صحفيو غزة يخلعون دروعهم بعد 471 يوما تحت القصف: جنة يا وطنا حتى نارك جنة
تاريخ النشر: 19th, January 2025 GMT
مع إشارة عقارب الساعة إلى الثامنة والنصف صباحا بتوقيت مدينة غزة، والموافق اليوم الأحد 19 يناير 2025، وبعد نحو 15 شهرا من حرب إسرائيلية غاشمة، ما يعادل 471 يوما، اصطف صحفيو القطاع الذين لا يزال غبار العدوان والقصف والدمار يكسو دروعهم، التي كُتب عليها باللغة الإنجليزية «PRESS»، يلتقطون صورة تذكارية قبل أن يخلعوها ويسجدوا لله شكرا على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ودخوله حيز التنفيذ.
في شمال القطاع، وتحديدا على أطراف مخيم جباليا الذي أصبح مدينة للأشباح، رصدت «الوطن» خروج عشرات الصحفيين إلى الشارع مرددين هتافات «سوف نبقى هنا كي يزول الألم، سوف نبقى هنا سوف يحلو النغم»، بينما رفعوا صور ولافتات لزملائهم الشهداء، الذي ارتقوا رغم الدروع الواقية التي لم تحمهم من رصاص الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر، والذي اغتال نحو 204 صحفيين منذ 7 أكتوبر 2023.
محمد شهلا، 28 عاما، صحفي فلسطيني غطى العدوان منذ يومه الأول، قال إنّه تعرض مرارا لعمليات إطلاق نار واستهداف بالطائرات المسيرة، قبل أن يراوغ الموت وتكتب له النجاة في كل مرة: «ماني مصدق إني هشيل هذا الدرع الثقيل من على صدري، الحقيقة إنّه صار جزء من جسمي طوال هذه المدة، أنام به وأصلي به حتى لم أعد أتخيل حياتي بدونه، صرنا مثل التوأم».
«ما بقدر أنسى وجوه زملائي الشهداء، هؤلاء أسيادنا وعين الحقيقة، ضحوا بأرواحهم عشان ينقلوا الحقيقة وييجي هذا اليوم ونحتفل بوقف الحرب، فسلام عليهم في الخالدين».. قالها «شهلا» وهو يقاوم دموعه التي غطت وجهه.
وفي وسط قطاع غزة وداخل ساحة مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، كان الوضع أكثر استقرارا من الشمال، حيث اجتمع الصحفيون وكان أغلبهم من النازحين رافعين أعلام فلسطين، مرددين: «جنة يا وطنا.. يا وطن يا حبيب يابو تراب الطيب.. حتى نارك جنة»، ليبدأ الأهالي التدفق إلى المكان ومشاركتهم أفراحهم وتصفيقهم.
أما الوضع بالنسبة للأطباء كان مختلفا فبينما ينتظر السكان الإعلان رسميا عن دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، كانت غرف العمليات في المستشفيات تعمل على قدم وساق لمعالجة الجرحى واستقبال المصابين الذين استهدفهم الاحتلال في أولى دقائق سريان الهدنة بحجة محاولة العودة إلى الأماكن المحظور عليهم الاقتراب منها، فيما واصلت أطقم الدفاع المدني عملها لإزالة الركام وفتح الطريق أمام السكان.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: غزة قطاع غزة الهدنة سريان الهدنة الاحتلال العدوان على غزة
إقرأ أيضاً:
مراسل الجزيرة نت: في غزة نجونا من القصف فهل ننجو من الجوع؟
غزة- كل صباح في غزة يبدأ بسؤال مؤلم: ماذا سنأكل اليوم؟ ليس رفاهية ولا حتى خيارًا، بل معضلة يومية تُثقل كاهل الآباء والأمهات الذين فقدوا جميع أنواع الطعام واستنفدوا كل البدائل التي لجؤوا إليها للتغلب على الجوع، بعد 5 أشهر من إغلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي المحكم للمعابر.
يجتمع على الآباء خوفا الحرب والجوع، ففي كل يوم يعتقدون فيه أنهم نجوا من الموت بالصواريخ والقذائف يزداد قلقهم من الموت جوعا، بعدما قرر الاحتلال الإبقاء على أمعاء الصغار والكبار والمرضى خاوية دون أن يسد رمقهم.
في غزة لا أحد بعيد عن مضاعفات التجويع القاتل، ففي حين انتزع سوء التغذية حياة 620 فلسطينيا من بينهم 69 طفلا، يخشى الجميع أن يكونوا الرقم القادم في سجل الموت جوعا المفتوح على مصراعيه في مستشفيات القطاع.
حيرة يومية
في دوامة من الحيرة اليومية، يقضي كاتب هذه السطور مراسل الجزيرة نت -كغيره- ساعات طويلة متنقلا بين الأسواق عله يظفر بالقليل من الطعام رغم أسعاره التي لا تجد مكانا لها في مصطلحات قاموس الغلاء الفاحش التي يتداولها الاقتصاديون، لكنها أصبحت واقعا يكوي أكثر من مليوني فلسطيني، دفعتهم الحرب جميعا إلى العيش تحت خط الفقر.
ومنذ أن أغلقت إسرائيل معابر غزة بإحكام منذ مطلع مارس/آذار الماضي، تحوّلت رحلة البحث عن الطعام إلى معركة خاسرة مع الأسواق الفارغة التي تخلو من الدقيق والخضار والفواكه والحليب واللحوم والدواجن، حتى أصبح العثور على البقوليات والطعام المعلّب مهمة تستنزف الوقت والجهد، وتستدعي تنقل الجسد الهزيل من سوق لآخر علّي أعود بما أحمله لأطفالي الذين ينتظرون العودة بشيء يسد الرمق.
