سلط محلل الشؤون الدولية، ألكسندر لانجلوا، الضوء على دور دول الخليج في الأزمة السياسية والاقتصادية الطاحنة في لبنان، مشيرا إلى أن دولتين رئيسيتين في مجلس التعاون الخليجي يقودان جهدًا مشتركًا داخل "لجنة كوينسي"، وهما السعودية وقطر، إلى جانب مصر وفرنسا والولايات المتحدة.

وذكر لانجلوا، في تحليل نشره موقع "منتدى الخليج الدولي" وترجمه "الخليج الجديد"، أن اللجنة تعد "صفقة كبرى" من شأنها أن تحل الفراغ الرئاسي في بيروت، إضافة إلى إسناد الإصلاح الاقتصادي والتعيينات السياسية مثل محافظ البنك المركزي.

وحال تمرير الصفقة، سيكون للرياض والدوحة دور جوهري فيها، وكذلك إيران، الأمر الذي قد يضع العلاقة المتجددة بين طهران والرياض في أول اختبار جاد لها، بحسب لانجلوا.

والتقى أعضاء كوينسي في 17 يوليو/تموز الماضي بالدوحة لمناقشة المأزق السياسي المستمر في لبنان بعد زيارة المبعوث الفرنسي الخاص، جان إيف لودريان، إلى البلاد في أوائل الشهر ذاته، وناقشوا ملف اختيار الرئيس اللبناني ورئيس البنك المركزي اللبناني والاصلاح الاقتصادي والقضائي.

 وشملت مباحثات أعضاء اللجنة الحديث عن "إجراءات" محتملة ضد الكيانات التي "تعرقل" الانتخابات الرئاسية في لبنان، قد تشمل عقوبات سبق أن هدد بها الاتحاد الأوروبي، لكنه فشل إلى حد كبير في تنفيذها.

وأطلع لودريان وفود كل دولة على مشاوراته مع القادة السياسيين اللبنانيين، وسط شائعات عن مؤتمر للحوار الوطني في الرياض بمختلف وسائل الإعلام اللبنانية، ما يشير إلى اهتمام قطر والسعودية القوي بالانخراط في الشأن اللبناني.

وزادت قطر مشاركتها في الشأن اللبناني خلال السنوات الأخيرة، لملء الفراغ الذي خلفه فك الارتباط النسبي للسعودية عن البلاد خلال نفس الفترة.

وكان التحول الذي شهدته الرياض، في وقت سابق من عام 2021، بسبب عجز البلاد عن منافسة خصمها اللدود (إيران) ووكيلها، حزب الله في لبنان.

أزمات لبنان

ويرى لانجلوا أن السبب الجذري لأزمات لبنان المتشابكة يكمن في "طبقة سياسية رسّخت الفساد ونظام المحسوبية لمنع الإصلاح وإثراء نفسها".

وفي هذا الإطار، يختار نواب بيروت حماية مصالحهم من خلال إلقاء اللوم على بعضهم البعض في مشاكل البلاد.

 ومنذ ترك آخر رئيس للبنان، ميشال عون، منصبه، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي دون خلف، صوت البرلمان 12 مرة متتالية لملء المنصب الشاغر، دون جدوى، بسبب التناحر الداخلي.

وسمحت هذه الديناميكية بسيناريو فريد ولكنه استقطابي بالتصويت الأخير، في 14 يونيو/حزيران، الذي شهد تكاتف كل من الأحزاب المسيحية الرئيسية لانتخاب وزير المالية السابق والمسؤول في صندوق النقد الدولي، جهاد أزعور، وكان التصويت غير مسبوق بالنظر إلى الطبيعة المتصدعة للكتلة المسيحية، لكن حزب الله وحلفائه، الذين يدعمون النائب المردة الموالي لسوريا، سليمان فرنجية، منع التصويت.

وأثر عدم قدرة بيروت على انتخاب رئيس جديد بشكل مباشر على قدرة لبنان على الحكم القانوني وشغل الأدوار الحاسمة، إذ أن الرئيس هو الذي سيفوض حكومة جديدة ورئيس وزراء جديد.

وأثار الوضع جدلاً حادًا بين السياسيين اللبنانيين حول دور الحكومة المؤقتة الحالية بقيادة رئيس الوزراء بالإنابة، نجيب ميقاتي.

