أرخبيل تشاغوس وتسميه بريطانيا "إقليم المحيط الهندي البريطاني"، وهو عبارة عن جزر عدة تقع في نقطة إستراتيجية وسط المحيط الهندي، استعمرتها بريطانيا عام 1814، وأجّرتها للولايات المتحدة الأميركية، التي أنشأت فيها قاعدة دييغو غارسيا الجوية، وتطالب جمهورية موريشيوس الأفريقية باستعادة الأرخبيل.

الموقع

يقع أرخبيل تشاغوس وسط المحيط الهندي، جنوب شبه القارة الهندية، ويبعد نحو 2200 كيلومتر شمال شرق جزيرة موريشيوس، و500 كيلومتر عن جنوب جزر المالديف.

تبلغ مساحته نحو 60 كيلومترا مربعا. ويتميز الأرخبيل بموقعه الإستراتيجي بين خطي طول 71-73° شرقا وخطي عرض 4.5-7.5° جنوبا، ويتسم بأنه بعيد عن مسار العواصف والأعاصير.

الجغرافيا

يتميز أرخبيل تشاغوس بطبيعته الجغرافية الفريدة التي تضم أكثر من 55 جزيرة مرجانية نائية منخفضة الارتفاع، من بينها جزر سليمان وجزيرة بيروس بانوس المرجانية وجزيرة نيلسون وجزر الإخوة الثلاثة وجزر إيغل وجزيرة دينجر وجزر إيغمونت.

وتحيط بالأرخبيل بحيرات وشعاب مرجانية واسعة، مما يجعله غنيا بالتنوع البيئي والبحري، إذ يضم أكثر من 300 نوع من المرجان و800 نوع مختلف من الأسماك، إلى جانب الأسماك والسلاحف البحرية المهددة بالانقراض.

إعلان

ويتمتع بمناخ استوائي بحري يتميز بدرجات حرارة مرتفعة على مدار العام، مع أمطار غزيرة أثناء فترة الرياح الموسمية. وتغطي الجزر غابات نخيل جوز الهند وبعض الشجيرات الساحلية، مما يجعلها موطن تنوع مذهل في الحياة البرية.

ويضم جنوب شرق الأرخبيل جزيرة دييغو غارسيا، وهي الأكبر بين جزره إذ تبلغ مساحتها نحو 44 كيلومترا مربعا، وهي ذات أهمية إستراتيجية وتحتضن قاعدة عسكرية أميركية.

وتتخذ الجزيرة شكل حذوة الحصان، ويبلغ محيطها نحو 64 كيلومترا، بينما تصل أعلى نقطة فيها إلى 15 مترا عن سطح البحر.

مهبط طائرات عسكري في جزيرة دييغو غارسيا أكبر جزر أرخبيل تشاغوس (رويترز)

 

التاريخ

اكتُشفت الجزر في القرن الـ16 على يد المستكشفين البرتغاليين، وحسب الموسوعة البريطانية فالأرخبيل لم يكن مأهولا بالسكان وقتها. وبسبب موقعه الإستراتيجي على طرق التجارة الدولية، أصبح محل تنافس بين القوى الأوروبية.

وفي أواخر القرن الـ18، سيطرت فرنسا على أرخبيل تشاغوس وسيشيل وجعلتهما مستعمرات تابعة لموريشيوس الأفريقية، وأنشأت مزارع جوز الهند لإنتاج زيت الكوبرا، واستقدمت الأفارقة عبيدا للعمل فيها.

سيطر البريطانيون على الجزر في أوائل القرن الـ19، وأُعلنت موريشيوس ومستعمراتها رسميا مستعمرة بريطانية عام 1814 بموجب معاهدة باريس. ولاحقا تم فصل سيشيل عن موريشيوس وأصبحت مستعمرة بريطانية منفصلة عام 1903.

وفي فترة الحرب الباردة، وُقّعت اتفاقية بين بريطانيا والولايات المتحدة عام 1965 لإنشاء إقليم المحيط الهندي البريطاني بهدف إقامة منشآت دفاعية واتصالات لموازنة النفوذ العسكري للاتحاد السوفياتي في المنطقة، وضمّ الإقليم أرخبيل تشاغوس وجزر ألداربرا وفاركوهار ودي روش.

بين عامي 1965 و1973، قررت الحكومة البريطانية بقيادة هارولد ويلسون إخلاء سكان أرخبيل تشاغوس قسريا، المعروفين باسم "الإيلوا" أو "الشاغوسيين"، وهم من نسل العبيد الأفارقة وعمال المزارع الهنود، وتفرقت العوائل بين سيشيل وموريشيوس والمملكة المتحدة.

