"شعور قوي بعدم الكفاءة وانعدام الأمن، ناجم عن نقص جسدي أو نفسي حقيقي أو افتراضي مُتخيل".. هذا هو تعريف العالم النفسي ألفريد إدلر والمعتمد من جمعية علم النفس الأمريكية لعقدة النقص.
في العالم العربي تتجلى هذه العقدة بوضوح في سلوكيات بعض النخب التي يطغى عليها الرغبة في إظهار القوة والتماسك، بينما هي في الواقع تعاني من صراعات نفسية تعود لأزمنة سابقة على توليها سدة الحكم.
عقدة النقص مرض نفسي كما قلنا، ومن أبرز مظاهره هو الشعور بعدم الأمان أو انعدام القيمة ما يجعله قلقا طول الوقت وحذرا، إضافة إلى تدني احترام الذات وصعوبة تقبل النقد أو تصديق المديح، وعادة ما يرى صاحب عقدة النقص نفسه سعيدا حين يقارنه حواريوه بالشخصيات العظيمة والتاريخية، وربما يكون ذلك مصحوبا بالشعور بالكمال (أنا ربكم الأعلى)، لكنه في نفس الوقت يشعر بأن عارا ما يلحق به وأن ذنبه الذي ارتكبه يرافقه مثل كابوس في ليل شتاء طويل، وهروبا من نقصه الذي يطارده فإنه لا يحب المقارنة بالأشخاص العاديين. وفي ضوء هذه الأعراض والسمات فالناقص يميل إلى الابتعاد عن الناس، لذا يعيش جل وقته معزولا في قصره أو بعيدا عن المجتمع الذي يعرفه ويعرف عقدته النفسية.
البعض يطارد هذه الأيام نسل العالم الجليل القرضاوي متمثلا في الشاعر الأسير عبد الرحمن يوسف القرضاوي؛ لأنه يمثل بالنسبة لهم كابوسا، فالقوم ما لبثوا أن تخلصوا أو حاولوا التخلص من كابوس الشيخ القرضاوي ليحل مكانه كابوس الشاعر الثائر عبد الرحمن بن القرضاوي، فطاردوه وقاموا باختطافه في لبنان ثم قاموا على الفور بترحيله ليس إلى بلده مصر؛ بل إلى حكام الإمارات
سمعت جنرال مصر يوما ما وهو يتحدث عن زملاء الفصل الذين كانوا يضربونه وهو طفل في المدرسة، ولما شكا لأمه قالت له "بكرة تكبر وتضربهم"، وبالفعل كبر في السن وقام بالانقلاب وعاد بالذاكرة لينتقم من كل من ضربوه أو آذوه عن قصد أو غير قصد، بل عاد لينتقم من الشعب المصري بأكمله معتقدا أن الشعب كان ولا يزال ينظر إليه نظرة دونية، وبالتالي عاد لينتقم حتى من قادته العسكريين الذين اتهمه أحدهم بأنه ضابط "نتن" يضع الدبوس في "الأستيكة" كما قال ذات مرة.
التفاصيل الصغيرة تبقى في ذاكرة صاحب عقد النقص ولا تنفك تطارده ليل نهار، فهو يرى نفسه الأقل والأدنى والجدير بعدم احترام الناس له وازدرائهم لشخصيته المتهالكة، لذا فهو يبذل كل ما في وسعه لإثبات عكس ذلك، وفي كل مرة يفعل ذلك يفضخه سلوكه وتظهر سوءة نفسه.
أصحاب عقدة النقص يشعرون بالدونية أمام من يفوقونهم في الفهم والعلم والمعرفة، لذا فهم يميلون أكثر إلى التباهي بما لديهم من متاع الدنيا فتراهم يُشيدون القصور الفخمة على الأرض، واليخوت التي تجري في الماء والطائرات التي تطير في جو السماء، وينشرون صور كل ذلك ليس لشيء إلا لمحاولة بيان أنهم لم يعودوا صغارا كما يظن البعض ممن عايشهم أيام الفقر والجوع وقلة الحيلة وقصر ذات اليد.