اقرأ أيضاً

انتخاب رئيس لبنان.. جهود فرنسية قطرية وخلوة مسيحية لحلحلة الأزمة

وتعمل هذه الأزمة الدستورية على توسيع حدود الحكومة في أسوأ وقت ممكن، وهو الوقت الذي يتطلب تعيين محافظ جديد للبنك المركزي.

وانتهت ولاية محافظ البنك المركزي السابق، رياض سلامة، في 31 يوليو/تموز، ما ترك حالة من الارتباك تحيط بدور نوابه الأربعة وإدارة البنك.

وسلامة متورط في تحقيقات فساد في عدة دول، بما في ذلك لبنان، ما قلل الثقة في النظام المصرفي اللبناني وزاد من التدهور الاقتصادي في البلاد.

ويركز القادة اللبنانيون والمجتمع الدولي بشكل خاص على ضمان الاستقرار في البنك، بالنظر إلى أهميته لأي مظهر من مظاهر الاستقرار النقدي.

ويرجح لانجلوا أن يكون هذا القلق هو سبب قبول النائب الأول للمحافظ، وسيم منصوري، على مضض دور المحافظ المؤقت في اليوم الذي انتهت فيه ولاية سلامة.

دور الخليج

غير أن لانجلوا يشير إلى أن حل مشاكل لبنان أكثر تعقيدًا من مجرد عرض المشاركة الدولية في حل أزماته، مؤكدا أن قطر والسعودية في وضع فريد للعب دور قوي في معالجة هذا التعقيد.

لكن حل العدد الأكبر من القضايا المطروحة وسط مجموعة من الدائنين الدوليين الذين سئموا منح الطبقة الحاكمة الفاسدة في لبنان خطة إنقاذ أخرى، سيتطلب درجة عالية من الصبر، وهو أمر يفتقر إليه لبنان بوضوح.

لكن في نهاية المطاف، سيجد أصحاب المصلحة السياسيين في بيروت أنفسهم مضطرين لقبول أن التغيير ضروري لإنقاذ بلدهم، كما أوضح كل عضو من أعضاء كوينسي في بيانات مشتركة.

وتركز اللجنة بشكل أساسي على ملف الرئاسة اللبنانية، بالنظر إلى الدور القانوني للمنصب في تشكيل حكومة يمكنها شغل المناصب الوزارية الحاسمة.

ومن المحتمل أن يظل هذا محور تركيز كوينسي، خاصة بعد أن أصدر نواب محافظي البنك المركزي خطة نقدية يمكن تنفيذها في غضون انتخاب الرئيس الجديد.

ويمكن لمقترحات مثل إنهاء التمويل "المجاني" للحكومة، في ظل غياب ميزانية حكومية للعام المالي 2023-2024، اتخاذ موقف أكثر صرامة من خلال اقتراح قانون يحد من اقتراض الخزانة، بيمكن أن يساعد في حل العجز المتزايد في لبنان، ما أدى إلى نزيف بقيمة 25.5 مليار دولار في 4 سنوات.

ومن شأن هكذا الخطة أن تمنح لبنان مزيدا من الوقت وأن تضغط على النواب لحل القضايا السياسية التي تمنع تشكيل الحكومة.

اقرأ أيضاً

وزير خارجية لبنان: العلاقات مع الخليج تحسنت إلى حد بعيد

من هنا، يؤكد لانجلوا أن الإصلاحات الاقتصادية اللاحقة، التي يطالب بها صندوق النقد الدولي قبل أي خطة إنقاذ مالي، مهمة جبارة، مشيرا إلى أن كل عضو من أعضاء كوينسي يتمتع بنفوذ في هذا الصدد، حيث تلعب السعودية وقطر دورًا مهمًا بلما لهما من موارد اقتصادية كبيرة.

وكانت الرياض قد خسرت نفوذا في لبنان خلال كارثة عام 2021 بعد انسحاب حليفها الرئيسي، تيار المستقبل، من السياسة، ومع ذلك أدت عودتها إلى المشهد السياسي اللبناني في أوائل عام 2022 إلى إنشاء صندوق تنمية مشترك جديد مع فرنسا بقيمة 30 مليون دولار.

