السّـرديّـات على أنواع عـدّة تختـلف باخـتلاف المجالات التي تـنـتـمي إليها والمـوضوعـات التي تـدور عليها. قـد يكـون البُـعـد الحكـائـيّ فـيها واحـدًا وجامعًا؛ وقـد تـشترك أنـواعُها في تـقـنيات السّرد التي تبدو عابـرةً لها جمـيعها، لكنّ ذلك لا يخفي مساحة الاختلاف بين هاتـيك الأنواع: إنْ في الموادّ التي تَـتألّـف منها تلك السّرديّـات، أو في الأغـراض المرتجاة من كـلّ نوعٍ منها، أو في قـدرة التّـأثـير التي يحتازها هـذا النّـوع السّرديّ وذاك على مـتـلقّـيـه.
ولـعـلّـه يـكون مـن الغـنـيّ عـن البيـان التّـنبيـه إلى أنّ الجـهـد المبـذول في تـقـميش مـوادّ كـلّ سـرديّـة وصوْغِـها يـخـتـلف مـن نـوع إلى نـوع باختـلاف المـوارد التي يـتـيحُـها المجـال الذي يـنـتـمي إليـه كـلٌّ منـها، وبتـفاوت مساحـةِ الحـريّـة التي تـفـتحـها تلك المـوارد أو تُـغـلـقـها أمـام عـمليّـة بـنـاء السّرد؛ كما أنّ من نـوافـل القـول إنّ مستويات استـقـبال السّرديّـات: عُسْـرًا ويُـسْـرًا، تَـلَـقِّـيًّـا سلـبـيًّـا وتـفـاعُـلًا، تــتـفـاوت بتـفاوُت مادّة كـلّ سـرديّـة ودرجـة حبـكـتـها، تـمـامًـا كما بتـفاوُت الاستـعـدادات الذّهـنـيّـة والثّـقافـيّـة للمـتـلـقّـيـن. تـتـعـدّد أنـواع السّرديّـات، إذن، مـن الخرافـات والحكايات الأسطوريّـة ومن سرديّـات أدبيّـة وفـنّـيّـة، إلى سرديّـات تاريـخـيّـة، إلى سـرديّـات ديـنـيّـة، وأخـرى سـياسيّـة وأيـديـولوجيّـة، ثـمّ سرديّـات فكـريّـة...
قـلـنا إنّ مـن العـوامـل المائـزة بيـن أنـواع السّرديّـات، بـل من أهـمّـها، موادّهـا التي تـتـألّـف بـها عمـارتُها.
يـمـكـننا أن نـميّـز، في المعـرض هـذا، بين أربـعـة منها أكـثـرُها بسيـط (مـن مـادّة واحـدة) أو ذو تـركيـبٍ يـسـيـر وبـعـضُـها مـركَّـب.
أوّل تلك المـوادّ الخـيـال مـن حيث هـو مَـلَـكَـة خـلاّقـة تَـقْـوى على تـركـيب الأشيـاء والظّـواهـر والحـوادث، وعلى إعـادة تَـمـثُّـل المعطـى القائـم على نحـوٍ جـديـد يـقـع فيـه تـنـاوُلُـه بالزّيـادة والنّـقـصـان، بالتّـعـديل والتّـغـيـير، بالتّـحسيـن والتّـقـبيـح... إلخ. لذلك في وسـع الخيـال أن يكـون مَعـيـنًـا خصـبًـا لتـوليـد مـا لا عـدَّ لـه ولا حـصـر من صـنـوف السّـرد. على أنّ السّرديّـات الخياليّـة أو التي مبْـناها على الخيـال متـفـاوتـةٌ على صعيـد درجة جمـوح الخـيال فيـها؛ إذِ الخـيـالُ فيـها مـن ضـربيـن: خـيالٌ معـقـول تـؤسِّـسـه قـواعـدُ السّـبـبـيّـة والإمكـان؛ وهـو خيـالٌ يحاكـي الواقـع، محاكاة ذهـنـيّـةً، ويمتـح مـوادّه منـه بـل قـد يَـتـنـاولُـه وإنْ أتـى على نظـامـه المتحـقِّـق بالتّحـويل وإعادة البـنـاء؛ وخـيـالٌ لا مـعـقـول، مـنـفـلِـت مـن كـلّ ضابـطٍ مـنـطـقـيّ وواقـعـيّ، بحيث تنـعـدم فيـه السّـبـبـيّـةُ وعـلاقـاتُ التّـرابط بين السّـابـق واللاّحـق، وتـأخـذ فيـه الحـوادث والشّـخـوص صُـوَرًا من التّـضـخيـم والمغـالاة الخارقـيْـن لكـلّ مـا هـو طـبيـعيّ. السّرديّـات التي تـمتـح مادّتـها مـن النّـوع الأوّل من الخيـال هي السّرديّـات الأدبـيّـة، على وجـهٍ عـامّ؛ أمّـا التي تـنـتـمي إلى الضّـرب الثّـاني مـنـه فهـي الخـرافـةُ أو الحكـايـةُ ذات البـنـاء الميـثـيّ. ومـع أنّـهـمـا مـعًـا فـعْـلان من أفـعال الإبـداع، إلّا أنّ الفاصـل بـيـنـهـما مـكـانـةُ الخيـال في كـلٍّ مـنـهـما وحـدودُه وكـثـافـتُـه.
