كوارث بيئية لا تنسى.. العامل البرتقالي الأميركي بفيتنام
تاريخ النشر: 17th, March 2025 GMT
خلال حرب فيتنام (1955- 1975) استخدم الجيش الأميركي مبيدات الأعشاب السامة على نطاق واسع. ومن بين نحو 50 مليون لتر من المبيدات التي تم رشها بين عامي 1961 و1971، كان ما يعرف بالعامل البرتقالي (Agent Orange) الأثر الأكبر والأخطر، حيث تسبب بدمار واسع النطاق للغابات والنظم البيئية بفيتنام وجوارها.
وأدى استخدام العامل البرتقالي إلى مقتل آلاف الأشخاص أو إصابتهم بأمراض مزمنة، بالإضافة إلى تلوث التربة والمياه.
بدأت المشاركة النشطة للقوات الأميركية في فيتنام عمليا في عام 1965. وبحلول عام 1969، كان أكثر من 500 ألف جندي أميركي يقاتلون في المعارك التي تحولت إلى الصراع الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية.
ففي خضم الحرب وبعد اشتداد هجمات المقاومة الفيتنامية الشيوعية المعروفة باسم "فييت كونغ" وتسببها في خسائر كبيرة جدا للقوات الأميركية، لم يجد قادة الجيش الأميركي حلا للتعامل معها سوى استخدام سلاح العامل البرتقالي.
كان الغرض من ذلك تحقيق هدفين أساسيين، الأول حرمان "فييت كونغ" والقرى الداعمة لهم من مورد غذائي واقتصادي هام كان يعينهم على مواصلة القتال وشراء الأسلحة اللازمة، والثاني هو كشف انتشار تلك القوات عبر إزالة الغطاء النباتي عنها وسلبها ميزة إستراتيجية هامة، حيث كانت تستغل الأحراج والغابات الكثيفة للاختباء وشن الهجمات المفاجئة.
البراميل السامة الملونة
وتبعا لذلك قامت القوات الأميركية طوال فترة الحرب بإلقاء أكثر من 50 مليون لتر من أخطر المبيدات النباتية سُمّية وفتكا وبدأت العملية منذ عام 1961 بموافقة الرئيس جون كينيدي، وتواصلت بعد ذلك لتبلغ ذروتها عام 1965 قبل أن تقل وتتوقف مع نهاية الحرب عام 1971.
ورغم تأثيراتها القاسية بقيت ماهية هذه المبيدات الغامضة سرية ومحاطة بالتعتيم والتكتم فترة طويلة، إلا أن الأمر تكشف بعد أن بين أن الجيش الأميركي تعاقد مع كبرى شركات صناعة الكيميائيات في أميركا لتصنيع كميات هائلة من 15 نوعا من المبيدات النباتية (antiplant agents) التي تبين احتواء معظمها على الديوكسين (TCDD)، وهو من أخطر المواد الكيميائية للإنسان والبيئة.
وتشير التقارير إلى أنه تم شحن هذه المبيدات السامة بشكل سري في براميل خاصة، وللتفرقة بين أنواع المبيدات المختلفة، لونت البراميل بألوان محددة بديلا عن الاسم الكيميائي. ومن هنا عرفت هذه المبيدات بأسماء مثل العامل البرتقالي والأبيض والأخضر والأرجواني والأزرق وغيرها.
كان العامل البرتقالي الذي يحتوي على "الديوكسين" أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا، والأكثر استخداما من قبل القوات الأميركية في فيتنام ولاوس وكمبوديا. وقد تركز استخدامه في تدمير الأشجار الاستوائية والغابات والحشائش وأشجار الخيزران المنتشرة في جنوب فيتنام وعلى الحدود الكمبودية المجاورة.
وحسب التقارير، جاء "العامل الأزرق"(Agent Blue) في المرتبة الثانية، وهو مبيد أعشاب يعد شديد الفاعلية في سحب الرطوبة من أوراق النباتات مما يؤدي الى تجفيفها والقضاء عليها في الحال. لذا استخدم في تدمير محاصيل الرز، غذاء الفيتناميين الأساسي، بغرض تجويع القرى والمدن الموالية للمقاومة، فيما عرف آنذاك بعمليات "إبادة الرز".
مضاعفات خطيرة
وتؤكد التقارير أن استخدام العامل البرتقالي والمبيدات الأخرى أدى الى نتائج وتداعيات مأساوية ممتدة حتى اليوم. هذه التداعيات لم تصب فقط الغابات والمحاصيل، بل أصابت أيضا كل من كان فيها أو قربها بقائمة طويلة من التشوهات والأمراض المزمنة والسرطانية.