ومنذ ذلك الحين، أعادت الرياض الانخراط في الشأن اللبناني، وإن كان بدرجة أقل مما كانت عليه في الماضي، وهو اتجاه شهدته المنطقة في الوقت الذي شددت فيه المملكة مواردها المالية.

دور قطر

وفي هذه الأثناء، كانت قطر الدولة الخليجية الوحيدة التي تجنبت انتقاد بيروت في عام 2021، واختارت بدلاً من ذلك شراء حصة 30% في حقول الغاز البحرية اللبنانية والتبرع بـ 60 مليون دولار للجيش اللبناني. وفي هذا السياق، كانت الدوحة داعماً قوياً للحياد في جميع أنحاء المنطقة، ولا سيما في لبنان.

 ولعبت قطر دوراً رئيسياً في استقرار لبنان عبر تاريخه، وساعدت في إعادة بناء عدة بلدات في جنوب لبنان بعد حرب حزب الله مع إسرائيل عام 2006 ورعت مؤتمر الحوار الوطني اللبناني في عام 2008، ما أسفر عن اتفاق الدوحة، الذي أنهى أزمة سياسية مماثلة، لكن عنيفة، استمرت 18 شهرًا في البلاد.

ودعت الحكومة القطرية إلى إشراك إيران في المحادثات الخاصة بلبنان في وقت مبكر من فبراير/شباط الماضي، وهو أمر ضروري لحل المشاكل السياسية في البلاد.

ولهذه الأسباب، يرى لانجلوا ان الدوحة مناسبة بشكل خاص للجمع بين الفصائل اللبنانية المتنافسة للتوصل إلى اتفاق، ففي حين أن أعضاء كوينسي الآخرين يتمتعون بنفوذ على مجموعات محددة مطلوبة للتوصل إلى هذا الاتفاق، يمكن لقطر أن تلعب دورًا حاسمًا كوسيط محايد أكثر فاعلية بكثير من أي من أصحاب المصلحة الآخرين.

كما يرجح لانجلوا أن تلعب السعودية دورًا رئيسيًا في التوصل لحل بلبنان، رغم تراجع دورها في التأثير على كتل البرلمان اللبناني، استندا إلى قدرتها على العمل مع إيران، في ضوء الانفراج الأخير في العلاقات بين البلدين، ما يؤشر إلى إمكانية الحصول على تأييد الأخيرة ودفع حزب الله بعيدًا عن موقعه الحالي أيضًا.

ويعتبر لانجلوا أن مثل هذه النتيجة ستكون نجاحًا هائلاً للصفقة السعودية الإيرانية التي توسط فيها الصينيون، وترسيخ لتجاوز حزب الله حدوده، بعدما اختار إبقاء الدولة اللبنانية في حالة اضطراب، بينما اختارت الجهات الدولية الفاعلة إنقاذ البلاد مرة أخرى دون أي إصلاحات جادة.

وبحسب لانجلوا فإن الصعوبة في حل الأزمة اللبنانية تكمن في إبرام صفقة تحمل روابط إقليمية مع مناطق المنافسة الأخرى بين إيران والسعودية، مثل اليمن أو سوريا، مع زعزعة النظام اللبناني الحالي، دون إبعاد للأحزاب التقليدية، في الوقت نفسه.

اقرأ أيضاً

ميقاتي: لبنان ملتزم بعدم الإساءة إلي دول الخليج

المصدر | منتدى الخليج الدولي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: الخليج لبنان فيصل بن فرحان البنک المرکزی حزب الله فی لبنان

إقرأ أيضاً:

سلاح حزب الله في السياقين اللبناني والإقليمي

ما إن وضعت الحرب الإسرائيلية على لبنان أوزارها، حتى تصدّر سلاح حزب الله أجندة السجالات اللبنانية الداخلية، وتقدم على غيره من العناوين، "الأولى بالرعاية"، من قبل الموفدين والمبعوثين العرب والدوليين، تارة تحت شعار "نزع الذرائع"، وأخرى تحت عنوان "حصرية السلاح" بيد الدولة، التي تمتلك وحدها قرار الحرب والسلم.

ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر، دخل "سلاح المخيمات" على خط السجال متعدد الأطراف، بانتظار زيارةٍ يَنظر لبنانيون كثر إليها بوصفها "محطة تاريخية"، حيث من المقرر أن يصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال أيام، إلى بيروت، لإجراء محادثات مع الرئاسات اللبنانية الثلاث، حول نزع السلاح الفلسطيني.

خريطة المواقف المحلية من مسألة "السلاح" معروفة تمامًا، جذورها ضاربة في زمن حروب الطوائف، الأهلية قبل نصف قرن، وتعمقت أكثر في مناخات "الفالق الزلزالي المذهبي" الذي ضرب البلاد والمنطقة في ربع القرن الأخير.

بيدَ أن جديدًا طرأ على حراك المواقف والمواقع اللبنانية، لم يعهده حزب الله منذ تأسيسه، وأعني به انتقال الدولة بمؤسساتها السيادية، من رئاسة وحكومة وغالبية نيابية، إلى تبني مطلب "حصرية السلاح" و"احتكار قرار الحرب والسلم"، بعد إسقاط ما كان يسميه الحزب بـ"المعادلة الذهبية": شعب وجيش ومقاومة. هذه المعادلة لم تعد قائمة اليوم، ولم يعد السلاح يحظى بالمظلة الرسمية / الشرعية التي تمتع بها سنوات طوالًا.

إعلان

جديدٌ آخر طرأ على المشهد اللبناني، يتمثل في انتقال الجدل حول "السلاح" إلى داخل حزب الله و"الثنائي الشيعي" والبيئة الاجتماعية الحاضنة. ما كان يقال بالأمس، همسًا وعلى الهوامش، بات يقال اليوم، علنًا وفي المتن، والأسئلة المكتومة من قبل، أخرجتها الحرب ونتائجها المروّعة إلى العلن من بعد، لا سيما مع تفاقم مأزق "فراغ القيادة" الذي خلّفه رحيل القائد الكاريزمي للحزب "والمحور"، السيد حسن نصرالله.

وثمة تقديرات جادة، أخذت تستشرف تحولات وتبدلات في الحزب وبيئته، تسمح بالاعتقاد بأن تجربة احتكار "الثنائي" للتمثيل الشيعي في لبنان، قد لا تستمر طويلًا، وأن الباب بات مفتوحًا لنشوء قوى ومراكز جديدة على الساحة "الشيعية السياسية اللبنانية"، ولنا فيما واجهه الحزب والثنائي من تحدي العائلات والمجتمع المدني والمستقلين في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة في لبنان، ما يمكن أن يُعدّ بواكير وإرهاصات مرحلة جديدة.

في موضوع "السلاح" حصرًا، وبمعزل عن المراجعات التي يشهدها الحزب وحلفاؤه وبيئته حول مختلف الشعارات والمُسلمات التي حكمت مواقفه وسلوكه وأداءَه في الحرب، يرى مقرب من الحزب أن من المشروع طرح السؤال حول وظيفة السلاح من جديد، بعد سنوات من النظر إليه بوصفه مسلمة من المسلمات، وواحدة من ثوابت المعادلة اللبنانية الداخلية والإقليمية.

فهذا "السلاح" كانت له ثلاث وظائف: الردع، الحماية والتحرير، وكانت كل وظيفة منها كافية لـ"شرعنته"، وتسويق الاستمساك به وتسويغه، بيد أن أيًا منها لم يعد قائمًا اليوم، فإسرائيل نجحت في "تكسير" معادلة "الردع المتبادل" التي أنشأها الحزب بعد حرب 2006، ولبنان من جنوبه إلى بقاعه، مرورًا بضاحيته، بات بلا حماية، وعرضة لاستباحة وعربدة إسرائيل.

أما التحرير فقد بات مهمة أجيال قادمة، إن ظل الحال على هذا المنوال، والمؤكد أنه ليس مطروحًا على جدول الأعمال "العملي" للحزب وأنصاره، وإن كان ما زال مدرجًا في الخطاب و"المبادئ".

إعلان

ويستشعر الحزب مأزقًا في خياراته. فالصبر و"ضبط النفس" و"كظم الغيظ"، لا تقلل من المخاطر المترتبة على استمرار إسرائيل في استنزاف الحزب في بنيته المادية والبشرية، ولا من تداعيات هذه الاستباحة على روح ومعنويات بيئته الشعبية، وتفضي إلى تآكل متسارع في منسوب الثقة بالحزب وسلاحه، موقعه ودوره.

