جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-10@15:51:46 GMT

خديعة الفوضى الخلاقة

تاريخ النشر: 8th, December 2025 GMT

خديعة الفوضى الخلاقة

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يميل بفطرته إلى التواصل والتعاون مع من حوله، وهذه خصيصة إلهية أودعها الله سبحانه في خلقه لتتكامل بها الحياة وتستقيم شؤونها، فالتعارف والتعاون والعيش المشترك ليست مجرد حاجات بشرية؛ بل هي جزء من الخليقة والغاية الكبرى التي خُلق الإنسان لأجلها. وقد جاء ذلك جليًا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30).

فالاستخلاف يعني عمارة الأرض، وهذه العمارة لا تتم إلا في ظل مجتمع منظم، تسوده قيم التعاون والتكامل. ولا شكّ أن تحقيق هذا الهدف السامي يحتاج إلى وجود نظام متكامل، ومنهج حياة واضح يُمكّن الإنسان من ممارسة نشاطه وتحقيق أهدافه وطموحاته في ظل استقرار مجتمعي يشعره بالأمان والاطمئنان. فكل نهضة بشرية في التاريخ بدأت من هذا الأساس؛ نظامٌ يحمي الإنسان، ومنظومة قيمية تهذب سلوكه، وإطار اجتماعي يوفّر له فرصة التطوّر.

ومع وجود ذلك النظام المتكامل، فإن التنوع البشري يُعدّ جوهر ذلك النظام وأداة توازنه، فقد جعل الله الاختلاف بين البشر مدخلًا للتكامل لا للتناحر، ومصدرًا للجمال لا للفوضى، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).

والاختلاف البشري ليس نقطة ضعف؛ بل هو لوحة خلق محكمة تُظهر عظمة التنوع في الفكر والسلوك والعطاء؛ بما يخدم المجتمع في نهاية المطاف.

والمجتمع الإسلامي، عبر تاريخه الطويل، كان مجتمعًا منظمًا تحكمه قيم وأعراف وتقاليد أصيلة تميّزه عن غيره من المجتمعات. فهو مجتمع مبني على الرحمة والتكافل والعدل، مجتمع قوي ليس بقوة السلاح والعتاد فحسب؛ بل بقوة الروابط الإنسانية التي تشكل أساس بنيته. هذه القيم انغرست في النفوس عبر القرون، وأصبحت جزءًا من الشخصية الإسلامية التي تحفظ التوازن بين الدين والدنيا، بين الروح والمادة، وبين الفرد والجماعة.

لكننا اليوم، ومع التطور السريع الذي اجتاح العالم، بدأت بوادر التغيير تظهر على ذلك النظام الذي كان يسود مجتمعاتنا الإسلامية. حيث تغيرت الذائقة، وتبدل السلوك، وظهرت تقليعات دخيلة لم تنشأ من رحم قيمنا؛ بل جاءت على هيئة موجات عابرة للثقافات، تغزو العقول قبل الأماكن، وتستهدف منظومة الأخلاق تحت شعارات برّاقة ظاهرها الحرية والانفتاح وباطنها هدمٌ للقيم وتشويه للثوابت.

لقد بدأت تتسلل إلينا نماذج من التقليد الأعمى، ترفع شعارات مسمومة ليس الهدف منها التطور؛ بل التذويب التدريجي لهويتنا. وهذه ليست ظواهر عفوية؛ بل هي نتيجة منهجيات فكرية وإعلامية عابرة للحدود، تستهدف المجتمعات الإسلامية عبر تغيير الأولويات ونشر قيم دخيلة تهدف لفصل الإنسان المسلم عن جذوره. ولذا ركزت تلك التيارات على الناشئة، الذين يُنظر إليهم باعتبارهم صفحة بيضاء يسهل التأثير عليها وتشكيل عقولهم بعيدًا عن القيم الأصيلة التي نشأ عليها آباؤهم.

إنَّ بث الفوضى في القيم والأخلاق والأعراف أصبح مشروعًا منظمًا لدى بعض الجهات الفكرية العالمية، التي تدرك جيدًا أن المجتمع إذا اهتزت قيمه من الداخل، سقط بدون حرب وبدون قوة. وما يسمونه اليوم بـ"الفوضى الخلّاقة" ليس إلا مصطلحًا مُنمَّقًا يُراد به التضليل، فهو ليس خَلْقًا ولا بِناءً؛ بل هدمٌ تحت غطاء التغيير.

