ترجمة - أحمد شافعي -
في الوقت الذي أعلنت فيه إدارة ترامب في وقت متأخر من الثالث من مارس أنها ستعلق المساعدات العسكرية لكييف، وسخر نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس على قناة فوكس نيوز من قدرة أوروبا على توفير قوة حفظ سلام خاصة بها، كان ما يسمى بجسر كير ستارمر العابر الأطلسي ينهار.
في سياق محاولاتهما لدعم أوكرانيا، يطارد كل من ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهما هو الضمانات الأمنية الأمريكية التي لا يعتقد أحد أنها ذات قيمة، حتى لو افترضنا إمكانية الحصول عليها من رئيس أمريكي مشتت الذهن في الوقت الراهن.
يبدو أن فريدريش ميرز، الفائز في انتخابات ألمانيا في فبراير، هو الأوضح رؤية بين الزعماء الأوروبيين الثلاثة الكبار. فقد كانت كلماته في ليلة الانتخابات -إذ قال إن أوروبا يجب أن «تحقق الاستقلال عن الولايات المتحدة»- في محلها، حتى عند التشكيك فيما لو أن حلف شمال الأطلسي لا يزال على قيد الحياة. ففي نهاية المطاف يعتمد كل نص قانوني على تأسيس مسبق للحقائق. ولو أن ترامب وحاشيته من كارهي أوروبا يعتقدون أن أوكرانيا هي التي بدأت الحرب، مثلما قالوا مرارا، فما معنى هذا بالنسبة لحلف شمال الأطلسي؟ وأي عضو في الحلف يمكن أن يطمئن إلى أن تفعيل المادة الخامسة -التي تنص على أن الهجوم على أي من الأعضاء يجب أن يعد هجوما على الجميع- لن يكون محل نزاع؟ خير لنا الآن أن نعتاد على فكرة أن حلف شمال الأطلسي أصبح مسألة تخضع للتفسير، وأن لترامب رؤية شاذة حتى لأكثر الحقائق بداهة.
ليس ستارمر وماكرون مخطئين فحسب، بل إنهما يتبعان استراتيجية تبدو على نحو متزايد استراتيجية غير مسؤولة، وتتمثل في خفض درجة الحرارة، وتهدئة ترامب، وتجنب محض التلميح إلى المواجهة. وهما يعتزمان أن يبقيا على حياة عدد من الأوهام بشأن أمريكا المعاصرة وهي أوهام لا أثر لها إلا أن تؤخر أوروبا عن الوقوف على قدميها بالكامل. وليس للمزيد من التأخير من أثر إلا أن يجد الأوروبيون أنفسهم عما قريب غارقين في كارثة.
في الحوار الذي قلل فيه فانس ضمنيا من شأن بريطانيا وفرنسا معتبرا أنهما «دولتان عشوائيتان»، أكد أيضا أن الضمان الأمني الوحيد الذي تعتزم إدارة ترامب تقديمه لأوكرانيا هو صفقة المعادن سيئة السمعة. ولكن صفقة المعادن ليست ضمانة أمنية بأي حال، ولا بد أن إدارة ترامب تدرك أنه سيسهل تنفيذها إذا ما أصبحت أوكرانيا دولة ضعيفة، شأن بيلاروسيا، غير قادرة على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية. وفي كل الحالات، ستكون روسيا سعيدة بأن تتولى السيطرة السياسية على أوكرانيا مقدمة للشركات الأمريكية القريبة من ترامب أي معادن وأي حماية تطلبها.
والمشكلة الكبرى هي أنه ليس فيما قاله ترامب أو فانس حتى الآن أي شيء من شأنه أن يقنع الأوكرانيين بأن سيادتهم لن تتعرض للتهديد من روسيا مرة أخرى بعد اتفاق السلام. وبطبيعة الحال، أصر فولوديمير زيلينسكي على أن السيادة الأوكرانية، وليس مجرد السلام في ظل الاحتلال الروسي، يجب أن يكون هدف اتفاق السلام. ومن الممكن ضمان هذه السيادة بطرق شتى. فعلى أقل تقدير، لا بد أن يستمر تدفق الأسلحة الغربية، لكن هل يصدق أحد أن ترامب سوف يدعم أوكرانيا عسكريًّا بعد وقف إطلاق النار، في حين أنه زعم مرارا أن روسيا لن تخرق أي اتفاق سلام على أي حال؟
قد يتم توقيع صفقة المعادن في الأيام المقبلة. ولن يعني هذا الكثير. ولكن إذا رفض زيلينسكي توقيعها لعدم ثقته في الفكرة السخيفة المتمثلة في صفقة معادن دونما ضمانات أمنية، فإن إدارة ترامب سوف تحاول تغييره بغيره في قصر مارينسكي في كييف. ولقد قال ترامب في الثالث من مارس إنه «لا ينبغي أن يكون إبرام الصفقة بهذه الصعوبة. يمكن إبرامها بسرعة كبيرة. ولو أن شخصا بعينه لا يريد إبرامها، فأعتقد أن هذا الشخص لن يبقى طويلا».