وفي المقابل، فإن قيام الحزب بالرد على الغطرسة الإسرائيلية المتمادية، ليس من شأنه سوى إشعال فتيل حرب جديدة، ستُمارس خلالها آلة الحرب الإسرائيلية أعلى درجات "التوحش"، ومن دون رقيب وحسيب، بل ربما بتشجيع من أطراف محلية وعربية ودولية، تريد لمهمة استئصال الحزب وسلاحه، أن تكتمل، وإن على طريقة نتنياهو.

بين هذين الخيارين المُرين، اعتمد الحزب خيارًا ثالثًا، إذ وضع مسؤولية وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، وإخراج الإسرائيليين من النقاط الخمس وتحرير الأسرى، في عهدة الدولة اللبنانية، وهو لا يكف عن ممارسة الضغوط على مؤسساتها، لكي تفعّل دبلوماسيتها وتستخدم ما بحوزتها وبحوزة أصدقاء لبنان، من أوراق لإنجاز هذه الأهداف، وهو في سبيل تسهيل المهمة على الدولة، يلتزم ضبط النفس الكامل، ويتعاون مع الجيش اللبناني جنوبي الليطاني، في عملية تسليم الأسلحة والمواقع، ما أتاح لرئيس الجمهورية القول إن 90 بالمئة من مهمة الجيش في الجنوب، قد أنجزت تمامًا، ومن دون معوقات.

لكن الحزب، وهو يراهن على "خيار الدولة" في تحقيق ما أخفق هو في تحقيقه: وقف العدوان، الانسحاب الكامل وتحرير الأسرى، يعرف في دواخله الحدود الضيقة لما يمكن للدبلوماسية أن تجترحه من معجزات، وهو يعرف في قرارة نفسه، أن الدولة لكي تنجح في مسعاها، عليه هو بالذات، أن يدفع الثمن، ودائمًا من "كيس سلاحه"، ليس في الجنوب فحسب، بل وفي كل الأراضي اللبنانية، وليس سلاحه وحده، بل سلاح حلفائه من لبنانيين وفلسطينيين كذلك. هي معضلة خيارات، أحلاها مُرّ، تضع الحزب في حالة من "التيه".

إعلان

ومما يزيد طين الحزب وخيارته، بِلّةً، أن ليس ثمة من خيار سهل لدمج سلاحه ومسلحيه في أجهزة الدولة العسكرية والأمنية، فليس ثمة من "نظرية للأمن الوطني اللبناني"، متفقٍ عليها، أو تحظى بدعم غالبية وازنة من اللبنانيين، وليس ثمة من "إستراتيجية دفاعية" طال الحديث فيها وعنها من دون أن ترى النور حتى الآن.

فلا سيناريو "الحشد الشعبي" مقبول من الرئاستين؛ الأولى والثالثة ومعهما فريق وازن من اللبنانيين، ولا صيغة الإدماج الفردي للمقاتلين في صفوف الجيش والأمن، مقبولة كذلك، بالنظر لأنها ستهدم أركان نظام "المحاصصة" في الوظائف والتشكيلات والتعيينات المعتمدة في لبنان، دع عنك جانبًا "الفيتوهات" التي ستنهال على لبنان من الخارج، حال الأخذ بأي صيغة من الصيغتين. يمكن لخيار "الدمج الفردي" لعناصر من الحزب أن يوفر حلولًا جزئية للمعضلة، بيد أنه لا يعالج مستقبل "جيشٍ" من المقاتلين الأشداء والمجربين، الذي أنشأه الحزب على امتداد عقود أربعة.

ومثلما يجد الحزب صعوبة بالغة في تسويق بقاء السلاح والحفاظ عليه لدى جمهرة الخصوم، وحتى بعض الحلفاء الذين أخذوا ينفضون من حوله، تجد الدولة نفسها في مأزق خيارات للتعامل معه ومع سلاحه. فثمة في الداخل والخارج، من يستعجل "نزع السلاح"، ويضعه شرطًا مسبقًا للفرج والانفراج. وثمة أطراف متشددة، لا تمانع اللجوء إلى "خيار القوة" لفعل ذلك.