تأتي هذه الفوضى على هيئة دعوات للتحرر من كل قديم، لكنها في الحقيقة ليست دعوة للتطور، وإنما محاولة لإحلال قيم الرذيلة مكان الفضيلة، وتشويه الهوية الفكرية والأخلاقية للمجتمعات المسلمة.

والفوضى، بأي شكل جاءت، لا يمكن أن تكون إيجابية؛ فهي فوضى سيئة مهما تم تزيينها، لأنها تقوم أساسًا على زعزعة القيم الموروثة وإثارة الشكوك حول الثوابت. وقد ظهرت آثار هذه الفوضى في عدة مظاهر: التشكيك في الدين، التقليل من العلماء، الهجوم على الرموز التاريخية، وإضعاف مكانة القيم الأخلاقية. فلم نكن نسمع سابقًا من يتجرأ على العلماء أو المجتهدين، بينما اليوم أصبحت هذه الأصوات عالية وحاضرة في المنصات الرقمية، تحاول بثّ التمرد وخلخلة المرجعيات الدينية والثقافية.

ومع ذلك، فنحن لا ندعو إلى إغلاق الباب أمام الأفكار الجديدة، فالمجتمع المتوازن يستفيد من كل فكر بنّاء يسهم في تقدمه. غير أن الفرق كبير بين الفكر البنّاء وبين ما يُروّج له من أفكار منحرفة كالإلحاد والمثلية والتفسخ الأخلاقي والابتذال العام. مثل هذه الأفكار ليست تطورًا؛ بل هي مساس مباشر بالحياء والقيم الأساسية التي تحفظ المجتمعات.

وقد سبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الواقع حين قال في الحديث الصحيح: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع..."، وهو تحذير واضح من الوقوع في فخ التقليد الأعمى الذي يحاول إلغاء خصوصية الأمة وذوبانها في غيرها بلا وعي أو بصيرة.

ومصطلح "الفوضى الخلاقة" ليس إلا نسخة مطورة من مصطلح قديم استخدم أثناء الاستعمار تحت شعار "جئنا لنعمر بلادكم". فهم آنذاك زينوا غزوهم بعبارات براقة، بينما كان هدفهم الحقيقي السيطرة على الثروات والعقول. واليوم يُعاد المشهد نفسه، لكن بأدوات فكرية ونفسية وإعلامية أكثر تأثيرًا.

وفي الختام، لا توجد فوضى خلاقة؛ فالفوضى لا تُنتج إلّا دمارًا وخرابًا وزعزعة للقيم والهوية. وعلى الدول والمجتمعات أن تكون أكثر وعيًا بمكائد أعدائها، وأن تبني حصانة فكرية لأبنائها، وأن تهتم بالتربية الواعية التي تُنشئ جيلًا قادرًا على التمييز بين التجديد البنّاء والفوضى المقنعة. فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

القبيلة اليمنية .. حارسة القيم والهوية وركيزة الصمود عبر تاريخ المواجهة مع الغزاة

على مدى قرون، وقفت القبائل اليمنية في طليعة المدافعين عن الأرض والقيم والهوية، ومنذ أن عرف اليمن الغزو الأجنبي، وصولًا إلى أشكال التدخل والاستعمار الجديد، الذي يقوده العدو الصهيوأمريكي وأدواته في المنطقة وعلى رأسها السعودية والإمارات، لم تتراجع القبيلة عن دورها المركزي كخط دفاع اجتماعي وعسكري وأخلاقي،  هذا التقرير يقدم قراءة صحفية تحليلية لمسار القبيلة اليمنية التاريخي، في الحفاظ على قيمها وهويتها في خضم النضال ومواجهة الغزاة والمحتلين قديماً وحديثاً، مع التوقف عند دور السيد القائد في تعزيز هذا الدور وتجديد مجده.

يمانيون / تقرير / طارق الحمامي

 

 كيف تشكّلت صلابة القبيلة اليمنية؟

كانت القبيلة اليمنية ولا زالت مؤسسة اجتماعية وسياسية واقتصادية متكاملة، تتشكل من منظومة عرفية تنظم العلاقات الداخلية والخارجية، تتضمن هياكل شوروية تتخذ القرارات في السلم والحرب، وروابط تضامنية قوية تجعل مصير الفرد مرتبطًا بمصير القبيلة، هذه المؤسسة أنتجت شخصية مقاومة، قادرة على حماية الأرض والحفاظ على القيم رغم تغير الظروف.