إعلان

وكان سكان الأرخبيل يعيشون في اكتفاء ذاتي، بفضل وفرة الموارد الطبيعية التي أسهمت في ازدهار المنطقة وانتشار القرى، إلى أن هُجّر أهلها إلى جزيرة سيشل، وتم احتجازهم في الزنازين، ومن ثم نقلوا إلى موريشيوس في مساكن متهالكة بلا ماء ولا كهرباء، وهناك ماتت 26 عائلة في فقر مدقع، وأقدم 9 أفراد على الانتحار، في حين أرغمت الفتيات على امتهان الدعارة للنجاة.

وكان الهدف من تهجير السكان إفساح المجال لبناء قاعدة عسكرية أميركية في دييغو غارسيا، كبرى جزر الأرخبيل، وفي عام 1971، أجّرت بريطانيا الجزيرة لأميركا، التي بنت فيها منشأة عسكرية ضخمة وأغلقت مزارعها.

وبسرية تامة عرض الأميركيون على البريطانيين دفعة مالية لقاء الجزر جاءت على شكل تخفيضات على نظام الغواصات النووية بولاريس، وكان هدف أميركا من إقامة القاعدة التحكم بالمحيط الهندي.

وفي غضون 10 سنوات كان قد اكتمل إخلاء الأرخبيل من سكانه وأصبحت سان دييغو مقرا لقاعدة عسكرية أميركية تضم أكثر من ألفي جندي مشاة، و30 سفينة حربية، ومدرجين للطائرات الحربية، ومنشآت للغواصات المسلحة نوويا، ومحطة للتجسس بالأقمار الصناعية.

وفي عام 1976 وعندما حصلت دولة سيشيل الأفريقية على استقلالها، أُعيدت لها الجزر التي انتزعت منها سابقا، واحتفظت بريطانيا بالأراضي المتبقية في إقليم المحيط الهندي البريطاني مقابل منح موريشيوس الاستقلال، وهكذا بقي أرخبيل تشاغوس تحت السيطرة البريطانية.

أرخبيل تشاغوس تحيط به بحيرات وشعاب مرجانية واسعة (رويترز)

وتقول موريشيوس إنها أرغمت على التخلي عن الأرخبيل لصالح المستعمر البريطاني في عام 1965 مقابل الحصول على الاستقلال الذي نالته عام 1968.

توسعت المنشآت العسكرية في أكبر جزر الأرخبيل -دييغو غارسيا- في سبعينيات وثمانينيات القرن الـ20، مما أثار اعتراض الدول المجاورة التي اعتبرت القاعدة الأميركية تهديدا عسكريا.

إعلان

واستُخدمت القاعدة العسكرية في دييغو غارسيا لانطلاق غارات جوية في نزاعات عدة، بما في ذلك حرب الخليج الثانية (1990-1991)، والحرب الأميركية على أفغانستان عام 2001، والمرحلة الأولى من الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 ذكرت تقارير أن القاعدة استخدمت "موقعا أسود" من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) لاستجواب أشخاص مشتبه بهم في قضايا الإرهاب.

وفي عام 2016 جددت بريطانيا عقد تأجير القاعدة للولايات المتحدة الأميركية حتى عام 2036.

صورة أرشيفية لخليج السلاحف في دييغو غارسيا (رويترز) مطالبات بإنهاء الاستعمار

في عام 2000 قضت المحكمة العليا البريطانية بعدم قانونية ترحيل سكان تشاغوس، ومنحتهم الحق الفوري في العودة إلى أي جزيرة باستثناء دييغو غارسيا. ورغم ذلك، عارضت بريطانيا والولايات المتحدة هذا القرار.

ولجأ رئيس الحكومة وزعيم حزب العمال البريطاني آنذاك توني بلير إلى "الامتياز الملكي"، وهي أداة قديمة للسلطة كانت تستخدم في "المجلس الخاص للملكة المتحدة"، وتمكّن الحكومة من تجاوز البرلمان والمحاكم. وكانت الحكومة تأمل أنها بهذه الطريقة ستمنع سكّان الجزر من العودة بشكل نهائي.

وأكدت المحكمة العليا قرارها عام 2006، فخسرت الحكومة البريطانية قضيتها أمام محكمة الاستئناف في العام التالي، لكن في 2008 حكم مجلس اللوردات ضد سكان الجزر رغم ضعف الأدلة، وعلى الرغم من أن الحكومة أعربت عن أسفها لعملية الإجلاء الأصلية.

