هواجسه ليبلغ لحظة الاندماج الكلي مع الروع، في طقس شعائري يمزج بين الصوفية، والوجودية. هذا التلاحم بين الجسد والتمثال لا يُقرأ إلا بوصفه إعلانًا صريحًا عن فناء الفرد في الكائن الأسطوري الذي صنعه، ودخولًا في طور من التقديس والتطهّر عبر النفي والاحتراق والاختفاء.

يفتتح هذا الفصل بلحظة نصر زائف، إذ يشعر محجان بـ»نشوة عظيمة»، وتبدو هذه النشوة تعبيرًا عن اكتفائه الذاتي بعد القضاء على الأرواع المنافسة. يقول السارد:

«البلاد التي تكثر فيها الأرواع ستتحول إلى مجرد هياكل منصوبة لا روح فيها ولا تخيف أحدًا أبدًا».

يتضح أن محجان يخشى الفراغ الرمزي، لا تعدد الرموز، فيقرر ترسيخ رمز واحد: روعه التي يعتبرها الحقيقية الوحيدة. هذه الفكرة تستبطن نقدًا مبطّنًا لهيمنة الفردانية وسطوة التمركز حول الذات.

يختار محجان أن ينسحب من مجتمع القرية ويغتسل، في مشهد طقوسي مهيب. ينزل إلى الحوض ويطفو على الماء، وكأننا أمام طقس عماد مقلوب، لا لتطهير الخطيئة بل لتأكيدها. يقول السرد:

«استلقى على صفحة الماء مسترخيا، مد يديه مثل طائر حر يحلق في الأعالي، وغرق في تأمل انتصاراته التي أحرزها».

هنا تتقاطع عناصر رمزية متشابكة: الماء، التحليق، الصمت، التأمل، وكلها تنتمي إلى سياقات التطهير، لكنها تقود إلى لحظة تشييد «الذات الجديدة» التي لا تجد تمام تحققها إلا بالذوبان في الجسد الآخر، جسد الروع.

الاندماج الجسدي مع الروع يتخذ صورة صوفية بامتياز، لكنه لا يُقرأ في سياق عشق إلهي، بل كتحقق لكائن ظلّ يتشكل طوال الرواية. فعل «الصَلب» على جسد الروع يخلط بين الأيقونية الدينية (الصلب المسيحي) وبين الطقس الصوفي الحلاجي، لكنه هنا يقلب دلالاته المعتادة. يصف النص:

«التحم بها، ووضع ساعديه على ساعديها، وصالبا نفسه على جسدها».

بهذا الفعل تتحول الروع من مجرد تمثال رمزي إلى كائن حي، حارس للجثة التي نحتها محجان بنفسه.

القرية، وهي الكيان الجمعي الذي طالما ناصبه محجان العداء الرمزي، تُترك في حالة من الهلع والضياع السردي.

«فرّوا هاربين وأطلقوا أرواحهم تسابقهم من شدة الخوف».

لتتشظى الحقيقة وتصبح الحكاية شلالًا من التأويلات:

«انهمر مطر الحكايات حتى أصبح جداول وشلالات بلا عدد».

وهنا تبرز استراتيجية روائية بارعة تعيدنا إلى بنية «المغايبة» في الحكاية الشعبية العمانية: البطل الغامض، الاختفاء، تعدد الروايات، وشيوع الخوف في الغياب، لا في الحضور.

يكتمل الانسحاب الاجتماعي برحيل الزوجة إلى الجبل، في لحظة شعورية مضطربة، لكنها حاسمة؛ «خرجت في الظلمة القائمة متسللة من القرية نحو الجبال واختفت».

هذا الاختفاء الأنثوي الموازي لاختفاء محجان يعيد تأكيد القطيعة النهائية مع المجتمع القروي الذي فشل في فهم أبطاله، أو في احتوائهم.