كما أن القبائل اليمنية مرّت بمحطات غزو متعددة، لكنها خرجت منها أكثر قوة وتنظيمًا، في مواجهة الغزاة، تبلورت أهمية التحالفات القبلية.

دخول الإسلام أضاف بُعدًا أخلاقيًا جديدًا، فانتقلت العصبية من إطارها الضيق إلى إطار منظم مبني على القيم، في حقب مواجهة الغزو العثماني، ظهرت القبيلة اليمنية كقوة عسكرية وسياسية موحدة، وفي الجنوب، خاضت القبائل مواجهات طويلة ضد الاحتلال البريطاني، وكانت المحصلة، أن كل مواجهة أنتجت مستوى أعلى من الوعي القيمي والدفاعي لدى القبيلة.

 

 بين إرث الصمود وتجدد الهوية

هناك شواهد تاريخية ستظل المرجعية التي سجلت هذا الدور الكبير للقبيلة اليمنية استطاعت من خلاله أن تحافظ على القيم وتحرس الهوية ، مثل النقوش السبئية والحميرية التي تكشف وجودًا راسخًا للقيم القبلية الأساسية، مثل الوفاء، العهد، الجوار، حماية الأرض، إضافة إلى التراث الشفهي والشعر القبلي الذي شكل مخزونًا تعبويًا يعزز روح المقاومة.

وبالعودة للدور التاريخي في الاسلام للقبيلة اليمنية فإن اليمنيين استحقوا لقب الأنصار المتوج بالوسام النبوي العظيم الذي منحه لهم رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم ، أكدت فيه القبائل اليمنية قوة التنظيم القبلي وقدرته على التحول إلى قوة دفاعية وطنية.

ومن الشواهد المعاصرة لدور القبيلة اليمنية في الحفاظ على القيم والهوية هو استمرار منظومة العرف في حل النزاعات ومنع التفكك الاجتماعي، ومساهمة القبائل المباشرة في حماية مناطقها ومقاومة أي قوة غزاة أو معتدية، وبروز النكف القبلي كأداة تضامن ودعم للمقاومة، والحفاظ على منظومة الأخلاق القبلية، الإيثار، الكرم، الشهامة،

كل هذه الشواهد تؤكد أن الهوية القبلية اليمنية لم تتجمد، بل تتجدد باستمرار بقدر ما تواجه من تحديات.

 

العمود الفقري لتماسك القبائل اليمنية من منظور قرآني 

عند تحليل طبيعة تماسك القبائل اليمنية واستمرار صمودها الاجتماعي والسياسي، يتضح أن جزءًا كبيرًا من هذا التماسك يعود إلى انسجام العرف القبلي مع القيم القرآنية الجامعة، ومن بين الآيات التي تُعد استشهادًا دقيقًا على هذا التطابق القيمي، قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).

مضمون الآية يمثل إطارًا أخلاقيًا يظهر جليًّا في سلوك القبيلة اليمنية عبر التاريخ، إذ تتجلّى روح العفو في ثقافة الصلح والتحكيم وحفظ الدم، وهي أدوات حافظت على السلم الأهلي ومنعت تفكك المجتمع القبلي، خصوصًا في لحظات الاضطراب.

وكذلك العرف القبلي الذي تمسكت به القبائل اليمنية لقرون، يقوم على مبادئ العدالة والوفاء وصيانة الحقوق، وهذا التطابق بين التوجيه القرآني والعرف القبلي يعزز شرعية القيم القَبَلية ويمنحها قوة روحية واجتماعية.

بهذا الاستشهاد القرآني يتضح أن تماسك القبائل لم يكن مبنيًا على العصبية وحدها، بل على قيم أخلاقية متوافقة مع الإيمان، ما منح القبيلة قوة داخلية تحميها من التصدّع، وقوة خارجية تمكّنها من الصمود في وجه الغزاة، وبهذا غدت القبيلة اليمنية امتدادًا أخلاقيًا للهوية الإيمانية.