وفي أبريل/نيسان 2010 أعلنت الحكومة البريطانية عن نيتها إنشاء محمية بحرية تغطي نحو 544 ألف كيلومتر مربع حول أرخبيل تشاغوس. وأثارت هذه الخطوة اعتراض السكان الأصليين، إذ اعتبروها تهديدا لمصدر رزقهم في حال تمكنوا من العودة للجزر.

أرخبيل تشاغوس يتميز بمناخ استوائي بحري وبدرجات حرارة مرتفعة على مدار العام (غيتي)

وكشفت تسريبات موقع ويكيليكس أن إعلان الحكومة البريطانية كان الهدف منه ضمان عدم عودة السكان، ونشرت برقية دبلوماسية للسفارة الأميركية تعود لعام 2009، وجاء فيها "إن التأسيس لمحمية بحرية قد يكون بالفعل، كما صرح وزير الخارجية آنذاك كولين روبرتس، الطريقة الأنجع للحيلولة دون إعادة توطين أي من السكان السابقين لجزيرة تشاغوس أو أبنائهم".

إعلان

وفي 2017 طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة رأيا استشاريا من محكمة العدل الدولية بشأن قانونية إنهاء الاستعمار في موريشيوس، بما في ذلك أرخبيل تشاغوس. وأكدت موريشيوس أن التخلي عن الجزر كان شرطا للحصول على استقلالها في 1968.

في 2019 اعتبرت محكمة العدل الدولية أن عملية إنهاء الاستعمار كانت غير قانونية وأوصت بإنهاء السيطرة البريطانية على أرخبيل تشاغوس وإعادته إلى موريشيوس. علما أن الحكم كان استشاريا وغير ملزم.

وفي 22 مايو/أيار 2019 صوتت الغالبية العظمى من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إعادة أرخبيل تشاغوس إلى موريشيوس، إذ أيدت القرار 116 دولة ولم تعارضه إلا 6 دول، بينما امتنعت 56 دولة عن التصويت.

وقالت الأمم المتحدة إن إنهاء استعمار موريشيوس "لم يتم بطريقة تتسق مع حق تقرير المصير"، وبناء على ذلك فإن "استمرار إدارته (من قبل بريطانيا).. يمثل تعديا".

وطالب القرار بريطانيا بإنهاء احتلالها للأرخبيل دون قيد أو شرط في غضون 6 أشهر. وبعد انتهاء المهلة المحددة، أصدرت وزارة الخارجية البريطانية بيانا أصرت فيه على أن لها كل الحق في الاحتفاظ بالسيطرة على الأرخبيل.

وقال البيان "ليس لدى المملكة المتحدة شك في سيادتها على إقليم المحيط الهندي البريطاني الذي ظل تحت السيادة البريطانية المتواصلة منذ 1814".

وأضاف البيان أنه "لم تكن لموريشيوس يوما السيادة على إقليم المحيط الهندي البريطاني"، وأن "المملكة المتحدة لا تعترف بادعائها".

من جانبها قالت حكومة موريشيوس في أواخر المهلة الدولية إن بريطانيا صارت الآن "محتلا مستعمرا غير شرعي"، وفقا لما أعلنه رئيس وزراء موريشيوس برافيند جوغنوث.

وأعلنت المملكة المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 2024 أنها ستتنازل عن سيادتها على أرخبيل تشاغوس لصالح جمهورية موريشيوس، لكنها ستحتفظ بالسيطرة على قاعدة عسكرية في جزيرة دييغو غارسيا أكبر جزر الأرخبيل بموجب عقد تأجير لـ99 عاما.

إعلان

وقد سُلِّمت الجزر إلى موريشيوس في صفقة ادعت الحكومة أنها ستحمي مستقبل القاعدة الجوية الأميركية التي هددتها -كما تقول- الطعون القانونية.

وفي 26 يناير/كانون الثاني 2025 قالت صحيفة تلغراف البريطانية إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تلقى نصائح من قيادات في الحزب الجمهوري بمنع إنجاز اتفاق تتنازل فيه بريطانيا عن جزر تشاغوس لصالح دولة موريشيوس، وذلك على ضوء مخاوف أن يسهل هذا على إيران التجسس على القوات الأميركية.

وتصاعدت المخاوف الأميركية بعدما دخلت موريشيوس في محادثات مع طهران بشأن استضافة فروع للجامعات الإيرانية، إذ يخشى خبراء أمنيون غربيون أن تُستخدم تلك المؤسسات للتجسس على القاعدة الأميركية البريطانية في تشاغوس.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الحکومة البریطانیة قاعدة عسکریة إلى موریشیوس موریشیوس فی فی عام

إقرأ أيضاً:

لماذا يعارض مهندس أميركا أولا الحرب على إيران؟

في صباح يوم الأربعاء 18 يونيو/حزيران 2025، وأثناء فعالية إفطار أقيمت في واشنطن العاصمة، خرج ستيف بانون، كبير الإستراتيجيين السابق في البيت الأبيض وأحد أبرز مهندسي تيار "اجعلوا أميركا عظيمة من جديد" أو "ماغا"، عن إجماع تيار الصقور المؤيد لدخول الحرب الإسرائيلية مع إيران.