وقد أخبرني شخص واسع الاطلاع على السياسة الأوكرانية -في مؤتمر أمني عقد مؤخرا في سويسرا- أننا ينبغي أن نتوقع بدء ظهور أخبار سلبية عن الرئيس الأوكراني في وسائل الإعلام الدولية. ثمة مساران. أن تنتهي العملية التي بدأها ترامب حتما باختفاء أوكرانيا بوصفها دولة ذات سيادة. وهذه نتيجة مأساوية بطبيعتها، ولكن بعد كل التضحيات الهائلة التي قدمها الأوكرانيون على مدى ثلاث سنوات من الحرب، فهي أيضا نتيجة لا تطاق. ويرجو المرء أن تتفق الغالبية العظمى من الزعماء الأوروبيين على ذلك.
ولا يتمثل البديل في مجرد استكمال خطة ترامب، أو محاولة توجيهه إلى مسار أفضل، وإنما في وضع بديل يجب تقديمه في هذه المرحلة صراحة بوصفه خطة مختلفة معارضة لأفكار ترامب الخطيرة.
خلافا للرأي الشائع، لدى الأوروبيين كثير من الأوراق التي يمكنهم اللعب بها. فلديهم ابتداء، مئاتا مليار دولار من الاحتياطيات الروسية المجمدة يمكن الاستيلاء عليها فورا ونقلها إلى أوكرانيا. ومن شأن هذا المبلغ أن يقطع شوطا طويلا في بناء أفضل مجمع صناعي للطائرات المسيرة في التاريخ، وهو ما تقترب أوكرانيا من امتلاكه بالفعل.
والواقع أن الطائرات المسيرة، كما يعلم كل من زار أوكرانيا، حلت بالفعل محل النيران بعيدة المدى باعتبارها السلاح الأكثر كفاءة في الصراع. وقد قالت شركة يوتلسات، وهي المنافس الأوروبي لشركة ستارلينك للاتصالات عبر الأقمار الصناعية التي يملكها إيلون ماسك، في الرابع من مارس إنها «تتعاون بنشاط مع مؤسسات وشركاء تجاريين في أوروبا»، مؤكدة أن لديها معدات قادرة على «تمكين النشر السريع لمحطات مستخدمين إضافية للمهام والبنية الأساسية الحرجة» حتى إذا كان ماسك يعتزم تعطيل ستارلينك في أوكرانيا. وفي الرابع من مارس أيضا، أعلن ميرز عن اتفاق مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، شريكه المحتمل في الائتلاف، لإعفاء الإنفاق الدفاعي الذي يتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي من «كوابح الديون» التي تحد الاقتراض الحكومي. فبدا ميرز وكأنه نسخة جيوسياسية من ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي في أثناء أزمة منطقة اليورو، عندما تعهد بأن تفعل ألمانيا «كل ما يلزم» لصد «تهديدات الحرية والسلام» في أوروبا. لقد أدى هذا الإعلان إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض الألمانية، ولكنه بمرور الوقت قد يؤدي إلى نتيجة ثانية مرغوبة للغاية: فإذا اندمج مع جهود مماثلة في عواصم أخرى وفي بروكسل، فإن نقطة تحول مالية قد تنشئ مجموعة كبيرة سائلة من السندات الحكومية لإسقاط الدولار عن قاعدته في مركز النظام المالي العالمي.
