هل ينقرض النحل وقد غاب العوفي؟
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
سالم بن محمد بن أحمد العبري
حين زرت لأوَّل مرة (وادي السحتن) وأنا في مطلع الشباب كنتُ أستعين بركوب حِمارٍ خُصص لجدي الشيخ أحمد بن سعيد بن محسن العبريّ، وحين كان جَدِّي يستشعر الإعياء؛ فيطوي بعض المسافات على ظهر ذلك الحمار الذي رافقنا من (المسفاة) إلى (الغور).
وكانت تلك الرحلة السنوية تبدأ مع نهاية شهر يونيو أو مطلع يوليو وتستمر شهرا وعشرة أيام في الغالب، كما امتدت رحلاتنا؛ فلم تبق ديرة أو مسكن أو بلد إلا ونزلنا به ولو لوجبة غداء أو عشاء؛ حيث كان أهلها يذبحون للمشايخ القادمين إليهم؛ وكأن عيد الأضحى قد حلَّ أوانه، وقد تكون أُعدت للمناسبة كما تُعد وتربّى المواشي للأعياد؛ فزيارة الأشياخ موسم مقرون بالصيف والطناء؛ حيث يصاحب المنادون للآباء، ويحسبون لما سيأتي من عائد النداء حسابًا سنويًّا، وكان له نظام إنه ليس فقط للذي صاح وزعق وبُحَّ صوته كم قرشًا، خمسة قروش إلخ.
لا أتذكر أننا في تلك الرحلة حللنا (الجفر)؛ حيث ذاع اسمها قرابة سبعة عقود أو قُلْ قرنًا حين توطن الفاضل الكريم ناصر بن خلفان العوفي بها واعتنى بالنحل أفضل مما اعتنى به أحد غيره من قبل. ورغم ما رأته عيني من صواني عسل النحل المقطع بشمعه والمقدمة بوادي السحتن كله وهو شيء قد لا يتصوره اليوم أحد. لكن تخصص ناصر العوفي في تربية النحل مع خبرة زمنية متراكمة جعله مع كرمه مضرب المثل بين الناس.
ومنذ عدت من رحلة الدراسة والعمل بالخارح نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ما ذهبت للتداوي والعلاج أوالعمل أوالسياحة إكراما لضيفٍ أو صديق عُماني إلا وكانت (الجفر) و(ناصر بن خلفان العوفي) أولى محطاتي السياحية أو آخرها، ولم نكن في حينه نسمع أو نتخوّف من (مرض السُّكَّري)؛ فقد كنا نأكل عسل النحل، كما نأكل قطع الخبز واللحم، وإن شبعت النفوس؛ لكن كيف ترد ذلك الكريم وقد اختار لك قطعة بيضاء من شمع العسل تحسبها فضة أو ذهبا. ولم يكن هذا الكرم لمثلي فقط، ولكن لكل من يمرُّ في تلك النواحي فيُفرش لهم بالعريش مقابل المنحل الذي لا يبعد عن الأنظار كثيرا فترى الخلايا رُصَّت فوق بعضها وكان في محلِّ تجارة وبه بضاعة كثيرة.
ذاع خبر الكرم والنحل وناصر بن خلفان العوفي الذي استقر ومن معه في هذا الركن الشرقي من وادي السحتن عند التقائه بوادي بني عوف فكأن العوفيّ هو الرابط بين الواديين وقد ربطا بمعروف لايخفى ولا يتهرب من صاحبه. وذاع خبر عسل النحل والجفر وصار لا يَقْدُمُ أحدٌ للتداوي والاستشفاء بهذه المنطقة إلّا ويتطلع لمعرفة هذه المنطقة وأهلها وخلايا نحلها وشَهْدِها الذي ميَّزه الله في قوله تعالى (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة النحل، الآية:69].