التحول الأخير لمحجان إلى تمثال حيّ، إلى «روع» قائمة وسط الحقول، يمنح الرواية نهايتها المفتوحة: اختفاء البطل، ذوبانه في كيان رمزي، تحوله إلى حكاية شعبية، كل ذلك يجعل من الخاتمة إعادة إنتاج لبنية الرواية كلها، إذ يتمدد الخيال الشعبي ويصير واقعة، وتتقاطع الأصوات لتؤسس أسطورة تتردد في فضاء ملبد بالدخان والحيرة، حيث لا حقيقة واحدة بل تأويلات مفتوحة.

ختام الرواية لا يُغلق القوس السردي، بل يفتحه على مصراعيه، ويعيد تشكيل العالم وفق منطق الأسطورة لا العقل، وفق الخوف لا الفهم. في هذا الانفتاح على الغرائبي والمجهول، تحتفل الرواية بالروحي الشعبي كمنقذ من سطوة الواقعي، وكمأوى للهاربين من اليقين.

تتجلى تمظهرات البنية الشفوية في الخطاب الروائي لدى زهران القاسمي في نصه (الروع)، من خلال توظيفه لقوانين الحكاية الشعبية كما صاغها العالم الدنماركي (أكسل أولريك، الحكاية الخرافية، ص 149-168)، ويتضح ذلك عبر تتبع البنية السردية للنص/ الرواية، وبرغم انتمائها إلى السرد الواقعي النفسي، تتكئ على بنى تقليدية مستمدة من الحكاية الشفوية، مما يعكس وعيًا عميقًا بالتراث السردي الشعبي. يقدم النص قراءة تفصيلية لعناصر الرواية في ضوء القوانين الثمانية التي وضعها أولريك، من أجل إبراز التلاقح بين السرد الحداثي والإرث الحكائي التقليدي.

تتمركز الرواية حول شخصية «محجان»، وهو رجل هامشي في مجتمعه القروي، يعاني من العزلة والخوف ويجسد نموذج البطل المقهور والمهمّش. هذا التمركز الكامل حول شخصية واحدة يُطابق ما أشار إليه أولريك في قانون «البطل الواحد»، حيث تنبني الحكاية على شخصية محورية تُشكّل عمودها الفقري. تبدأ الرواية بمشهد غريب ومفاجئ: صراخ محجان صباحًا، مما يُهيئ القارئ للدخول في عالم غرائبي ومضطرب، وتنتهي بفعل درامي حاسم يتمثل في إحراق الحقول. هاتان النقطتان تشكّلان بداية ونهاية مغلقتين، وفق ما يسميه أولريك «الإطار الثابت»، وهو ما يمنح النص قوة سردية تشبه الطقوس الحكائية التي تُروى شفويًا.

التكرار يظهر بصورة لافتة في الرواية، سواء على مستوى المضمون أو اللغة، إذ تتكرر مظاهر التهميش والسخرية التي يتلقاها محجان من أهل قريته، كما تتكرر مشاهد خوفه وصراخه وانكفائه على ذاته. هذا التكرار لا يخدم فقط الجانب التقريري، بل يعمّق الإيقاع ويُشيد نسقًا دائريًا يجعل المتلقي يُشارك في خلق الإيقاع. من جهة أخرى، فإن البنية الصراعية في الرواية تقوم على مبدأ التضاد؛ إذ يتقابل محجان مع الجماعة، الصمت مع الضجيج، الهامش مع المركز، والعجز مع الانفجار. هذا التضاد هو أحد القوانين البنيوية التي لاحظها أولريك في السرد الشعبي، حيث يُبنى التوتر الدرامي عبر الثنائيات المتقابلة.

السرد في الروع يتسم بالبساطة والوضوح، فلا نجد تعقيدًا في بنية الزمن، ولا تنقّلًا بين وجهات نظر متعددة، بل يمتدّ السرد في خط واحد واضح، مع التركيز على فعل مركزي تتكثف حوله الأحداث، ما يُقارب الحكاية الشفوية في بنيتها السردية. هذه الخطية لا تعني الفقر الدرامي، بل تُعزز من قدرة السرد على ترسيخ الفعل المأساوي في وعي القارئ. من أبرز ما يميز الرواية أيضًا نهايتها الحاسمة، إذ يتحول محجان من شخصية مسالمة ومنكفئة إلى فاعل مدمر، حيث يقوم بإحراق الحقول، في فعل يبدو انتقاميًا ولكنه يعكس تراكمًا داخليًا طويلًا من القهر والخوف. هذه النهاية تمثّل ما يُسميه أولريك «التحول الحاسم»، حيث يُغلق النص بفعل يحرّر التوتر المتراكم.

