لجريدة عمان:
2025-05-12@18:23:33 GMT

حفريات في الأدب والنفس

تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT

حين يتساءل امرؤ عن الخلود، فإنني أفهمه باعتباره المثول الدائم في الألسن والذاكرة والحياة؛ وكما خص الله أنبياءه باصطفائه لهم، فقد انبرى للتاريخ رجال لا قبيل لهم بالنبوة الإلهية ولا نسب، بل كان خلودهم خلود من اقتبس من الشعلة الإلهية قبسا ظل ينير الدجى رغم تعاقب الأحقاب وتصرّف الدهور. ومتى ذكرنا الخلود -في غير الأنبياء- نجد الشعراء ينبرون حاملين شعلة خلافة الأنبياء، كيف لا! وهم الذين إذا ما أراد امرؤ أن يستشهد بقول بعد قول الأنبياء والكتب السماوية، نجد أقوالهم وأشعارهم تتصدر الذاكرة والمشهد.

في الفرح والبهجة والسرور، وفي المصائب والفواجع والنوازل.

وإذا ما ذكر الشعر كموضوع يومي، وحاجة يومية نعيش بها، لن نستطيع أن نذكره دون ذكر المتنبي، سيِّد الشعر والشعراء. وأقول هذا لأنني لم أجد شاعرا يستشهد به الإنسان البسيط والمثقف على السواء في أفراحهم، وفي أتراحهم، وفي تفاؤلهم وتشاؤمهم، وفي سخريتهم حتى!؛ أكثر كما يفعلون مع أبيات المتنبي وقصائده. فقوله:

ما مقامي بأرضِ نخلةَ إلا

كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ

يثير الفكاهة والضحك، مع الاعتراف ببراعة التوصيف. ولكنني وفي مشروع بدافع البحث الذاتي والاستكشاف، مستعينا بالأدوات التقنية الحديثة؛ تساءلت عما قد أجده عند المتنبي حين يتعلق الأمر بالعلوم الحديثة كعلم النفس -وهو الذي كتبت حوله مقالة سابقة في جريدة عمان بعنوان بين المتنبي وكارل روجرز!، في العام المنصرم- وقد حاولت حصر الأبيات الشعرية التي تتعلق بعلم النفس بشقيه في الأفعال، الإرادي، واللاإرادي. بعبارة أخرى، تلك الأفعال الظاهرة البيّنة التي نفعله بقصد وعن وعي حر كامل، والأخرى التي نفعلها بغير قصد وإرادة منا، وإنما دوافعها داخلية قد نستطيع رصدها، وقد تتمنع عن الرصد. ومن فائق براعته، أنه جمع الأفعال الإرادية واللإرادية في بيت واحد حيث يقول:

إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ

تبين من بكى ممن تباكى

فقد جمع بين الفعل اللإرادي السمح وهو البكاء ابتداء ودون تكلّف، ثم يذكر الفعل الإرادي وهو التكلف بالبكاء. وفي ذات الموضوع يقول:

فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها

إِذا كُنَّ إِثرَ الظاعِنينَ جَوارِيا

فإن المرء يغالب نفسه ويحاول إلجامها عن أن تغدر به وتخون إرادته ومشيئته، ولكنه لا يمسكها وتنفلت منه انفلاتا غير مقصود. وقد قارنت بين نسختين لديوان المتنبي، إحداهما نسخة عبدالرحمن البرقوقي، والأخرى لرهين المحبسين، أبي العلاء المعري وهو شرحه الكبير «مُعجِز أحمد»؛ وقد وجدت له أكثر من ستة آلاف بيت نرصد فيها التشابهات والتقاطعات مع علم النفس الحديث، وربط تلك الأبيات بالمدارس النفسية الحديثة والمشهورة، بل إن عدة الأبيات التي وجدتها تقارب السبعة آلاف بيت في رصد أوليٍّ. فمن علم النفس التحفيزي، إلى علم النفس القيادي، إلى علم النفس الوجودي والسلوكي والاجتماعي، فضلا عن علم النفس الإيجابي الذي تحدثت عنه في مقالتي السابقة في المقارنة بينه وبين كارل روجرز.

إن هذا البحث البسيط، وبأدوات أولية؛ يجعلنا نقارب العلوم العربية وأعلامها ونعيد اكتشافهم واكتشاف آثارهم بعدسة جديدة وغير معتادة. وقد تحدثت غير ما مرة عن كتاب مسكويه «تهذيب الأخلاق» وتلك العبقرية النفسية التي فيه وتلك التوصيفات والعلاجات التي يذهل المرء من عبقرية راصدها في وقت مبكر جدا. ومما يذكرني بكتاب مسكويه -يسميه البعض ابن مسكويه- هو كتاب الشيخ الرئيس ابن سينا. فقد وجدت في كتاب ابن سينا «القانون» في الطب توصيفه لأمراض نفسية حديثة كالاكتئاب الذي يفرد له فصلا في موسوعته البديعة «فصل في المالنخوليا»، ونجد اتفاقه مع مسكويه في بعض الآراء والتوصيفات والعلاجات. وفي العموم، فإن زهد الناس في تراثهم العريق، زهد نابع من إحساس بالنقص ومن جهل متجذر، ولا نجد أمة ارتفعت وعلا شأنها وشأوها إلا برفعها لعلمائها وكبارها والاعتراف بفضلهم ومكانتهم والاهتمام بآثارهم ودراستها مرة تلو مرة؛ فقد تتغير الأسماء وتتبدل التوصيفات، لكن حقيقة الأشياء وجوهرها هي هي، وكأنما هي نظرية العود الأبدي تشير إلى جهلنا بسخرية العارف البصير، وحكمة القديم القدير.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: علم النفس