وكنت منذ عدت من الأسفار بهدف الاستقرار لا أنقطع عن المنطقة والأهل؛ وحين كنا بِـ(عَمْق) في رحلتي الأولى فما كنت أنام مع الجماعة؛ بل خُصِصْتُ بأن أكون في حضن خالة أبي الوالدة (ريا بنت عبدالله بن شامس العبرية)، التى وكأنها ترد جميل والدتي -رحمهما الله- حين زارتهم بالحمراء قُبيلَ ولادتي أو في حينها، وصار خبر زيارتها والطنين الذى رافقها، وكأنها جزءٌ من زيارة الإمام لها قبل عَقدين، و(سيف بن حمد الحمراشدي) وقد بلغ من العمر مبلغه حين استضافنا في (جبل ضبعوت)، وعرفونا به وبخبره حيث كان لديه حِدَّةٌ في النظر، فكان يرى من مسافات بعيدة، وكأنه يراقبُ من مِنظار (تليسكوب)، وإذا ما أرد أحد زيارة الوالد(عبدالله بن شامس العبري) لقضاء حوائجه كانوا يطلبون من الحمراشدي أن ينظر إلى عريش مقام الجد عبدالله بن شامس من بعيد ليتأكد من وجوده؛ ليخبر القادمين إليه بالذهاب أو الانصراف.
فلما أن صار صالح الحاتمي بالجفر والوفود لا تنقطع، وتكاد حيواناتهم لا تسمن وترعى من البراري فقط؛ فقلنا للوالد (الشيخ عبدالله بن مهنا العبري) نريد أن نخصص لهم مساحة يستعينون بها لأعلاف أغنامهم ونقطع (نُخصِّص) لهم بعض النخيل القريب تسهيلا لهم بدلا من إحضار حاجاتهم من الغرب في (وادي السحتن)، أو من الشرق من (وادي بني عوف)، وبذلك نكمل المعروف الذى بدأتموه، حين مهَّدتم لهم الإقامة في هذه تلك البقعة المباركة، فكتب لنا كتب أمرا موجَّها للوالد على بن هلال، ونسَّقت مع الوالد عَلِيّ فذهبنا للموقع الذى رشحناه لاستصلاح الأرض اللازمة وحدَّدنا موقعين بالداخل لجاره ورفيقه بالحياة صالح الحاتمي الذى لا يشرب من غيره شربة ماء إلا وهو معه، وقطعة أوسع بعدها باتجاه الطريق القادمة من الأودية أو من الحيل؛ فبدأوا يحرثون ويزرعون، وأخذوا يُتحفون أغنامهم بسيقان الذُّرة أو الأقَّت أو الشعير وبعد مضي سنة أو سنتين تبشَّروا من النخيلات التى غُرست من شهور وشعرنا بأننا قابلنا إكرامهم بمثله، وإذا بشياطين الأنس والجن تفسد الوئام وإذا بالعوفي والحاتمي يختلفان ويختصمان، حول بئر ماء بينهما كان يقتسمانها نِصفًا للعوفي والنصف الآخر للحاتميّ أو يومين لـ(ناصر بن خلفان العوفي) ويوم لـ(صالح الحاتمي). وربَّما في هذه الأيام كنت منقطعًا ومشغولا ببناء (استراحة الهوتة) في الجبل الشرقيّ فغبتُ ولم يعلمني أحد أو يأتي إلي ليطلب مني وضع الأمر في مساره الذي رسمناه حين سعينا لهم بالجزاء مقابل معروفهم فتدخل من لا يعلم، ومن ليس من أهل الأمر بالمعروف، وانتفع من يحامي، أو مَنْ يتقوَّل حين دخلوا البيت من غير بابه.
والآن.. وقد رحل ذلك الرجل- رحمه الله وأجزل له العفو والإحسان والإكرام- ونأمل أن يبارك الله في أهلهم وذريتهم ويُنزل عليهم الخصب والبركة، وأن يكونوا خير خلف لخير سلف، وأن يحافظوا على السيرة والمعروف.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
محمد الموجي.. مهندس الألحان الذي غيّر وجه الموسيقى العربية
في مثل هذا التوقيت من كل عام، يستحضر الوسط الفني والجمهور العربي ذكرى رحيل أحد أعظم الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية، الموسيقار محمد الموجي، الذي رحل عن عالمنا في 1 يوليو عام 1995. ورغم مرور 29 عامًا على وفاته، لا تزال ألحانه حيّة، تملأ الفضاءات بالمشاعر وتُرددها الأجيال، فقد كان بحق "مهندس الألحان" وصاحب البصمة الذهبية في مسيرة عمالقة الطرب.