ثـاني المنـابـع لامتـيـاح مـوادّ السّرديّـات الواقـعُ بـما هـو فـضاءٌ للأشيـاء والظّـواهـر والحـوادث التي نـعيش في أكـنافـها، أو تُـلـقي عـليـنا بآثارها: مـا حـدُثَ مـنـها ومـا قَـدُم، فــتـفـرض عليـنـا سلـطـةَ ذلك الواقـع حتّـى وإنْ تـفـاوت تـأثـيرُهـا في النّـاس وبـيـنـهـم. ولأنّ الواقـع الموضوعـيّ يـتـنـزّل مـن الوعـي والسّـلوك منـزلـة الإطـار المـرجـعـيّ الحـاكـم لشـطـرٍ كـبـيـرٍ مـن التّـمـثّـلات والأفعـال، كـان في حكـم المـفهـوم أن تـسـتـقـيَ عـمـليّـاتُ بـنـاء السّرديّـات مـوادَّهـا منـه.
على أنّ السّرديّـات الواقـعـيّـة، أو الوقـائـعـيّـة؛ أي التي مبْـنـاهـا على وقـائـع حـدثـت أو على أخـبـارٍ ومـرْويّـات عــنـها لا تخـرج عـن نـمـوذجـيـن: عـن سرديّـات تسْـرُد واقــعًـا عـيـانـيًّـا قـابلًا للتّـبـيُّـن الاختـباريّ، أي تـقـدّم عـنـه روايـةً يُـثـبـتـها أو يـدحـضُـها مـا تـوفَّـر مـن أدلّـةٍ وقـرائـن في زمـنٍ معاصـرٍ طـريّ؛ وسـرديّـات تسـرُد واقـعًـا غيـرَ مباشـر، محـمـولًا إلـيـنا في صـورة أخـبـار. وهي إمّـا تصادق على الأخـبـار تلك وتـعيـد إنـتـاجـها، أو تـنـتـقـدهـا وتـعـيـد تصـويـبـها مـن طـريق توسُّـل الوثيـقـة، أو القـريـنـة/ الشّـاهـدة، أو العـقـل أو هُـمـا مـعًـا. وفـي الحـاليـن، تـعـيـد السّرديّـات روايـة تـاريـخٍ تـصـرَّم ناسـجـةً أحـداثـه على المنـوال الـقـديـم عـيـنِـه أو على منـوال جـديـد. هـذا هـو الفـيـصـل، مـثـلًا، بيـن نـمـوذجـيْ السّـرديّـات السّـياسيّـة (والصِّـحـفـيّـة والإعـلاميّـة استـطـرادًا)، التي مـدارُها على الوقـائـعـيّ الجاري والسّرديّـات التّـاريـخيّـة التي عُـدّتُـهـا أخـبـارٌ ماضـيـات عـن وقـائـع تَـقَـادَم بـها العـهـد فـبـاتـت لا تُـعْـرَف إلّا مـن خـلال أخـبـارٍ عنـها مـتـبـايـنـةٍ تحـتـاج إلى تمـحـيصٍ ونـظـر.