لكن لبنان ما زالت لديه كثرة من العقلاء- في مقدمهم رئيس الجمهورية- الذين يرون أن "الحوار" وليس "القوة"، هو السبيل الوحيد لفعل ذلك، وأن اللجوء لخيارات عنيفة، محمّل بنذر عودة الحرب الأهلية، وخراب لبنان، على يد أبنائه هذه المرة، بعد أن ألحقت به إسرائيل خرابًا عميمًا في أشهر الحرب الوحشية عليه.

والأهم من كل هذا وذاك، أن خيار اللجوء إلى القوة، قد لا ينتهي بنزع سلاح الحزب، وإنما بتسليح بقية الأحزاب والأطياف والطوائف اللبنانية، وتلكم نتيجة يخشاها معظم اللبنانيين، الذين استذكروا بالأمس القريب فقط، الذكرى المؤلمة لحافلة عين الرمانة، شرارة الحرب الأهلية قبل خمسين عامًا.

إعلان

السلاح في بُعدَيه الإقليمي والدولي

تطوران إقليميان/ دوليان، قيد التشكل والتظهير، أثّرا، وسيؤثران على مسألة "السلاح" ومستقبله:

الأول؛ نشأ إثر سقوط نظام الأسد في سوريا في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الفائت، وما عناه ذلك، من انفراط عقد "المحور" بعد سقوط "واسطته"، وتجفيف مصادر وقنوات المال والسلاح التي تغذى عليها الحزب منذ نشأته، وكانت سببًا في بناء قوته واقتداره. وتشاء تطورات المشهد السوري أن تأتي إلى السلطة في دمشق، بفريق سياسي/ عقائدي، بينه وبين الحزب "ما صنع الحداد".

بيد أن ذلك، لم يُسقط رهانات بعض أعضاء الحزب وأصدقائه، على أن التطورات السورية قد تعيد الاعتبار لسلاح الحزب من جديد، وتجدد الحاجة للاحتفاظ به والحفاظ عليه، ولقد لاحظنا بعد أحداث الساحل السوري، وما ترتب عليها من موجة نزوح "مذهبية" إلى قرى وبلدات بقاعية وشمالية في لبنان، وما سبقها ولحق بها، من مناوشات على الحدود السورية اللبنانية، أن البعض ظنّ أن بالإمكان حفظ هذا السلاح لمواجهة "التهديد" القادم من الشرق والشمال هذه المرة، وربما ظنّ هذا البعض كذلك، أن هذه السردية قد تفلح في تبديد مخاوف فريق من اللبنانيين: (مسيحيين ودروز وعلويين)، من استمرار الحزب بالاحتفاظ بسلاحه.

لكن التطورات المتسارعة في المشهد السوري، وبالأخص بعد جولة ترامب الخليجية ورفع العقوبات عن سوريا، وقمة الشرع – ترامب برعاية سعودية – تركية، قد أضعفت هذا الرهان تمامًا، إن لم تكن قد أسقطته، ورأينا على النقيض من ذلك، أقاويل وتنبُؤات، تنتشر في أوساط لبنان السياسية والإعلامية، بأن ثمة توجهًا إقليميًا- دوليًا، لا يمانع في إعادة "تلزيم" لبنان لسوريا الجديدة، في استعادة غرائبية لفصل من فصول العلاقة بين البلدين، امتدت زمن حكم الأسدين، ولا سيما بعد مؤشرات إلى أن سوريا في طريقها لإبرام تفاهمات مع إسرائيل حول الوضع في الجنوب، واستعادة اتفاقية فك الاشتباك (1974)، وربما الالتحاق بالقطار الأبراهامي في محطةٍ لاحقة.

