حين يتساءل امرؤ عن الخلود، فإنني أفهمه باعتباره المثول الدائم في الألسن والذاكرة والحياة؛ وكما خص الله أنبياءه باصطفائه لهم، فقد انبرى للتاريخ رجال لا قبيل لهم بالنبوة الإلهية ولا نسب، بل كان خلودهم خلود من اقتبس من الشعلة الإلهية قبسا ظل ينير الدجى رغم تعاقب الأحقاب وتصرّف الدهور. ومتى ذكرنا الخلود -في غير الأنبياء- نجد الشعراء ينبرون حاملين شعلة خلافة الأنبياء، كيف لا! وهم الذين إذا ما أراد امرؤ أن يستشهد بقول بعد قول الأنبياء والكتب السماوية، نجد أقوالهم وأشعارهم تتصدر الذاكرة والمشهد.
وإذا ما ذكر الشعر كموضوع يومي، وحاجة يومية نعيش بها، لن نستطيع أن نذكره دون ذكر المتنبي، سيِّد الشعر والشعراء. وأقول هذا لأنني لم أجد شاعرا يستشهد به الإنسان البسيط والمثقف على السواء في أفراحهم، وفي أتراحهم، وفي تفاؤلهم وتشاؤمهم، وفي سخريتهم حتى!؛ أكثر كما يفعلون مع أبيات المتنبي وقصائده. فقوله:
ما مقامي بأرضِ نخلةَ إلا
كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ
يثير الفكاهة والضحك، مع الاعتراف ببراعة التوصيف. ولكنني وفي مشروع بدافع البحث الذاتي والاستكشاف، مستعينا بالأدوات التقنية الحديثة؛ تساءلت عما قد أجده عند المتنبي حين يتعلق الأمر بالعلوم الحديثة كعلم النفس -وهو الذي كتبت حوله مقالة سابقة في جريدة عمان بعنوان بين المتنبي وكارل روجرز!، في العام المنصرم- وقد حاولت حصر الأبيات الشعرية التي تتعلق بعلم النفس بشقيه في الأفعال، الإرادي، واللاإرادي. بعبارة أخرى، تلك الأفعال الظاهرة البيّنة التي نفعله بقصد وعن وعي حر كامل، والأخرى التي نفعلها بغير قصد وإرادة منا، وإنما دوافعها داخلية قد نستطيع رصدها، وقد تتمنع عن الرصد. ومن فائق براعته، أنه جمع الأفعال الإرادية واللإرادية في بيت واحد حيث يقول:
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ
تبين من بكى ممن تباكى
فقد جمع بين الفعل اللإرادي السمح وهو البكاء ابتداء ودون تكلّف، ثم يذكر الفعل الإرادي وهو التكلف بالبكاء. وفي ذات الموضوع يقول:
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها
إِذا كُنَّ إِثرَ الظاعِنينَ جَوارِيا
فإن المرء يغالب نفسه ويحاول إلجامها عن أن تغدر به وتخون إرادته ومشيئته، ولكنه لا يمسكها وتنفلت منه انفلاتا غير مقصود. وقد قارنت بين نسختين لديوان المتنبي، إحداهما نسخة عبدالرحمن البرقوقي، والأخرى لرهين المحبسين، أبي العلاء المعري وهو شرحه الكبير «مُعجِز أحمد»؛ وقد وجدت له أكثر من ستة آلاف بيت نرصد فيها التشابهات والتقاطعات مع علم النفس الحديث، وربط تلك الأبيات بالمدارس النفسية الحديثة والمشهورة، بل إن عدة الأبيات التي وجدتها تقارب السبعة آلاف بيت في رصد أوليٍّ. فمن علم النفس التحفيزي، إلى علم النفس القيادي، إلى علم النفس الوجودي والسلوكي والاجتماعي، فضلا عن علم النفس الإيجابي الذي تحدثت عنه في مقالتي السابقة في المقارنة بينه وبين كارل روجرز.
إن هذا البحث البسيط، وبأدوات أولية؛ يجعلنا نقارب العلوم العربية وأعلامها ونعيد اكتشافهم واكتشاف آثارهم بعدسة جديدة وغير معتادة. وقد تحدثت غير ما مرة عن كتاب مسكويه «تهذيب الأخلاق» وتلك العبقرية النفسية التي فيه وتلك التوصيفات والعلاجات التي يذهل المرء من عبقرية راصدها في وقت مبكر جدا. ومما يذكرني بكتاب مسكويه -يسميه البعض ابن مسكويه- هو كتاب الشيخ الرئيس ابن سينا. فقد وجدت في كتاب ابن سينا «القانون» في الطب توصيفه لأمراض نفسية حديثة كالاكتئاب الذي يفرد له فصلا في موسوعته البديعة «فصل في المالنخوليا»، ونجد اتفاقه مع مسكويه في بعض الآراء والتوصيفات والعلاجات. وفي العموم، فإن زهد الناس في تراثهم العريق، زهد نابع من إحساس بالنقص ومن جهل متجذر، ولا نجد أمة ارتفعت وعلا شأنها وشأوها إلا برفعها لعلمائها وكبارها والاعتراف بفضلهم ومكانتهم والاهتمام بآثارهم ودراستها مرة تلو مرة؛ فقد تتغير الأسماء وتتبدل التوصيفات، لكن حقيقة الأشياء وجوهرها هي هي، وكأنما هي نظرية العود الأبدي تشير إلى جهلنا بسخرية العارف البصير، وحكمة القديم القدير.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: علم النفس
إقرأ أيضاً:
تحت شعار “جدة تقرأ”.. هيئة الأدب والنشر والترجمة تُطلِق معرض جدة للكتاب 2025
البلاد (جدة)
أَطلقت هيئة الأدب والنشر والترجمة اليوم الخميس فعاليات معرض جدة للكتاب 2025 في مركز جدة سوبر دوم، تحت شعار “جدة تقرأ”، بمشاركة أكثر من 1000 دار نشر ووكالة محلية ودولية تمثل 24 دولة، توزعت على 400 جناح، في حدث ثقافي يشكل إحدى المنصات الثقافية الكبرى في المملكة، ووجهة للناشرين والمبدعين وصنّاع المعرفة، ومقصدًا للمهتمين بالكتاب من داخل المملكة وخارجها.