ثـالـث المـوادّ ما يحـمـله التّـعليـم الدّيـنـيّ (جمـع: تـعالـيم) مـن إفـادات عـن نـظـام الاعـتـقـاد ومسـلّـمـاتـه، وعـن منـظـومـة الأوامـر والنّـواهـيّ فـيه.
تـنـتـمي هـذه الإفـادات إلى نصـوصٍ تأسيسيّـة في كـلّ ديـن: كِـتـابـيّ أو غـيـر كـتابـيّ، ثـمّ لا تـلـبـث شبـكـةٌ تـفسيـريّـة وتـأويـليّـة، فـقـهـيّـة ولاهـوتـيّـة أن تـدخُـل على عـالـم هـذه النّـصوص فـتـعيـد تـقـديـمَ معـنـاهـا ومضـمـونـها إلى الجمـاعـة المؤمـنـة؛ الأمـر الذي يـنـجـم منـه ميـلاد سرديّـات ديـنـيّـة أو، قُـل، سـرديّـاتٍ عـن الدّيـن. إنّ مـادّة هـذه السّرديّـات هي ما تـقـدّمـه الأديـان مـن معـطـيـاتٍ بـعـد أن تخـضـع للتّـأويـل، مـن قِـبَـل طبـقـة رجـال الدّيـن، فـتُـقَـدَّم على أنّـهـا الرّوايـة الرّسـميّـة عـن الدّيـن. ولـكـن، لـمّـا كـانـتِ التّــأويـلات متعـدّدة في كـلّ ديـن، تَـولَّـد مـن ذلك تـعـدُّدٌ في السّرديّـات الدّيـنـيّـة بحـيـث يَـخـتصّ بـكلّ سرديّـة مـذهـبٌ بـعيـنـه أو فـرقـةٌ في كـلّ ديـنٍ من الأديـان التي تـعـتـنـقـهـا الجـمـاعـات والمـجتـمـعـات الإنسانـيّـة من غيرِ تسليـمٍ من أيٍّ من تلك المذاهب والفرق بشرعيّـة وجود روايةٍ واحدة (رسميّة).
رابـع المـوادّ البـنـاءُ الذّهـنـيّ والفـرضـيّ للمـعـطيـات الذي يـسـمح بـه العـقـل.
للعـقـل معطـياتُـه الذّهـنـيّـة الخاصّـة التي يُـنـتـجـها بـنـفـسـه في شـكـل مبادئ وقـواعـد أو في شكـل مفـاهيـم وتصـوّرات. وهـو يـبـنـيـها إمّـا انـطـلاقًـا مـن قـواعـد منـطـقـيّـة نظـريّـة أو انـطلاقًـا مـن مـوادّ مـن الواقـع مُـتَـمـثّـلَـة في نـظـامٍ فَـرَضـيّ. إنّ نـظـريّـةً مّـا: فـكـريّـة أو فـلسـفيّـة أو عـلـميّـة أو أخـلاقـيّـة هي، بالمعـنـى هـذا، سـرديّـة فـكـريّـة؛ إذ هـي محاولة لِـتـفـسيـر العـالـم أو ظـواهـرَ منـه (طـبيـعيّـة، اجتـماعيّـة، إنـسانيّـة) وإسـبـاغ المعـنـى والمعـقـوليّـة عليها. وإذْ تـتـعـدّد السّرديّـات الفـكريّـة وتـخـتـلـف في كلّ ثـقـافة من الثّـقافـات، فـبـتـعـدُّد منـطـلـقاتـها وأساساتـها النّـظريّـة وأجـهـزتـها المفـهـوميّـة واخـتـلافـها، لكـنّـها تظـلّ وحـدها السّرديّـات الأقـلّ تـداوُلًا واسـتـقـبالًا مـن الجـمـهـور العـامّ، لأنّـهـا الأكـثـر نخـبـويّـة في كـلّ السّرديّـات الأخرى التي تَـنْـفُـق بها الثّـقـافـاتُ والمجتمعات نَـفَـاقًـا.
على أنّ هـذه الأنـواع الأربعـة مـن السّرديّـات ليـست صافـيـة النّـمـوذج دائـمًـا، بـل غـالـبًا ما يـقـع التّـقاطـع بيـن نـوعيـن منها أو أكـثـر فـيـتـلبّـس الواحـد منـهـما الثّـاني.