ولو أن الحكومات الأوروبية تخشى التكاليف الاقتصادية لدعم أوكرانيا بمفردها، فعليها أن تعيد النظر بسرعة في الأفكار القديمة. لأن محض الإشارة إلى أن أوروبا ستحتاج إلى إعادة تسليح نفسها أعطى بالفعل دفعة كبيرة للاقتصاد الأوروبي المريض. وأسواق الأوراق الأوروبية هي التي تقود الأسواق العالمية هذا العام، مع مكاسب تزيد على 11%. لماذا؟ حتى الوقت الراهن من عام 2025، حققت أسواق الأوراق المالية السبعة التي تشكل مؤشر الطيران والدفاع في أوروبا مكاسب تزيد على 20% متجاوزة أسهم السبعة الرائعين في أمريكا -أي أبل ومايكروسوفت وألفابت وأمازون وإنفيديا وميتا وتيسلا. فلو أن محض التكهن بإعادة تسليح أوروبا قد أدى إلى هذا، فتصوروا التأثير الذي قد تحققه «ثورة جديدة في الشؤون العسكرية» في أوروبا وأوكرانيا: جهود مقصودة ومنسقة للاستثمار في الجيل الجديد من أنظمة الأسلحة، والوثب على الأنظمة القديمة المتخلفة من المجمع الصناعي العسكري في شمال فيرجينيا.
لقد حان الوقت لإنقاذ أوكرانيا بهذه العملية، وربما إنقاذ أوروبا أيضا.
برونو ماسيس مراسل الشؤون الخارجية في صحيفة نيويورك ستيتسمان وكان وزيرا للشؤون الأوروبية في البرتغال من عام 2013 إلى عام 2015.
عن ذي نيو ستيتسمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إدارة ترامب فی أوروبا من مارس
إقرأ أيضاً:
لماذا يظل السلام في أوكرانيا أملا بعيد المنال؟
بعد مرور ما يقرب من أربع سنوات على الحرب الروسية الأوكرانية، تتكثف المساعي لإنهاء الحرب. لم تسفر الدبلوماسية على مدار الأسابيع القليلة الأخيرة عن مقترح واحد بل عن مقترحين بينما يتنقل المبعوثون الأمريكيون في رحلات مكوكية بين كييف وموسكو. ووسط استعراضات التصفيق العلني ـ المفتعلة في أغلب الأحيان ـ لجهود الرئيس دونالد ترامب لوقف إراقة الدماء، يتدافع الجميع لصياغة شروط السلام، فضلا عن الحقائق على الأرض.
مع ذلك، وعلى الرغم من فورة النشاط الدبلوماسي، تظل احتمالات وقف إطلاق النار ضئيلة. ومن غير المرجح أن نشهد وقف إطلاق النار في غضون أسابيع، أو حتى في غضون أشهر. والسبب واضح ومباشر: فلا تزال أهداف روسيا وأوكرانيا غير متوافقة بشكل جوهري، ولم يجد أي من الطرفين سببا كافيا للتوصل إلى حل وسط.
ولم يساعد تركيز ترامب المنفرد على التوصل إلى اتفاق (بغض النظر عن التفاصيل) في تغيير الحسابات الاستراتيجية عند أي من الطرفين. لقد جعل ترامب إنهاء الحرب، بصرف النظر عن العواقب التي قد يخلفها ذلك على أوكرانيا وأوروبا، إحدى الأولويات القصوى في ولايته الثانية، وهو منزعج إزاء عدم حدوث ذلك بالفعل.
عندما ترغب في إبرام صفقة بأقل تكلفة ممكنة ولا تبالي بشكل خاص بالشروط أو التداعيات في الأمد القريب أو البعيد في عموم الأمر، فإن المسار الأقل مقاومة يتمثل في الضغط على الطرف الأضعف.
الطرف الأضعف، بالطبع، هو أوكرانيا، ليس فقط لأن اقتصادها وسكانها وجيشها أصغر مقارنة بروسيا، ولكن أيضا لأنها متورطة في فضيحة فساد طالت مؤخرا أندريه يرماك، رئيس أركان الرئيس فولوديمير زيلينسكي. وإذ يدرك ترامب ومستشاروه أن زيلينسكي في موقف صعب في الداخل، فإنهم يَشتَمّون فرصة سانحة. فقد يكون الضغط على أوكرانيا الآن أكثر تبشيرا بتحقيق نتائج.
ولكن ما لا يفهمونه على ما يبدو هو أن ضعف زيلينسكي يجعل التنازلات أصعب، وليس أسهل. فبينما تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن ربع الأوكرانيين فقط يريدون القتال حتى النصر الكامل، وهو ما يمثل تحولا دراماتيكيا عن سنوات الحرب الأولى، تظهر ذات الاستطلاعات أن معظم الأوكرانيين لا يزالون يريدون نهاية للحرب بشروط أوكرانية وليست روسية.