وأوضح الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل أن المعرض يعكس مسارًا متقدمًا للهيئة في تطوير صناعة النشر، ودعم المواهب الإبداعية، وتعزيز حضور الناشرين، والكتّاب السعوديين، مضيفًا أن هذه النسخة تتضمن مبادرات جديدة، توسّع حضور الأدب المحلي، وتقدم برامج نوعية ترتقي بتجربة الزوار.
وأشار الواصل إلى أن المعرض يضم لأول مرة برنامجًا خاصًا بالإنتاج المحلي للأفلام، يقدّم عروضًا يومية لأفلام سعودية حظيت بتقدير فني وجماهيري، وذلك على المسرح الرئيسي، بدعم من برنامج “ضوء لدعم الأفلام” وبشراكة نوعية مع هيئة الأفلام، في خطوة تعزز التكامل بين قطاعات الثقافة والفنون، وتُبرز الحضور المتنامي للقصة السعودية المرئية.
وعلى صعيد برنامجه الثقافي يقدّم المعرض أكثر من 170 فعالية ثقافية، تتنوع بين الندوات والجلسات الحوارية، والمحاضرات، والأمسيات الشعرية، إضافة إلى ورش عمل متعددة في مجالات مختلفة، بمشاركة نخبة من أبرز الأدباء والمفكرين.
كما تتضمن الفعاليات منطقة للطفل ببرامج تفاعلية، تجمع بين الثقافة والترفيه، وتستهدف صقل المهارات الإبداعية لدى الأطفال واليافعين.
ويواصل المعرض دعم المبدع المحلي عبر ركن المؤلف السعودي، الذي يحتضن عناوين للنشر الذاتي، ويتيح للأدباء عرض أعمالهم مباشرة أمام الجمهور، كما توفر منصات توقيع الكتب فرصة للقاء الكتّاب والحصول على إصدارات موقعة، في وقتٍ تعرض الهيئات الثقافية والمؤسسات المجتمعية والجامعات مبادراتها وإصداراتها الحديثة طوال أيام المعرض.
ويضم المعرض قسمًا خاصًا لعوالم المانجا والأنمي، إضافة إلى مجسمات ومقتنيات وكتب نوعية تحتفي سنويًا بهذا الفن ومحبيه، إضافة إلى قسم الكتب المخفضة الذي يوسّع خيارات القراءة وييسر إمكانية الوصول للكتاب لكل الفئات.
واستمرارًا في الاحتفاء بعام الحرف اليدوية 2025 خصص المعرض ركنًا للحرف اليدوية، يعرّف الزوار بالحرف التقليدية، ويمكّن الحرفيين من عرض منتجاتهم، دعمًا للتراث الوطني والصناعات الإبداعية.
وتشهد هذه الدورة إضافة نوعية تتمثل في عرض عدد من الأفلام السعودية، مثل: “سوار”، و”هوبال”، و”سليق”، وغيرها؛ احتفاءً بالمبدع السعودي، ودعمًا للسردية الثقافية بمختلف قوالبها المقروءة والمرئية والمسموعة.
كما يبرز عدد من المواضيع في ندوات البرنامج الثقافي المصاحب بمختلف التوجهات المعرفية، مثل: “الفلسفة للجميع: كيف نقرأ الفلسفة اليوم”، و”الرياضة كمنصة للتواصل الثقافي والإعلامي”، و”جسور التفاهم: كيف يصنع الفكر الإسلامي حوارًا حضاريًا عالميًا”، و”توظيف اللهجات المحلية في الكتابة المعاصرة”.
كما تُقام خمس ورش عمل في مهارات الصحافة، وإدارة الأزمات الرقمية، وكتابة قصص الأطفال، وبناء العلامة الشخصية، وأثر القراءة المبكرة في التطور اللغوي والعقلي.
هذا ويستقبل المعرض زواره يوميًا من الساعة 12 ظهرًا حتى 12 منتصف الليل، عدا يوم الجمعة؛ من الساعة الثانية ظهرًا، كمحفل سنوي في قاعة سوبر دوم، مُرسِّخًا مكانته كتظاهرة ثقافية متكاملة تعكس تطلعات هيئة الأدب والنشر والترجمة نحو صناعة نشر مزدهرة ومجتمع قارئ ومبدع.