هـكـذا نُـلْـفـي تَـوالُـدَ سرديّـاتٍ من طـرازٍ آخـر تـمـزج في بـنيـتها الحِكـائـيّـة بيـن الواقـعـيِّ والخـياليّ، أو بيـن الذّهـنـيّ والواقـعـيّ، أو الخيالـيّ والذّهـنـيّ... إلخ.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت على أن فی کـل
إقرأ أيضاً:
مصر التي خرجت من التاريخ والسياسة وزيارة ترامب
"مصر خرجت من التاريخ والسياسة".. عبارة صادمة قالها الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في واحد من لقاءاته الأخيرة على شاشات التلفاز عام 2014 مع الإعلامية المصرية لميس الحديدي.
حديث هيكل كان في سياق أوسع؛ يحاول فيه أن يقدم بعض النصائح للسلطة الجديدة في مصر بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 برئاسة عبد الفتاح السيسي.
بعد أكثر من عشر سنوات من حكم السيسي، بات خروج مصر من التاريخ والسياسة واقعا مؤلما يعيشه الشعب المصري والمنطقة العربية بأسرها، تجلّى هذا الواقع في زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لثلاث عواصم عربية خليجية وسط تجاهل تام للنظام المصري ورئيسه عبد الفتاح السيسي.
بعد أكثر من عشر سنوات من حكم السيسي، بات خروج مصر من التاريخ والسياسة واقعا مؤلما يعيشه الشعب المصري والمنطقة العربية بأسرها، تجلّى هذا الواقع في زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لثلاث عواصم عربية خليجية وسط تجاهل تام للنظام المصري ورئيسه عبد الفتاح السيسي
أما الخروج من التاريخ فحدث ولا حرج، فعلاقة مصر بزيارات رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إلى المنطقة علاقة تاريخية ممتدة؛ بدأت عام 1943 بزيارة للرئيس الأمريكي روزفلت إبان الحرب العالمية الثانية، ثم كرر الزيارة بعدها بعامين في 13 شباط/ فبراير 1945 واجتمع خلالها مع الملك فاروق الأول وإمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي وملك السعودية عبد العزيز آل سعود ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، وذلك على متن القارب الملكي المصري في منطقة البحيرات بقناة السويس.
لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لمصر بعد ثورة 1952، ففي عام 1974 زار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون العاصمة المصرية القاهرة والتقى بالرئيس المصري أنور السادات لعقد مباحثات حول سيناريوهات ما بعد حرب أكتوبر 1973.
تواصلت زيارات رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصر بعد ذلك، فقد زار الرئيس الأمريكي جيمي كارتر القاهرة 3 مرات في الفترة بين كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس 1979 للتحضير لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.
في عهد الرئيس المصري المخلوع الراحل حسني مبارك، تعاقب على زيارة مصر العديد من الرؤساء الأمريكيين، فقد زار الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مصر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1990 والتقى حسني مبارك لمناقشة أحداث حرب الخليج وغزو العراق للكويت.
لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي زار مصر أربع مرات في عهد مبارك؛ بدأها في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1994 والتقى مبارك ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، ثم حضر قمة صانعي السلام في شرم الشيخ خلال زيارته الثانية في آذار/ مارس 1996، وأطلع حسني مبارك حول عملية السلام في الشرق الأوسط في زيارته الثالثة في آب/ أغسطس 2000، وكانت آخر زيارات كلينتون في تشرين الأول/ أكتوبر 2000 لحضور اجتماع القمة بين الفلسطينيين والإسرائلييين برعاية مصر في شرم الشيخ.
في عهد جورج بوش الابن، كانت مصر على موعد مع ثلاث زيارات للرئيس الأمريكي الجديد، ثم كانت آخر زيارة لرئيس أمريكي للقاهرة في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما في حزيران/ يونيو 2009 حيث التقى مبارك وزار أهرامات الجيزة وألقى خطابا في جامعة القاهرة.