 

دور الثقافة القرآنية في توحيد الصفوف أثناء المواجهات

أسهم الوعي القرآني في تخفيف النزاعات البينية، ومنح القتال معنى وهدفًا، وتوحيد قبائل متباعدة جغرافيًا في إطار مشروع تحرري واحد، أدى إلى تحوّل القيم الإيمانية إلى رافعة لصمود المجتمع.

 

السيد القائد يعيد للقبيلة اليمنية مجدها 

برزت في خطاب السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي رؤية واضحة تعتبر القبيلة اليمنية شريكًا أصيلًا في مشروع الدفاع عن الوطن، مشيداً بوعي القبائل وصلابتها، ومثمناً دورها التاريخي في مواجهة الغزاة والمعتدين، مؤكداً على أن القيم القبلية الأصيلة جزء من الهوية الإيمانية والوطنية، هذا الخطاب عزز مكانة القبيلة وأعاد إليها مجدها كمؤسسة صلبة في مواجهة الأخطار.

كما أثنى السيد القائد مرارًا على موقف القبائل في التصدي للعدوان، وقدرتها على حماية النسيج الاجتماعي، ودورها في نصرة المظلومين، والتزامها بالعهد والوفاء والشهامة، هذا التقدير أعطى القبيلة دفعة معنوية عززت دورها وتماسكها الداخلي.

يرتكز خطاب السيد القائد على دمج القيم القرآنية بالقيم القبلية لتأخذ كل قيمة قبلية أساساً لقيم الدين فرفعت القبيلة اليمنية بشجاعتها لواء الجهاد في سبيل الله ، وتدافعت بكل عتادها وعدتها في المواقف تلو المواقف في حماية الوطن من منطلق الواجب الإيماني ، ووفت بوعدها وولائها للسيد القائد تسليما والتزاماً شرعياً وأخلاقياً.

بهذا الاندماج تحوّلت القبيلة إلى قوة مجتمعية منظمة لا تعتمد فقط على إرثها، بل على وعي إيماني متجدد.

وفي المقابل عمل السيد القائد على تحويل القبيلة إلى شريك وطني جامع من خلال توجيه مشاركة القبائل ضمن رؤى قرآنية ووطنية لا مصلحية، ورفع مستوى الوعي السياسي والاجتماعي داخل القبائل، وتشجيع اللحمة القبلية ووحدة موقفها، مما جعل القبيلة ركيزة مركزية في مشروع الصمود الوطني.

وهكذا تجدد مجد القبيلة، ليس ككيان تقليدي، بل كفاعل وطني استراتيجي.

 

ختاماً 

إن قراءة التاريخ اليمني تكشف أن القبائل حافظت على قيمها وهويتها لأنها تمتلك، إرثًا متجذرًا في العدل والشهامة والوفاء، ورؤية إيمانية سمت بها فوق العصبيات الضيقة، تمضي تحت قيادة مؤمنة أعادت لها مكانتها الطبيعية، وتعزز وعيها الجمعي الذي جعل الدفاع عن الأرض جزءًا من الشرف القبلي والوطني.

وبينما تتواصل التحديات، تبقى القبيلة اليمنية صمام أمان وحارسًا للهوية ومخزونًا استراتيجيًا للصمود في وجه كل الغزاة.

مقالات مشابهة

  • برلماني: برنامج دولة التلاوة خطوة رائدة لتعزيز القيم الروحية والثقافية
  • لجنة اعتصام المهرة تحذر من جر المحافظة إلى مربع الفوضى خدمةً لأجندات خارجية
  • القصة الكاملة بعد حكم حبس أم سجدة عامين في اتهامها بالتعدي على القيم الأسرية
  • الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه
  • الحكم عامين وغرامة 200 ألف جنيه لـ «البلوجرأم سجدة» في الاعتداء على القيم الأسرية
  • لماذا يجب أن يُبنى مستقبل الإعلام على القيم الأخلاقية والتعاطف والمسؤولية المشتركة؟
  • عقوبات مشددة لزيادة التعريفة.. قانون انتظار المركبات يضبط الفوضى في الشوارع
  • القبيلة اليمنية .. حارسة القيم والهوية وركيزة الصمود عبر تاريخ المواجهة مع الغزاة
  • أنشطة متنوعة للتوعية المجتمعية وتعزيز القيم في ثقافة الإسماعيلية