لا يقتصر السلوك المعبر عن النقص على فكرة الامتلاك ومحاولة تغيير الصورة الدونية بصورة أكثر بهرجة وفخامة، فأحيانا يتحول سلوك "الناقص" إلى سلوك عدائي لكل ناجح أو متقدم على غيره في العلوم والفنون والرياضة والسياسة وحتى في علوم الدين وأصوله. وتحضرني هنا الحرب الإعلامية الشعواء على الإخوان المسلمين في العموم وعلى رموز الدعوة والعلماء المحسوبين على تيار الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم فقيه العصر الإمام يوسف القرضاوي، الذي استطاع على مدار خمسة عقود أن يطور خطابا إسلاميا وفقهيا راشدا وسط انتقادات من تيارات التطرف التي اتحدت تحت راية الجامية أحيانا وتحت لواء الوهابية تارة أخرى، ثم التحمت جميعها في تيار واحد يجعل من الجامية وهابية ومنهما الاثنتين سلفية والسلف منهم براء.
استطاع الشيخ القرضاوي الاستمرار وعدم الالتفات إلى قصار القامة الذين حاولوا بشتى الطرق النيل منه وتسفيه أفكاره وأحلامه؛ لا لشيء إلا بسبب شعورهم بالنقص وقلة الحيلة، فرموه حقدا وحسدا بكل نقيصة بعد أن حاولوا إغراءه وإغواءه وقاموا بتكريمه، بل قام أحد شيوخ الإمارات بتقبيل رأسه علانية ثم انقلب عليه حاكم الإمارات ابن زايد، خصوصا بعد دوره في دعم الربيع العربي والثورة السورية التي وبفضل الله نجحت في الإطاحة ببشار الأسد ونظام الأسرة العلوية الطائفي البغيض.
كان الشيخ القرضاوي هدفا لقصار القامة ممن شعروا ولا يزالون بأنه يفوقهم علما وخلقا وسمعة طيبة، بينما لم تُنتج بعض تلك البلدان سوى التطرف والإرهاب وفقها لا يواكب العصر ولا يلبي حاجة الزمان الذي يعيشون فيه.
لم تنتج البلدان التي يقودها أصحاب عقدة النقص علماء أو مفكرين حقيقيين، واستعانوا بغيرهم من بلدان أخرى، ولما فشلوا في أن يجبروا نقصهم بهؤلاء العلماء تصوروا أنهم قد ملكوهم بأموالهم وسلطانهم وهو ما لم يحدث، فانقلبوا عليهم وحاربوهم لعقود ولا يزالون.
يعاني بعض حكام المنطقة من عقدة نقص كان من الممكن إخفاؤها لو أن عندهم بعض الذكاء الوجداني أو الدبلوماسية، ولكنهم تصرفوا على نحو فضح سرهم وكشف أمرهم وأظهر حقدهم وغلّهم على من فاقوهم علما وأدبا وفقها ومكانة ومحبة راسخة في قلوب الناس
يسيطر الشعور بعقدة النفس على صاحبه أو أصحابه ويعيش معهم حتى بعد وفاة من كان يمثل لهم هذه العقدة، فقد مات الشيخان محمد الغزالي والقرضاوي ورغم ذلك لا يزال البعض ينظر بريبة إلى قبريهما حقدا وحسدا، ويطاردون وسائل الإعلام التي تتحدث عنهما بخير بعد وفاتهما، لا بل إن البعض يطارد هذه الأيام نسل العالم الجليل القرضاوي متمثلا في الشاعر الأسير عبد الرحمن يوسف القرضاوي؛ لأنه يمثل بالنسبة لهم كابوسا، فالقوم ما لبثوا أن تخلصوا أو حاولوا التخلص من كابوس الشيخ القرضاوي ليحل مكانه كابوس الشاعر الثائر عبد الرحمن بن القرضاوي، فطاردوه وقاموا باختطافه في لبنان ثم قاموا على الفور بترحيله ليس إلى بلده مصر؛ بل إلى حكام الإمارات الذين أثبتوا للعالم أن عقدة نقصهم مستمرة وربما ستستمر حتى تقضي عليهم ليموتوا بغيظهم.
يعاني بعض حكام المنطقة من عقدة نقص كان من الممكن إخفاؤها لو أن عندهم بعض الذكاء الوجداني أو الدبلوماسية، ولكنهم تصرفوا على نحو فضح سرهم وكشف أمرهم وأظهر حقدهم وغلّهم على من فاقوهم علما وأدبا وفقها ومكانة ومحبة راسخة في قلوب الناس.