قال بانون حينها أمام حشد من الصحفيين، إن من الخطأ أن تتورط الولايات المتحدة في عمل عسكري مباشر على إيران، حاثًا الرئيس ترامب على التدقيق في المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية، والتروي قبل التصعيد، وتذكُّر أنه "لا داعي للعجلة" في اتخاذ القرارات، مطلقًا تحذيرًا مدويًا "حرب أخرى في الشرق الأوسط ستمزق هذا البلد [الولايات المتحدة] إربًا!"

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا قررت إسرائيل تغيير قواعد الحرب مع إيران؟ هل السر إيال زامير؟list 2 of 2في انتظار نهاية العالم.. السيرة الدينية لسفير أميركا في إسرائيلend of list

بعد أيام قليلة فقط، وعندما استهدفت ضربات جوية أميركية ثلاث منشآت نووية إيرانية في الفترة بين 21 و22 يونيو/حزيران، كرَّر بانون موقفه الحذر، مؤكدًا عدم وجود معلومات استخبارية جديدة تشير إلى اقتراب إيران من امتلاك سلاح نووي.

لم يكن هذا التصريح عابراً؛ بل كان افتتاحية لحملة سياسية وإعلامية مضادة للتصعيد على إيران، يقودها أحد أكثر العقول نفوذاً في تيار اليمين القومي الأميركي.

ابتدأ بانون ندوته الصباحية بنقد قاس لحال الولايات المتحدة الأميركية، تحدث عن "الأزمة الاقتصادية والمالية في أميركا، والتراجع الصناعي، ثم أزمة المهاجرين، وتحدي صعود الصين كقوة عالمية، وترهل النخب السياسية الأميركية، وتقاعس الأوروبيين.."، واعتبر الدخول في مواجهة مع إيران لن تؤدي إلا إلى تفاقم هذه الأزمات؛ في الوقت الذي يحتاج فيه الأميركيون إلى إعادة بناء الداخل، وليس فتح جبهات خارجية، ومحذراً من مخاطر الانصياع لما وصفه "جنون نتنياهو"، وسعي اللوبي الإسرائيلي إلى دفع الولايات المتحدة إلى حرب لا تخدم مصالحها.

وبعد أيام من تحذيرات بانون، نفذت الولايات المتحدة الأميركية ضربتها العسكرية الخاطفة ضد ثلاث منشآت نووية إيرانية في ساعة مبكرة من صباح السبت 22 يونيو/حزيران 2025، حسب توقيت إيران تحت اسم "مطرقة منتصف الليل"، وفي لحظات تشوبها التوترات الإقليمية والتجاذبات الداخلية الأميركية.

إعلان

ومنذ الإعلان عن الضربات الأميركية على مواقع نووية إيرانية، لم يخف بانون تخوفاته من فتح جبهة حرب على إيران، فقد عارض الهجوم الواسع، واعتبره مقبولاً في حال كان محدوداً واضطرارياً دون الانجرار إلى حرب طويلة، وألمح في بث مباشر على بودكاسته الخاص إلى أن القرار سُرب إليه بعد لقائه ترمب قائلاً: "الحفلة بدأت"، مشيراً إلى بداية جديدة من التصعيد قد تغرق المنطقة في حرب طاحنة.

من هو ستيف بانون؟

لفهم موقف بانون بصورة أفضل، علينا تتبُّع مسار حياة بانون من ضابط في البحرية الأميركية (المارينز) خدم في الخليج العربي إلى شخصية شعبوية بارزة في الإعلام.

امتدت مسيرة ستيف بانون البحرية المبكرة بين عامي 1977 و1983، وحملتْه إلى ذات المياه التي ينظر العالم إليها بترقب بعد أن أضحت رمزًا لتدخلات الولايات المتحدة الطويلة الأمد في المنطقة.

خدم بانون عقب "أزمة الرهائن الأميركيين" في إيران عام 1980، مساهمًا في تنسيق الرسائل والاتصالات على متن مدمرة أميركية في الخليج العربي؛ وهي التجربة التي شكّلت مدخله الأول إلى الجغرافيا السياسية للمنطقة. تذكَّر بانون لاحقًا أن تلك المرحلة غرست فيه شكوكًا عميقة تجاه التدخلات العسكرية التي يفرضها القادة التنفيذيون في تهور.