إقرأ أيضاً:

اكتشفها الآن.. خمس عادات لتدريب عقلك على السعادة

الجديد برس| كشفت دراسة جديدة قام بها مجموعة من علماء النفس، عن 5 عادات لتدريب العقل على السعادة وزيادة الرفاهية. وأشارت الدراسة الجديدة إلى أن الأفكار والسلوكيات، بل حتى البيئة المحيطة بالشخص، يمكن أن تعيد برمجة الدماغ نحو الاستمتاع بمزيد من السعادة والرفاهية. ووفقا للدراسة، التي نشرتها صحيفة “تايمز أوف إنديا”، فإنه وكما هو الحال في اللياقة البدنية، فإن اللياقة العاطفية تتطلب أيضًا التدريب. واستعرضت الدراسة الجديدة بعض النصائح العلمية لتدريب العقل على السعادة، وهي كالآتي: 1.ممارسة الامتنان يعد الامتنان من أقوى أدوات علم النفس الإيجابي. عندما يركز المرء على ما لديه ويقدّره، حتى أصغر الأشياء، يبدأ عقله بتحويل انتباهه من الندرة إلى الوفرة، وتؤدي تلك الخطوة إلى مزيد من الوفرة في الحياة. وتظهر الدراسات أن الأشخاص الذين يكتبون 3 أشياء يشعرون بالامتنان لها يوميًا ويصلون إلى مستويات أعلى من السعادة ومستويات أقل من الاكتئاب. 2.إعادة صياغة الأفكار السلبية إن الدماغ مصمم بطبيعته لاكتشاف التهديدات، وهي آلية للبقاء تعرف باسم “التحيز السلبي”. ولكن بجهد واعٍ، يمكن تجاوز هذا الوضع الافتراضي من خلال إعادة صياغة كيفية تفسير الشخص للأحداث. يشجع العلاج السلوكي المعرفي الأشخاص على تحدي الأفكار المشوّهة واستبدالها بأفكار متوازنة وواقعية. فعلى سبيل المثال، يمكن إعادة صياغة الإحساس بالفشل على أنه “عدم نجاح هذه المرة، لكنه فرصة لتعلم شيء قيّم”. إن هذا التحول العقلي يقلل من القلق ويعزز الثقة بالنفس، ما يساعد على التغلب على التحديات. 3.قضاء وقت في الطبيعة للطبيعة تأثير عميق على الصحة النفسية. اكتشف علماء النفس أن قضاء 20 دقيقة يوميًا في بيئة طبيعية يمكن أن يخفض مستويات الكورتيزول، المعروفة باسم هرمونات التوتر، ويحسن الحالة المزاجية مدى الانتباه. إن المشي في الحديقة أو الجلوس قرب الأشجار أو حتى الاستمتاع بمناظر الطبيعة، يهدئ العقل ويعيد التواصل مع اللحظة الحالية. 4.علاقات هادفة مع الآخرين إن البشر كائنات اجتماعية، وإقامة علاقات هادفة من أهم أسباب السعادة طويلة الأمد. تظهر دراسات علم النفس أن الأشخاص ذوي الروابط الاجتماعية القوية أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب وأكثر ميلًا للشعور بالرضا. لذا، فإن تخصيص وقت للأحباء، وقضاء وقت ممتع معهم، وإجراء محادثات عميقة، وإظهار اللطف، كل هذا يطلق موادًا كيمياوية تشعر الشخص بالسعادة مثل الأوكسيتوسين والسيروتونين في الدماغ. 5.تدريب العقل على اليقظة إن اليقظة هي ممارسة التركيز على اللحظة الحالية من دون إصدار أحكام. وقد ثبت أن اليقظة المنتظمة، من خلال التأمل والتنفس العميق أو حتى مجرد الوعي أثناء الأنشطة اليومية، تقلص مركز التوتر في الدماغ وتعزز المناطق المرتبطة بالسعادة والوعي بالذات. ومع مرور الوقت، تساعد اليقظة على أن يصبح الشخص أكثر ثباتًا وأقل انفعالًا وأكثر تقديرًا لملذات الحياة البسيطة. وشددت الدراسة على أن اتباع هذه العادات بشكل منتظم من شأنها أن تزيد هرمون السعادة لدى الإنسان، وتدرب العقل على السعادة وزيادة الرفاهية.

مقالات مشابهة

  • من الأطراف إلى المتن.. حفريات في الذاكرة التونسية العثمانية بين السيرة والمكان
  • ثيلا في مرآة نوبل.. ماذا قالت الأكاديمية السويدية عن أعماله؟
  • بمناسبة الذكرى الـ 80 لميلاده| جمال الغيطاني في عيون المثقفين: مشروع وطني وإرث لا يُنسى.. وثائق نادرة ومقالات تنشر لأول مرة
  • انقطاع النفس أثناء النوم يهدد بالزهايمر
  • الأدب وطاقة الجذب ... هل يستدعي الكتّاب أقدارَهم؟
  • العنصرية في الشعر العربي: المتنبي وكافور الإخشيدي
  • اكتشفها الآن.. خمس عادات لتدريب عقلك على السعادة
  • الصين تحث الهند وباكستان على ضبط النفس وحل الأزمة بطرق سلمية
  • أخبار الفن : ناهد السباعي تكشف كواليس أشغال شقة .. وأحمد عزمي: ردود الأفعال حول ظلم المصطبة أكبر مما كنت أحلم
  • أحمد عزمي: ردود الأفعال حول ظلم المصطبة أكبر مما كنت أحلم ..والمسلسل يمس المجتمع المصري بشكل مباشرl حوار