نشأة موسيقار من طراز خاص
وُلد محمد أمين محمد الموجي في 4 مارس عام 1923 بمدينة بيلا بمحافظة كفر الشيخ. نشأ في أسرة متذوقة للفن، وكان والده يعزف على العود والكمان، مما جعله يكتشف شغفه بالموسيقى منذ الصغر، ليبدأ تعلم العزف على العود في سن مبكرة.
ورغم أنه التحق بكلية الزراعة وحصل على الدبلوم عام 1944، إلا أن شغفه بالموسيقى كان أقوى، فعمل في البداية في وظائف زراعية، قبل أن يلتحق بفرق موسيقية صغيرة ويبدأ رحلته الفنية من بوابة الغناء، التي لم تحقق له ما أراد، فتحول إلى التلحين، وهو القرار الذي غيّر مسيرة الموسيقى العربية.
البدايات الفنية والانطلاقة الحقيقية
في عام 1951، قُبل محمد الموجي كملحن في الإذاعة المصرية، بعد أن رُفض كمطرب، وكانت تلك نقطة تحول حقيقية، كانت انطلاقته القوية من خلال التعاون مع عبد الحليم حافظ في أولى أغنياته "صافيني مرة"، التي شكلت بداية صعود "العندليب" وصعود الموجي كأحد أبرز ملحني الجيل.
محمد الموجي وعبد الحليم حافظ.. ثنائي غيّر الطرب
شكّل محمد الموجي مع عبد الحليم حافظ ثنائيًا فنيًا استثنائيًا، حيث لحّن له ما يزيد عن 88 أغنية، أبرزها: "حُبك نار"، "قارئة الفنجان"، "أنا من تراب"، و"اسبقني يا قلبي"، وكان لحن "قارئة الفنجان" الذي غناه عبد الحليم عام 1976 آخر تعاون بينهما قبل وفاة العندليب، واعتُبر تتويجًا لمسيرة طويلة من النجاح المشترك.
تعاون مع الكبار من أم كلثوم لفايزة أحمد
لم يقتصر إبداع محمد الموجي على عبد الحليم، بل امتد ليشمل عمالقة الطرب، على رأسهم أم كلثوم، التي لحن لها أعمالًا خالدة مثل "للصبر حدود"، و"اسأل روحك"، و"حانة الأقدار".
كما قدّم ألحانًا خالدة للمطربة فايزة أحمد مثل "أنا قلبي إليك ميال"، و"تمر حنة"، إلى جانب ألحانه لنجوم آخرين مثل شادية، وردة الجزائرية، نجاة الصغيرة، سميرة سعيد، وغيرهم من رموز الغناء في مصر والعالم العربي.
بصمة لا تُنسى في الأغنية الوطنيةكان لمحمد الموجي دور كبير في الأغنية الوطنية، إذ لحن عددًا من الأعمال الخالدة التي عبّرت عن روح مصر وقضاياها، مثل "يا صوت بلدنا" و"أنشودة الجلاء". وكانت ألحانه الوطنية تحمل دومًا مزيجًا من الحماس والشجن، بتوقيع موسيقي خاص لا يُخطئه المستمع.
أسلوبه الفني.. هندسة اللحن وروح الشرقتميّز أسلوب محمد الموجي بالمزج بين المقامات الشرقية الأصيلة والتقنيات الغربية الحديثة، وابتكار فواصل موسيقية غير مسبوقة، لم يكن الموجي مجرد ملحن تقليدي، بل كان يجيد التعبير عن الكلمات بألحان نابضة بالحياة، تبكي، وتفرح، وتُشعل الحنين في آنٍ واحد، مما جعله يُلقب عن جدارة بـ "مهندس الألحان".
رحيله واحتفاء لا ينتهيفي الأول من يوليو عام 1995، رحل الموسيقار محمد الموجي عن عالمنا عن عمر ناهز 72 عامًا، بعد أن قدّم للموسيقى العربية أكثر من 1800 لحن، ورغم رحيله الجسدي، لا يزال صوته حاضرًا في كل نغمة، وأثره باقيًا في ذاكرة كل من عشقوا الطرب العربي الأصيل.
وتُحيي وسائل الإعلام ووزارة الثقافة المصرية ذكراه سنويًا، من خلال التقارير والبرامج، وتُعرض أعماله في المناسبات الفنية، لتُذكر الأجيال الجديدة بإرث موسيقي لا يُقدّر بثمن.