وفي تأمُّلاته الشخصية، وصف بانون تلك الفترة، بأن "فشل تلك المهمة مثّل نقطة تحول جوهرية في رؤيته السياسية"، دافعًا به من حالة اللامبالاة السياسية السابقة إلى ناقد يرفض التدخلات الخارجية. يصف نفسه بأنه "ريغاني الهوى" أي متبنيًا سياسة الرئيس الأسبق رونالد ريغان الرافضة للتدخلات العسكرية الخارجية، وهو ما يقول، إنه تعزز بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

ستيف بانون يردد باستمرار أن على حلفاء الولايات المتحدة الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم (أسوشيتد برس)

ظهر ستيف بانون للعالم مع صعود دونالد ترامب داخل الحزب الجمهوري، فقد كان بانون هو العقل الإستراتيجي الذي قاد حملة ترامب الرئاسية الأولى عام 2016، وكان كبير مستشاريه في البيت الأبيض قبل أن يُقال لاحقًا. أسّس بودكاست "وار روم" (War Room) الذي يُعدّ الآن منبرًا مركزيًا لحركة ماغا (MAGA)، والتي تمثل تيارًا يمينيًا قوميًا يرى في الولايات المتحدة مركزًا حضاريًا لا يجب أن تنغمس في حروب خارجية عبثية، حتى أصبح بانون الصوتَ الأعلى حالياً داخل اليمين القومي الشعبوي المعارض للتدخلات الخارجية.

عندما برز بانون على الساحة السياسية ضمن إدارة ترامب، حمل معه رؤية للعالم تقوم على الشعبوية، والاعتداد بالقوة الأميركية التي تقتضي ضبط النفس.

انتقد بانون مرارًا الحروب التي فجرها جورج بوش الابن، وعارض الضربة الصاروخية الأميركية على قاعدة الشعيرات في سوريا عام 2017، كما شكّك في عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق عام 2020، متسائلًا عما إذا كانت فعلًا عملية "ضرورية". كان موقفه دائمًا واضحًا وثابتًا: يجب أن تتجنّب الولايات المتحدة دور "شرطي العالم".

ورغم تعبيره المتكرر عن دعمه العقدي لإسرائيل، واصفًا نفسه بالفخور بأنه "مسيحي صهيوني"، يعتقد بانون أيضًا، أن على حلفاء الولايات المتحدة الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، بينما تتراجع واشنطن خطوة إلى الخلف مبتعدةً عن الانخراط المباشر في المواجهات.

إعلان وما هي "ماغا"، وكيف انقسم مؤيدو ترامب؟

أما حركة ماغا، فقد أسسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واستخدم شعار "Make America Great Again"، وتعني "اجعلوا أميركا عظيمة من جديد"، واستخدم الشعار رمزا لحركته السياسية الشعبوية في حملاته الانتخابية.

وتستند أيديولوجية ماغا إلى مزيج قوي من القومية، والانغلاق الاقتصادي، والمحافظة الثقافية. وقد ظهرت هذه الأيديولوجيا بقوة في حملة دونالد ترامب الانتخابية عام 2016، وسرعان ما تحولت إلى حركة شعبوية مؤثرة، شكّلت حولها قاعدة واسعة من الناخبين الجمهوريين، لا سيما من الطبقة الوسطى والعاملة، فالحركة ليست حزباً مستقلاً؛ بل تيارا داخليا يؤثر بقوة في توجيه سياسات الحزب الجمهوري.

استثمرت الحركة في مشاعر الإحباط لدى الناخبين تجاه العولمة والهجرة والتدخلات الأميركية الخارجية التي لا تنتهي. بالنسبة لكثيرين داخل هذا التيار، جسَّد ترامب تمردًا على النخبة الحاكمة، ووعد بإعادة موضع السيادة الأميركية في الداخل، وتقديم مصالح البلاد على حساب الالتزامات الدولية.

وكان بانون، بصفته كبير مستشاري ترامب سابقًا، ثم شخصية إعلامية مؤثرة، من أبرز من صاغ هذا الإطار الأيديولوجي، مؤكدًا القومية الاقتصادية، وتشديد الرقابة على الحدود، والارتياب العميق تجاه السياسات الخارجية التي تقوم على التدخل.

ومع تطور ماغا، بدأت الخلافات تظهر بين جناحها القومي والشعبوي المحافظ من جهة، وبين صقور الحزب الجمهوري التقليديين الداعمين للتدخلات العسكرية في الخارج من جهة أخرى.