اليوم يأتي دونالد ترامب، الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، لزيارة المنطقة العربية ويذهب إلى الرياض والدوحة وأبو ظبي، ويلتقي الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، ويجتمع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الهاتف، يناقش الاتفاق النووي الإيراني، يرفع العقوبات عن سوريا، يتحدث عن غزة وحرب روسيا وأوكرانيا، يستمع إلى رؤى القادة العرب حول أمن البحر الأحمر وعودة الملاحة العالمية مرة أخرى، وكلها ملفات تتقاطع مع مصر وأمنها القومي وعمقها الإقليمي، ولكن المفاجأة أن مصر في عهد السيسي قد خرجت أيضا من جدول زيارة ترامب، فلماذا وكيف حدث ذلك؟
النتيجة الحتمية لكل ذلك أن تتحول مصر إلى دبلوماسية بلا تأثير، وغياب تام عن الترتيبات الدولية الكبرى، واختفاء كامل من طاولات اتخاذ القرار الإقليمي والدولي، فتراجع دورها في القضية الفلسطينية وملف المفاوضات، وعانت من عجز تام أمام أزمة السودان، تآكل الدور المصري بالمقارنة مع دول أخرى في ليبيا، وانعدم التأثير في دول حوض النيل وأفريقيا حتى عجزت مصر عن حل معضلة سد النهضة، وتضاءلت الفاعلية المصرية على المستوى العربي وانزوت مصر إلى الزاوية
منذ انقلاب تموز/ يوليو 2013 وتولي السيسي مقاليد السلطة، تحولت مصر إلى دولة أخرى غير التي عرفها التاريخ وتحدثت عنها السياسة على مدار عقود، فأصبح اقتصادها مشلولا تحت الوصاية الخارجية بسبب فشل السياسات الاقتصادية؛ الذي دفع مصر إلى حافة الانهيار والارتهان إلى صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية التي تحكمت بشكل كامل في القرار السيادي والسياسي المصري.
أغرق السيسي ونظامه البلاد في موجات من الديون الخانقة، ووصل الدين الخارجي إلى 155.204 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2025. ثم كانت الطامة الكبرة في تبعية السيسي المذلة للدعم الخليجي والارتهان الكامل لدول الخليج، خاصة الإمارات والسعودية، حيث تخلت مصر عن استقلال قرارها الإقليمي مقابل حِزم الإنقاذ المالي أو كما قال السيسي مقابل فلوسهم اللي زي الرز.
تحولت مصر في عهد السيسي إلى دولة مأزومة ومجتمع محطم، ارتفعت نسب الفقر وتلاشت الطبقة الوسطى بشكل لافت، وتحول التضخم وغلاء الأسعار إلى شبح يأكل الأخضر واليابس.
كان من الممكن أن يحدث كل ذلك ولكن في إطار محدد وتسهل السيطرة عليه لو أن للسياسة مكانا في عهد السيسي، ولكن -كما قال هيكل- مصر خرجت من السياسة أيضا. تحول نظام السيسي إلى نظام مأزوم يتغذى على قمع الحريات السياسية وتكميم الأفواه والسيطرة الكاملة على الإعلام، وتدجين منظمات المجتمع المدني وصناعة أحزاب سياسية كرتونية تشكلها المخابرات وتشرف عليها الأجهزة السيادية.
كانت النتيجة الحتمية لكل ذلك أن تتحول مصر إلى دبلوماسية بلا تأثير، وغياب تام عن الترتيبات الدولية الكبرى، واختفاء كامل من طاولات اتخاذ القرار الإقليمي والدولي، فتراجع دورها في القضية الفلسطينية وملف المفاوضات، وعانت من عجز تام أمام أزمة السودان، تآكل الدور المصري بالمقارنة مع دول أخرى في ليبيا، وانعدم التأثير في دول حوض النيل وأفريقيا حتى عجزت مصر عن حل معضلة سد النهضة، وتضاءلت الفاعلية المصرية على المستوى العربي وانزوت مصر إلى الزاوية أمام القمم الكبرى التي باتت تعقد في الرياض وأبوظبي.
السيسي يتحمل مسؤولية كبيرة في وصول مصر إلى هذه الحالة، فالرجل بنى فلسفته على مجموعة من القيم والعبارات؛ أبرزها احنا فقرا أوي، مصر شبه دولة، أمة العوز، مفيش تعليم أو صحة أو توظيف.. فكانت النتيجة الحتمية لكل ذلك أن مصر خرجت من التاريخ والسياسة وزيارة ترامب.