رغم أن الفعل الأخير (الحرق) قد يبدو غير عقلاني ظاهريًا، فإن تطور الحبكة، والبناء النفسي للشخصية، يبرران هذا التحول ضمن منطق داخلي متماسك، وهو ما يُشير إليه أولريك في «قانون المنطق الداخلي»، حيث لا يُحاكم الفعل بمعايير عقلانية خارجية، بل وفق نسق نفسي وسردي داخلي يخلق منطقه الخاص. كذلك، يُلاحظ نوع من التوأمة الرمزية في شخصية محجان، فهو يبدو في ظاهره رجلاً وديعًا، خائفًا، ضعيف الحيلة، لكنه في باطنه يحمل كائنًا ناقمًا وغاضبًا ومشحونًا بطاقة مدمرة. هذه الثنائية تُعيدنا إلى ما يسميه أولريك «قانون التوأمة»، حيث يظهر البطل في صورتين متقابلتين، يختبئ أحدهما خلف الآخر إلى أن يقع التحول السردي.

إن رواية الروع، رغم حداثة شكلها، تظل على صلة عميقة بالبنية الشفوية التي تُشكّل أساس السرد الشعبي العربي، بل والعالمي، كما درسها أولريك. وهذا التواشج بين الحداثي والشعبي لا يأتي في الرواية عرضًا أو تزيينًا، بل هو جوهرها البنيوي والدرامي. ومن خلال هذا المنظور، يتضح أن زهران القاسمي يُعيد، بشكل غير مباشر، إنتاج الذاكرة الجماعية في بنية حكائية حديثة، ما يجعل روايته نصًا مفتوحًا على التحليل من داخل علم الفولكلور. فـ الروع ليست فقط قصة رجل هامشي انفجر في وجه مجتمعه، بل هي إعادة سرد لقصة الإنسان حين يصبح ضحيةً للخوف المتراكم. وبذلك، تُقدّم الرواية مثالًا حيًا على إمكانية تلاقح الرواية الحديثة مع الإرث الشفوي التقليدي، مما يمنح السرد العربي المعاصر بُعدًا هوياتيًا مزدوجًا: ينتمي للماضي ويتكئ على الحاضر، ويتجاوز الثنائية المعتادة بين الحداثة والتراث.

‐-----------------------------------------------

المراجع:

- رواية الروع، زهران القاسمي، دار ميسكلياني، تونس، 2025

- نظريات السرد الشعبي، عبد الحميد أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004

- الحكاية الخرافية، فردريش فون، ديرلاين، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، دار رؤية للنشر والتوزيع، 2016

- التحليل النصي، رولان بارت، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، منشورات الزمن، 2000

مقالات مشابهة

  • ما حكم لبس السلاسل الفضة للرجال؟.. أمين الفتوى يُجيب
  • إجراء تعديل على أحد أطول خطوط إسطنبول.. ما السبب؟
  • كسوة الكعبة.. تعرف على أول من كساها من الرجال والنساء وسبب لونها الأسود
  • عمار بن حميد والشيوخ يعزّون بوفاة محمد إبراهيم عبيدالله
  • بغداد تستعد لدخول موسوعة غينيس عبر أطول لوحة فنية في العالم
  • قسد ترفض رواية دمشق: لا علاقة لمخيم الهول بتفجير كنيسة مار إلياس
  • عاجل| الصحة الفلسطينية: 3 شهداء و7 مصابين في عدوان مستوطنين على بلدة كفر مالك شمال شرق رام الله
  • خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»
  • قصة رواية بلغت العشرين
  • لماذا النزوح العربي إلى الرواية التاريخية؟