وقد برز هذا التوتر الأيديولوجي في عدة محطات حاسمة، مثل قرار سحب القوات من أفغانستان وسوريا، والنقاشات في الموقف من روسيا والصين، وصولًا إلى الانخراط في الحرب الإسرائيلية الحالية على إيران. يعبر تحفّظ بانون تجاه الحرب الأميركية ضد إيران عن اصطفافه الواضح مع الجناح الرافض للتدخلات الخارجية، ويعكس في الوقت ذاته الرغبة العميقة داخل "ماغا" لإعادة تشكيل السياسة المحافظة الأميركية على أسس تُعلي من شأن الداخل الأميركي وتنبذ الحروب الخارجية التي لا طائل منها.

رغم الانتقادات التي وجهها بانون لخوض أميركا حربا مع إيران، فهو يؤكد في الوقت ذاته أن حركة ماغا لن تنقلب على ترامب (الأناضول)

إذاً تنطلق معارضة بانون الحرب على إيران من منظومة فكرية جيوسياسية وقومية شاملة تعيد تعريف أولويات الدولة الأميركية، وليس من مجرد موقف تكتيكي يتم اتخاذه بناء على ضغط من إسرائيل، "لا حروب بلا نهاية، لا حروب من أجل الآخرين، لا شكر لنتنياهو"، وعلى إسرائيل أن تنهي ما بدأته بنفسها.

ويرى بانون، أن الحرب على إيران في ظل حالة عدم الاستقرار العالمي، تهدد أمن الولايات المتحدة القومي ولا تعززه، فالمعركة الاقتصادية مع الصين، وأزمة الحدود والمهاجرين، والتضخم المتصاعد، أولى بالاهتمام من الدخول في حرب مفتوحة في الخليج. بينما يهاجم بانون بشدة "مؤسسة الأمن القومي"، كتعبير عن الدولة العميقة، ويصفها بـ "الوحش"، ويراها تسعى دوماً إلى إبقاء أميركا في صراع، لتعزيز سلطتها على حساب المواطنين.

لماذا يرفض بانون الحرب على إيران؟

يؤكد بانون أنه في حال إجراء استطلاع للرأي العام الأميركي وسؤال الناس "هل تؤيدون دخول القوات الأميركية في قتال مباشر ضد إيران هذا الأسبوع؟، ستكون النتيجة صفر تأييد مقابل 100 معارضة" من منطلق أن الشعب مثقل بأزمات داخلية ذات أولوية على فتح جبهة قتال خارجية.

يقول بانون: "لقد قالها الشعب الأميركي بوضوح، نريد الخروج من حروب الشرق الأوسط، ولهذا السبب احتفل الجميع عندما أعلن الرئيس ترامب سياسة جديدة خلال زيارته الأولى للمنطقة: "سلام وازدهار، لا للإملاء الثقافي، لا لتصدير قسري للديمقراطية".

بينما اعتبر بانون قناة "فوكس نيوز" مصنعاً للدعاية والتضليل وليست منبراً للحقيقة في إشارة لترويج القناة لضرورة الرد العسكري على إيران، وهي التي لعبت دوراً حاسماً في تسويق الحرب على العراق سابقاً، وها هي تعود إلى نفس النموذج الدعائي "إقناع الشعب أن العدو يمتلك سلاحاً نووياً، وعلينا التحرك الآن"، وأضاف "جورج بوش خدعنا، فهل سنخدع من جديد؟"، كما أوضح أن "جزءا من الشارع الجمهوري لم يعد يثق في صقور الإعلام المحافظ، فالقناة لم تعد تنقل الخبر؛ بل تصنعه وفق أجندة بعض النخب التي ترتبط بمصالح إستراتيجية في المنطقة".

تعد قناة فوكس نيوز من أهم داعمي الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الجانب الإعلامي، وهي القناة التي ما زالت تواجه هجومًا من بانون على إثر موقفها من إيران (الفرنسية)

ينطلق بانون من مبدأ "لا للحروب التي لا تنتهي" الذي كان أحد أعمدة حملة ترامب 2016، ثمّ حوله إلى مرجع في الأوساط اليمينية القومية، خصوصاً أن الحرب على إيران لن تكون قصيرة أو محدودة كما يتم تسويقها، وقد تؤدي إلى تفجير الإقليم بأكمله، واستهداف الجنود الأميركيين المنتشرين في الخليج والعراق وسوريا.