لم يعد أحد يستغرب من مشاهد الإغماء المفاجئ المتكررة للمارة في الأسواق والشوارع، حيث يعلم الجميع السبب، إنهم قضوا أياما دون طعام، ومع ذلك يهرعون للمساعدة بحثا عن ملعقة سكر واحدة كي يستفيقوا، وفي معظم الأحيان تفشل مهمتهم في توفير هذه المادة المفقودة.
إعلانكانت الساعة الثانية فجرا عندما طرق أحد الجيران باب بيتي، يتحدث بصوت ملهوف: أحتاج ملعقة سكر واحدة فقط، احترق السكر لدى والدتي المريضة، ستموت إذا لم تحصل عليه.
فشلت محاولات الرجل توفير ملعقة واحدة رغم أنه دار ليلا على أكثر من منزل، لأنه لم يعد متوفرا في غزة، ووصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 100 دولار، ولحسن الحظ وجدتُ القليل من العسل الذي كنت أحتفظ به لأوقات طارئة، وكانت كفيلة بإنقاذ حياة المسنة.
يرهق نقص الغذاء أجساد الجميع الذين فقدوا أوزانهم بشكل ملحوظ، وتوقف نمو الأطفال الذين يقضون أيامهم بلا حليب ولا بيض ولا لحوم، وانهارت مناعة كبار السن الذين ازدادت أمراضهم.
كأب لـ4 أطفال، آخرهم توأمان في سن الثالثة، قضيا أكثر من نصف عمرهما في حرب لا تنتهي، ولا يعرفان طعم الفواكه ولا أسماءها، ولم يحظيا منذ نحو عامين بوجبة ساخنة متكاملة، ويعذبهما الاحتلال في جريمة تجويع لا ترحم أحدا.
في أحد الأيام بعد التجويع الأول في شمال غزة، حصلنا على موزة واحدة بعد أشهر من الانقطاع، حينها أصابت الدهشة طفلتي سارة التي لا تعرف أنها تؤكل، ولكن ما أن تذوقتها حتى التهمتها بقشورها، طالبة المزيد وهو ما لم يكن متاحا.
"بابا بدي جاجة"، يردد توأمها عمرو الذي يتذكر مذاق الدجاج منذ التهدئة التي انعقدت في يناير/كانون الثاني الماضي، لكن تفشل مهمتي في توفيرها أو إقناعه بأسباب ذلك، حيث يرافقني بجولة يومية على الدراجة الهوائية في الأسواق، مع قائمة من متطلباته، التي غالبا ما نعود دون تلبيتها.
لا تتمكن جميع الأسر في غزة من تأمين أكثر من وجبتين بسيطتين تقنن فيهما الخبز -إن وُجد- وتقتسم المتاح منه على عدد أفرادها، وفي معظم الأحيان يغلب النعاس الصغار دون طعام. ورغم أن سكان شمال القطاع لجؤوا عندما اشتد عليهم التجويع في أوقات سابقة من الحرب إلى طحن أعلاف الحيوانات كبديل عن الدقيق، لكنها غابت هي أيضا هذه المرة.
وأفرز التجويع مشاهد مؤلمة جديدة لم تكن مألوفة في غزة، حيث دفعت الحاجة عددا من الأطفال المجوّعين لأن يدوروا على المنازل طلبا لقطعة من الخبز أو ما توفر من طعام لدى العائلات، وبعد عدة محاولات يعودون خالي الوفاض، لأن بيوت القطاع جميعها باتت جائعة.
سخرية وألمتمتزج السخرية من الواقع بالألم عندما يقارن الغزيون أوزانهم بين ما كانت عليه قبل الحرب، وما وصلت إليه مع اشتداد التجويع، الجميع فقد ما لا يقل عن 10 كيلوغرامات من أوزانهم، وبعضهم فاق 30 كيلوغراما، وآخرون فقدوا نصف أوزانهم، فتغيرت أشكالهم وبدت ملابسهم الواسعة مخصصة لاثنين منهم.
في غزة ضاقت الحياة بالسكان الذين اضطر معظمهم للذهاب إلى مصايد الموت التي خصصها جيش الاحتلال، حيث تستمع هناك إلى حكايا كأنها منسوجة من وحي الخيال، يلخصها اضطرار مدرس لغة عربية تجاوز الـ50 من عمره الذهاب إلى شمال غرب مدينة غزة حيث يتوقع أن تدخل المساعدات من مستوطنة "زيكيم"، وهو يتمنى أن يحصل على شوال من الدقيق.
إعلانلم تسعفه حالته الصحية أن يركض سريعا بين الزحام أو الصعود على الشاحنات التي وصلت مسرعة، وغلبته الدموع وهو يتمنى أن يعود لأبنائه بالدقيق الذي لم يتذوقوه منذ أيام.
فجأة سمع صوتا يعتلي الشاحنة ينادي "يا أستاذ، يا أستاذ، خذ هي كيس"، حينها انهمرت المزيد من الدموع على وجه المدرس المجوع الذي وجد أحد طلابه المجوعين، يعرّض حياته للموت لأجل لقمة العيش بعدما كان يفترض بهم جميعا أن يكونوا داخل أسوار المدرسة.
هنا في غزة، يعيش الفلسطينيون التجويع بكل تفاصيله، يعدون الأيام، لا على أمل انتهاء الحرب، بل على أمل أن نبقى أحياء حتى ذلك الوقت. هل سننجو؟ لا أحد يملك الإجابة، لكن ما يعرفونه يقينا أنهم لا يملكون خيارا سوى الصمود.