عقدة النقص هي سر عداء الأقزام للأعلام الكبار، وهي سر نقمة هؤلاء على كل حر ذي رأي وإرادة مستقلة، لا يباع ولا يشترى، ورغم ما يقوم به هؤلاء الصغار الدونيين سيظل الكبار كبارا والصغار أقزاما أبد الدهر.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه نفسي العقدة مصر القرضاوي الإمارات مصر الإمارات نفسي القرضاوي عقدة مقالات مقالات مقالات رياضة مقالات سياسة رياضة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشیخ القرضاوی عقدة النقص عبد الرحمن
إقرأ أيضاً:
دول الخليج هي التي ستملي سياسة أمريكا الخارجية
درج دونالد ترامب على أن يحقق مراده بطريقته. ولكن هذا قد يتغير هذا الأسبوع حينما يواجه الفوضى التي تسبب فيها في الشرق الأوسط. ففيما يبدأ رحلة على مدى ثلاثة أيام إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، يتعهد رئيس الولايات المتحدة بأمور عظام. وهو كدأبه واهم. فالواقع هو أن سياسات الولايات المتحدة المتهورة المتعارضة المهملة في المنطقة تحقق فشلا عاما. ولا غنى عن تصحيح مسار جذري.
وقادة الخليج لديهم من القوة ما يتيح تقويم مسار ترامب، لو أنهم قرروا استعمال هذه القوة. فهو يعتمد عليهم اعتمادا غير مسبوق ـ يفوق كثيرا اعتماده على أوروبا ـ بوصفهم وسطاء دبلومسيين، وشركاء أمنيين، وداعمين ماليين. والنهج الذي يتبعه في فلسطين فيوشك أن يبلغ بها نكبة ثانية هو مزيج من الانحياز والقسوة والجهل المحض. ودونما عون من العرب، قد تبقى الولايات المتحدة وإسرائيل في شرك مأزق سياسي مدمر لا نهاية له.
يعرف ترامب أنه ليس بوسعه تجاهل رؤى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ونظرائه في الخليج بشأن غزة وسوريا واليمن. وهم يعارضون محاربة إيران التي سبق أن هددت بها الولايات المتحدة وإسرائيل. وترامب بحاجة إليهم حلفاء له في نزاعه التجاري والجمركي مع الصين. وقد استضاف دبلوماسيون خليجيون محادثات سلام أوكرانية روسية دعمها ترامب شخصيا. وهو حريص أشد الحرص على إبقاء أسعار النفط على انخفاضها.
فضلا عن أنه طامع في صفقات استثمارية ومبيعات سلاح في الشرق الأوسط بمليارات الدولارات.
غير أن للدعم الخليجي ثمنا لا بد من دفعه. وانظروا على سبيل المثال إلى أمل ترامب في توسيع ما يعرف بالاتفاقات الإبراهيمية لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. فمهما يكن ما يقوله ترامب، يتعهد محمد بن سلمان بأن هذا لن يحدث بدون ضمان تقدُّم نحو دولة فلسطينية مستقلة، وذلك احتمال تمقته حكومة إسرائيل. وقد وصف محمد بن سلمان ما وقع من قتل بعد السابع من أكتوبر لأكثر من اثنين وخمسين ألف فلسطيني في غزة بـ«الإبادة». وفي الرياض، سوف يلاقي ترامب ضغطا كبيرا لإنهاء الحصار الإسرائيلي وإعادة فرض وقف إطلاق النار.
تزداد العلاقات الأمريكية الإسرائيلية توترا، في ظل رفض ترامب حتى الآن الدعوات لإضافة العاصمة الإسرائيلية إلى جدول زيارته. وبغض النظر عن أثر الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين لدى حماس، فإن بنيامين نتنياهو وحلفاءه في اليمين المتطرف يخططون لاحتلال عسكري طويل الأمد لغزة ولعمليات طرد جماعي للفلسطينيين. وبرغم دعم ترامب قبل شهرين وحديثه الأهوج عن إقامة «رفييرا في الشرق الأوسط»، يبدو أنه قد أدرك متأخرا أن السلام لا يتحقق على هذا النحو.