إعلان

في حين إن الاندفاع نحو الحرب من وجهة نظر بانون نابع من معلومات استخبارية غير موثوقة، وفشل في تقييم العواقب الإستراتيجية، فيقول: "الإسرائيليون يدّعون أن لديهم معلومات استخبارية، لا أفهم لماذا لا نزال نعتمد على جهاز استخبارات أخفق وفشل فشلا ذريعاً في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وفي واحدة من أسوأ الهفوات الاستخبارية منذ 11 سبتمبر/أيلول".

إرث العراق وأفغانستان… ذاكرة شعبية تؤطر الرفض

استحضر بانون تجربة حرب العراق باعتبارها "الخطيئة الأصلية" التي أدت لضياع ثقة الشعب في الحكومات والمؤسسات، مثّلت "صدمة ورعبا"، وتم الترويج بأن احتلال بغداد خلال 3 أشهر، ثم ماذا؟ 20 عاما في العراق، و7 تريليونات دولار، و8000 قتيل.

يؤكد بانون، أن الرأي العام الأميركي بات واضحاً، فهو لا يريد المزيد من الحروب في الشرق الأوسط على حد وصفه.

ويحذر بانون من أن إيران بعكس الأنظمة التقليدية، تقاتل من خلال شبكة من الوكلاء والمليشيات الإقليمية التي من الممكن أن تشعل الصراع من عدة جبهات، وقال: "الهجوم على إيران قد يمزق البلاد من الداخل، هناك 40 ألف جندي مهدّدين داخل شريط من الأزمات يمتد من العراق إلى اليمن"، وقد وصف ذلك بقوله "جنودنا لا يقاتلون دولة، بل شبكة ذات امتداد غير مرئي".

الصين: الخطر الإستراتيجي الأعظم

يشدّد بانون على أن التركيز الإستراتيجي الحقيقي للولايات المتحدة يجب أن يكون موجهاً للصين لا إيران، حيث يُضعف الانخراط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط من قدرة واشنطن على مواجهة التحدي الجيوسياسي الأعظم الذي تمثله بكين، وهو ما وصفه "الجنون الإستراتيجي" الذي يشبه الهروب من الجبهة الأساسية.

وفق تقرير وزارة الدفاع الأميركية السنوي لعام 2024 عن الصين، فإن الصين تبني بسرعة ترسانتها النووية بحيث تتجاوز 1000 رأس نووي عملياتي بحلول عام 2030، وتعمل على تحقيق تفوق إقليمي بحلول 2035، وتحدي الهيمنة الأميركية عالمياً بحلول 2049، مع تطوير الصين القدرات والمفاهيم العسكرية في عام 2023 نحو تعزيز قدرة جيشها على "خوض الحروب والانتصار فيها على عدو قوي".

ووفق التقرير فإن الصين تعمل على تجميع عناصر القوة الوطنية من خلال التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري لتحقيق "النهضة الكبرى للأمة الصينية" بحلول عام 2049، ومن خلال هذه القوة ستعمل الصين على إعادة تشكيل النظام الدولي بما يدعم نظام حكمها ومصالحها الوطنية.

متطفّلون: تقاعس أوروبا

يوجه بانون انتقاداً لاذعاً للحلفاء الأوروبيين، ويقول "نحن نخسر طائراتنا لحمايتهم.. أنتم لستم حلفاء، أنتم متطفلون"، ويعلّق على جهود الولايات المتحدة العسكرية في البحر الأحمر، "لم تكن هناك مساعدة حقيقية، فبينما نشرت واشنطن مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات، وعشرات السفن، ومئات الطائرات، وآلاف الجنود، لتأمين الممرات البحرية وخطوط الملاحة نحو قناة السويس، لم ترسل أوروبا سوى ثلاث قطع بحرية: مدمرة بريطانية واحدة، فرقاطة إيطالية، وكورفيت فرنسي".

ومع أن بعض المسؤولين الأوروبيين بدأوا يتحدثون عن نية رفع إنفاقهم العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن بانون يشكّك في تلك التصريحات، ويدعو للنظر في الوقائع على الأرض، ويقول للأوروبيين: "لا تحسبوا الصفقات الخضراء، أو الرعاية الصحية، ضمن ميزانية الدفاع… أروني القوات القتالية، أروني العمليات العسكرية.. أين تلك القوات التي وعدتم بها أوكرانيا؟ لا شيء ولن ترسلوا شيئاً، لأنكم لا تستطيعون".

واتهم بانون أوروبا، أنها أفرغت نفسها ذاتياً من قدراتها الصناعية والاقتصادية، وعلى مستوى الجهوزية والموارد، حيث تعاني ألمانيا من أزمة صناعية بسبب سياسات نزع الكربون، وكذلك فرنسا وبريطانيا تعانيان من مأزق اقتصادي لا يقل حدة، ومن زاوية أخرى، يرى بانون أن اندفاع واشنطن نحو الحرب مع إيران يجري بينما تتقاعس أوروبا عن المشاركة الجدية.