إعلان

ومن غرائب المشهد اللبناني، أن الذين قاوموا شعار الأسد عن "تلازم المسارين" اللبناني والسوري منذ اتفاق 17 مايو/ أيار بين لبنان وإسرائيل في ثمانينيات القرن الفائت، هم أنفسهم الذين يميلون للأخذ بهذا الشعار من جديد، ولكن في سياق إقليمي متغير، يراهن على أن ينتهي بانتهاء ظاهرة المقاومة والسلاح، والدخول في ترتيبات وتفاهمات، من "قماشة أبراهامية" كذلك، فهل هذا هو ما قصده الأميركيون وهم يتحدثون عن عدد من الدول العربية التي ستلتحق بالقطار الأبراهامي قريبًا؟

الثاني؛ ويتصل بمفاوضات مسقط بين إيران والولايات المتحدة، التي يَرقُبها الحزب بخاصة، ولبنان بعامة، بكل اهتمام بالنظر لتداعياتها المباشرة على راهن ومستقبل هذا البلد. فإن توّجت المفاوضات بالوساطة العُمانية، بالوصول إلى اتفاق يعيد دمج إيران بالمجتمع الدولي والنظام الاقتصادي والمالي العالمي، فإن "السلاح" سيكون قد تحرر من دوره "الإقليمي"، ويصبح شأنًا لبنانيًا منفصلًا عن تداعيات الإقليم ومحاوره وعلاقاته الشائكة، أما إن انتهى مسار مسقط إلى الفشل، وعادت طبول الحرب لتقرع من جديد، فإن من المرجح أن يطيل ذلك أمد الحسم، وقد يَبقى الحزب ولبنان عالقين بانتظار انقشاع غبار الحرب والضربات العسكرية التي ستكون خيارًا أوحدَ متاحًا أمام إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، كما تشير لذلك معظم المواقف والتقديرات.

في مطلق الأحوال، يواجه الحزب في لبنان، ما تواجهه حماس في غزة: الضغط بورقة المساعدات والعقوبات وإعادة الإعمار، وهو سلاح أشد مضاءً من الحرب المباشرة، لا سيما أنه يستهدف البنى والأعيان المدنية لبيئة هذه الأطراف، ويلحق به أكبر الضرر وأشد المعاناة.

ولقد بات واضحًا، وموضع إجماع نادر، عربيًا ودوليًا، أن قرار "الإفراج" عن لبنان، لن يُتخذ قبل أن يتخذ الأخير قرارين إستراتيجيين: أولهما، وأهمهما، نزع السلاح، وثانيهما، إجراء ما يلزم من إصلاحات مالية واقتصادية وتشريعية، تضع حدًا للفساد والإفساد والهدر وخراب الإدارة العامة.

إعلان

وإذا كان الحزب قد نجح في ختام حرب 2006، في إدارة معركة "جهاد البناء"، متوفرًا على ما يكفي من موارد من حلفائه، بالذات إيران، وفي ظروف لبنانية وإقليمية ودولية مواتية، فإن الحزب يقف اليوم عاجزًا عن إنجاز المهمة بقدراته الذاتية، أو بالاستناد إلى حلفائه، الذين تقطعت بهم سبل الوصول إليه وإمداده، تلكم معضلة، إن طالت واستطالت، ستخلق أزمة بين الحزب وبيئته، وستطعن في صدقية وعود التعافي والتعويض وإعادة الأعمار التي قطعها لجمهوره.. والمشهد اليوم، مختلفٌ تمامًا عمّا كان عليه قبل عشرين عامًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الرئيس اللبناني يكشف عن أمر يحدث لأول مرة منذ 40 عاما في الانتخابات
  • تدشين مقر الجمعية السعودية للإدارة الصحية في كليات الخليج
  • الأمم المتحدة: السوريون يواجهون خطر الموت وسط انعدام الأمن وأزمة الرعاية الصحية
  • الحرب فرضت نفسها علي الواقع السوداني وكما ترون فقد تحولت البلاد الي حطام !!.. ما الذي قادنا الي هذا الوضع الكارثي ؟! الجهل هو السبب !!..
  • جيش الاحتلال يشن غارات على مناطق بالجنوب اللبناني
  • تفاصيل اجتماع الرئيس عباس مع رئيس الوزراء اللبناني
  • سلاح حزب الله في السياقين اللبناني والإقليمي
  • السعودية وقطر تدعوان لمحاسبة إسرائيل بعد إطلاق النار على دبلوماسيين في جنين
  • مجلس الشيوخ الأمريكي يعتزم التحقيق في هوية الشخص الذي أدار البلاد بدلا من بايدن
  • وزير الطاقة والمياه اللبناني: رفع العقوبات عن سوريا سينعكس إيجاباً على لبنان