وحتى لو كان يميل إلى ذلك كل الميل، فلا يستطيع زيلينسكي الضعيف سياسيا أن يدعم اتفاقا تفوح منه رائحة الاستسلام، والذي سيعارضه شعبه وجيشه بأغلبية ساحقة. من جانبها، تدرك روسيا أنها صاحبة الموقف الأقوى ولا تحاول التوصل إلى شروط قد تقبلها أوكرانيا. في الواقع، لا يحاول الرئيس فلاديمير بوتن إنهاء الحرب على الإطلاق؛ لأنه يعتقد أن بإمكانه أن يحقق في ساحة المعركة نتائج أفضل من تلك على طاولة المفاوضات.
الواقع أن القوات الروسية تحرز تقدما بطيئا وصعبا في دونباس، وبرغم أن التكاليف باهظة ـ عشرات الآلاف من الضحايا، والإجهاد الاقتصادي، والعزلة الدولية ـ فإن بوتن أظهر أنه على استعداد لتحملها. فهو لا يزال مقتنعا بأن الوقت في صالحه.
وبتقديم مطالب متطرفة يعلم أن أوكرانيا من غير الممكن أن تقبلها ـ الاعتراف القانوني بالأراضي التي ضمتها روسيا، والحياد الأوكراني دون ضمانات أمنية حقيقية، وفرض قيود فعلية على سيادة أوكرانيا ـ يستغل بوتين نفاد صبر ترامب للتوصل إلى اتفاق.
إن هدف الكرملين ليس التفاوض بحسن نية؛ بل الظهور بمظهر المتعاون مع ترامب والقادة الأوروبيين المتعاطفين معه مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، على أمل أن تلوم الولايات المتحدة أوكرانيا على الفشل الدبلوماسي المحتوم.
في أفضل سيناريو يتخيله بوتن، تحقق هذه الاستراتيجية لروسيا أمرين: الإفلات بدرجة أكبر من العقاب على هجماتها على أوكرانيا (التي قد تستفز لولا ذلك ردة فعل أميركية عكسية) وحلف شمال الأطلسي الأكثر انقساما. لكن استراتيجية بوتن ليست بلا حدود. فقد أظهر ترامب بالفعل أنه قادر على الانقلاب على روسيا أيضا.
فعندما شعر بالإحباط من تعنت بوتن في وقت سابق من هذا العام، منحت الولايات المتحدة أوكرانيا الإذن بشن ضربات بعيدة المدى داخل روسيا، وفرضت عقوبات جديدة على شركتي روسنفت ولوك أويل، وضغطت على الهند لتقليص مشترياتها من النفط الروسي.
علاوة على ذلك، بذلت أوكرانيا، وأوروبا، ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو القدر الكافي من الجهد (حتى الآن) للحفاظ على تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا، ومواصلة السماح بتوجيه ضربات عميقة للبنية الأساسية النفطية الروسية. الحد الآخر الذي يقيد استراتيجية بوتن هو أن ترامب لم يعد يتحكم في شريان الحياة الممدود لأوكرانيا.
فالولايات المتحدة تبيع الأسلحة وتوفر المعلومات الاستخباراتية، لكن الدول الأوروبية تمول الآن المجهود الحربي الأوكراني بالكامل. وهذا يقلل إلى حد كبير من نفوذ واشنطن على كييف. وقد أوضح القادة الأوروبيون، سواء من خلال الاستفادة من الأصول الروسية المجمدة، أو من خلال إصدار مزيد من الديون المشتركة، أنهم لن يتركوا أوكرانيا تخسر بسبب نقص المال.
لذا، سوف تمر الحرب عبر جولة أخرى من المحادثات الفاشلة، وشتاء آخر، وربما ربيع آخر. وسوف تستمر القوات الروسية في محاولة السيطرة على مزيد من الأراضي. وسوف تواصل أوكرانيا الدفاع عن نفسها بينما تضرب البنية الأساسية الروسية. وسوف تتصاعد التكاليف البشرية والاقتصادية. ومن المرجح أن يتدهور موقف أوكرانيا، حتى في حين تدفع روسيا ثمنا باهظا من الدماء والأموال مقابل مكاسب محدودة.
ولن يتوفر القدر الكافي من الاستعداد للتنازل في أي وقت قريب. أتمنى لو لم تكن هذه هي الحال. ولكن عندما تكون أهداف الأطراف غير متوافقة جوهريا، فلن يتسنى لأي قدر من الضغط الخارجي أو الدبلوماسية ردم الفجوة. سوف يأتي السلام في نهاية المطاف ـ ولكن فقط عندما تفرضه ساحة المعركة والظروف المادية. لن يتحقق السلام من خلال مساعي ترامب الدبلوماسية الحالية، بغض النظر عن عدد المواعيد النهائية التي يحددها.