ولقد فوجئ نتنياهو ـ المستمر في تحريضه للولايات المتحدة على الانضمام إلى إسرائيل في عمل عسكري ضد إيران هذا العام ـ بإعلان ترامب المفاجئ الشهر الماضي عن محادثات مع طهران حول البرنامج النووي. كما جاء تراجع ترامب الفجائي بالقدر نفسه الأسبوع الماضي بإنهاء الضربات الجوية الأمريكية لليمن بمثابة ضربة مفاجئة لإسرائيل المستمرة في قصف الحوثيين. ويأتي هذان التحولان في السياسة، بجانب تغير نبرة ترامب فيما يتعلق بغزة، نتيجة ضغط خليجي فعال.
كما يريد القادة العرب بدعم تركي أن يحجِّم ترامب عمليات إسرائيل العسكرية في لبنان، وفي سوريا بصفة خاصة التي تتعرض لضرباتها المتكررة منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر. فجميع أعضاء مجلس التعاون الخليجي الستة يؤيدون التعامل مع رئيس سوريا المؤقت أحمد الشرع وحكومته الائتلافية.
ويقول الشرع: إنه لا يريد القتال مع إسرائيل وينصب تركيزه على إعادة توحيد بلده المحطم. وقد أسفرت زيارته المهمة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر عن عروض سخية بمساعدات في إعادة الإعمار. غير أن ترامب، خلافا لبريطانيا والاتحاد الأوروبي، يرفض تخفيف عقوبات حقبة الأسد. وهذا خطأ جسيم يعرقل آمال السوريين في بداية جديدة، وقد يسمح لإيران وروسيا بالرجوع إليها. صحيح أن تحول سوريا إلى بلد ديمقراطي موال للغرب مغنم عظيم، لكنه يبدو في الوقت الراهن أشبه بفرصة مهدرة.
لو أن ترامب يريد أن يضمن دعم الخليج لأجندته الأوسع، فعليه أن يعطي في المقابل شيئا ذا قيمة. وقد يكون ذلك إحياء للاتفاق النووي الأمريكي الأوروبي لعام 2015 مع إيران في عام (الذي تراجع عنه بحماقة في عام 2018)، مع ضمان ألا يشن نتنياهو والمتشددون في طهران حربا أخرى. ويحتمل جدا أن يقدم ترامب على هذه الخطوة. فهو يزعم أنه «رئيس السلام». وهذه فرصته ليثبت هذا.
يمكن لاتباع أمريكا نهجا أكثر استنارة تجاه غزة وسوريا أن ينقذ أهدافا أخرى لترامب، من قبيل: تخفيض أسعار الطاقة وتعزيز الاستثمار الخليجي في الشركات والوظائف بالولايات المتحدة. ومواقف المملكة العربية السعودية محورية في كلا الأمرين. فالتخفيضات المستدامة في أسعار الوقود بالنسبة للمستهلك قد تهدئ ناخبي ترامب المحبطين وتساعد في ترويض التضخم في الولايات المتحدة. وقد طرح محمد بن سلمان في يناير صفقة استثمارية أمريكية لمدة أربع سنوات بقيمة ستمئة مليار دولار. وقد يليها المزيد.
فهل بوسع هذه الجزرة البدينة أن تكون السبب الرئيسي لاختيار ترامب للسعودية لتكون أول زيارة رسمية له بعد تنصيبه مثلما فعل في 2017؟ وثمة إغراء إضافي يتمثل في الاتفاقية الأمنية الأمريكية السعودية التي تشمل حزمة أسلحة أولية للرياض بقيمة مائة مليار دولار يجري العمل عليها. وسوف تنشأ فرص كثيرة لشركات ترامب العائلية أيضا لو كان لنا مؤشر في منتجع الجولف الفاخر في قطر. فرغبة ترامب العارمة في تحقيق الأرباح لا تتأثر أوهى تأثر باحتمال تضارب المصالح.
إن تنامي قوة ونفوذ دول الخليج حقيقة لا مهرب منها في الحياة الجيوسياسية والاقتصادية في القرن الحادي والعشرين. لكن لو كان ترامب رجلا أكثر شجاعة، وأكثر استقامة، لذهب إلى غزة في الأسبوع القادم ليرى بنفسه الخراب الذي تسبب فيه هو وحلفاؤه في اليمين المتطرف.
ولكنه لن يفعل هذا. فمعروف للكافة أن ترامب ليس هذا الرجل النبيل. ومعروف أيضا أنه ليس برجل دولة.
سيمون تيسدال معلق الشؤون الخارجية في صحيفة ذي جارديان.
عن الجارديان البريطانية