كيف تفاعل الشارع والنخبة الأميركية مع موقف بانون؟

تماهت كثير من التعليقات التي رافقت الضربة الأميركية تجاه المنشآت النووية الإيرانية على وسائل التواصل الاجتماعي -خاصة من قاعدة ترامب الانتخابية- مع موقف بانون أكثر مما أيدت العمل العسكري، إذ أظهرت استطلاعات على منصات يمينية مثل Gettr وTruth Social أن 57% من المستخدمين يرون أن الضربة "لم تكن ضرورية في هذا التوقيت"، بينما اعتبر 41% أن "إسرائيل تؤثر أكثر مما يجب في القرار الأميركي". وهو ما يدل على اتساع الفجوة بين الإدارة وأنصارها من جهة، والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى.

إعلان

كتبت النائبة اليمينية مارغوري تايلور غرين والموالية للرئيس ترامب في رسالة نشرتها قبل الضربات الأميركية المفاجأة "في كل مرة تكون فيها أميركا على وشك العظمة، نتورط في حرب أجنبية جديدة، لم تكن القنابل لتسقط على شعب إسرائيل لو لم يكن نتنياهو قد أسقط القنابل على شعب إيران أولاً، إسرائيل دولة تمتلك السلاح النووي، هذه ليست معركتنا، السلام هو الحل".

تقول النائبة مارغوري تايلور غرين: لم تكن القنابل لتسقط على شعب إسرائيل لو لم يُسقط نتنياهو القنابل على شعب إيران (الفرنسية)

أما الصحفي الاستقصائي غلين غرينوالد كتب: "عندما يصبح بانون أكثر حكمة في السياسة الخارجية من قادة الحزبين، فهذه لحظة يجب أن نتوقف عندها"، بينما وصف نعوم تشومسكي الضربة بأنها "جزء من السيرك الإستراتيجي الدائم الذي يدير الحروب عبر الشاشات".

ورغم كافة الانتقادات، يؤكد بانون أن حركة ماغا لن تنقلب على ترامب، ففي تعليقه الأخير قال: "نحن نعارض الحرب حتى النهاية، لكن القاعدة ستبقى مع ترامب"، لكن هذا الموقف بحد ذاته يكشف عن انقسام داخلي في التيار المحافظ بين من يرى في ترامب زعيماً متسقاً مع مبادئهم، ومن يرونه قد بدأ بالتخلي عن شعاره الأبرز "أميركا أولاً"، ويتجه للإذعان لضغوط المؤسسة التقليدية -الدولة العميقة- التي وصفها بانون بـ "الوحش".

بانون نفسه، بدأ يشعر بالتهميش التدريجي داخل البيت الأبيض، مع صعود تيار أكثر قرباً من البنتاغون ووزارة الخارجية، لكنه رغم ذلك لا يزال يمتلك تأثيراً كبيراً عبر برنامجه الذي يتابعه ملايين الأميركيين يوميا.

وهو سيظل يكرر ما يقوله طوال الوقت، إذ إن المسألة لا تقتصر على معارضة الحرب فحسب، بل تتعلق بضمان ألّا يُخاض أي نزاع مستقبلي إلا بوضوح في الهدف، وبإجماع شعبي، ولأسباب وجيهة لا يمكن دحضها. وحتى يحين ذلك الوقت، يبدو أن بانون يعتقد أن أفضل ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة للشرق الأوسط هو أن تتركه وشأنه.

مقالات مشابهة

  • لماذا يعارض مهندس أميركا أولا الحرب على إيران؟
  • تجارة وصناعة عُمان تشارك في القمة الاقتصادية العربية البريطانية بلندن
  • رويترز: إيران قد ترد على أميركا خلال يومين
  • أميركا أمام مجلس الأمن: ضربنا إيران لمساعدة إسرائيل وحمايتها
  • روسيا: أميركا انحازت لإسرائيل وتجاهلت دعوات خفض التصعيد
  • مارك كيميت لشفق نيوز: ترامب سيرد بقوة إذا استُهدفت المصالح الأميركية في العراق
  • السفارة الأميركية ببغداد: احتمالات لهجمات ضد شركات ومواقع
  • بريطانيا: لم نشارك في الضربة على إيران وأُبلغنا مسبقًا بها
  • بريطانيا تدعم الهجوم الأمريكي على إيران.. لم نتورط فيه وتم إبلاغنا
  • الخارجية الأميركية: لا ينبغي للمواطنين الأميركيين السفر إلى العراق لأي سبب