فعلى المستوى البيئي تم تدمير نحو 1.5 مليون هكتار من الغابات، منها نحو 125 ألف هكتار من أشجار المنغاروف النادرة أبيدت بشكل كامل. كما أبيدت مساحة أخرى من المحاصيل الزراعية تقدر بنحو 300 ألف هكتار، في ما كان يشكل معا خمس مساحة المناطق الخضراء في فيتنام على أقل تقدير، وهي مساحة كانت تكفي لإطعام نحو 245 ألف فيتنامي.
كانت عملية التدمير شاملة وذات تأثيرات مستمرة، فرغم مرور أكثر من 6 عقود على تلك الهجمات، بقيت معظم المناطق التي تعرضت للمبيدات بشكل مركز على حالها وباتت تربتها غير قادرة على الإنبات.
وتؤكد مقالة نشرتها جامعة إلينوي وجامعة ولاية أيوا عام 2019 أن مستويات الديوكسين (TCDD) ما تزال عند مستويات خطيرة، مشيرة إلى أن ملايين الفيتناميين يعيشون في المدن والقرى المجاورة. لقد تم تدمير بيئة الغابات والمزارع بسبب العامل البرتقالي والتربة والمجاري المائية الملوثة بالديوكسينات الثابتة بيئيًا، كما يستمر في تلويث المياه والرواسب والأسماك والأنواع المائية وإمدادات الغذاء والصحة الفيتنامية.
وعلى مستوى الخسائر البشرية، تشير بعض التقديرات الى أن أكثر من 3 ملايين فيتنامي تعرضوا للعامل البرتقالي، وأصيب أكثر من مليون بأمراض تنفسية وجلدية وتشوهات خلقية جراء التعرض لهذه المواد السامة.
ويقدّر الصليب الأحمر الفيتنامي أن ما يقرب من مليون شخص عانوا من مضاعفات صحية خطيرة وإعاقات نتيجة التعرض للإشعاع. كما وُلد مئات الآلاف من الأطفال بعيوب خلقية خطيرة. وكان الدمار البيئي لا يُحصى ولا يُعوّض.
من جهتها، ذكرت إدارة المحاربين القدامى الأميركية أن حوالي 2.8 مليون من قدامى المحاربين الأميركيين تعرضوا أيضا للعامل البرتقالي، لكنهم حصلوا على تعويضات حكومية، بالإضافة إلى تسويات بملايين الدولارات من الدعاوى القضائية المرفوعة ضد مصنعي هذه المادة الكيميائية، بينما لم يُحاسب أحد رسميًا على معاناة الضحايا الفيتناميين.
إعلاناستعملت القوات الأميركية أيضا نحو 352 ألف طن من النابلم على فيتنام وملايين الذخائر والقنابل التي لم ينفجر بعضها. وبعد عقود من الحرب، لا يزال الناس في جنوب شرق آسيا يُقتلون بانفجار القنابل والألغام التي تُركت في المنطقة خلال فترة الحرب.
وفي عام 2018، أفادت صحيفة نيويورك تايمز بوجود أكثر من 300 ألف طن من الذخائر غير المنفجرة في فيتنام، بينما تقول وسائل الإعلام الفيتنامية إن 725 ألف طن من الذخائر غير المنفجرة متناثرة في جميع أنحاء البلاد.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 20% من أراضي كمبوديا ولاوس وفيتنام ملوثة بالذخائر غير المنفجرة. ولا تزال مساحات شاسعة من هذه الدول الثلاث غير صالحة للزراعة أو الصناعة أو السكن، مما يعيق التنمية الاقتصادية لهذه الدول.
ويعتقد أن لاوس هي الدولة الأكثر تعرضا للقصف في العالم من حيث نصيب الفرد نتيجة حرب فيتنام. ووفقا لمرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية، ومقره جنيف، فقد تجاوز عدد ضحايا الذخائر غير المنفجرة في لاوس 50 ألفا منذ عام 1964، بما في ذلك أكثر من 29 ألف حالة وفاة، وكان نحو 40% من الضحايا أطفالا.
يشير المؤرخ الأميركي نيك تورس في كتابه "اقتل أي شيء يتحرك: الحرب الأميركية الحقيقية في فيتنام" الصادر عام 2013 إلى أن السمة المميزة التي تجعل ذكريات حرب فيتنام صعبة للغاية (بالنسبة للأميركيين وكذلك الفيتناميون) كانت العنف المستمر ضد المدنيين، لكن هذا العنف مازال متواصلا في فيتنام بآثار تلك الحرب على البشر وخصوصا على البيئة من حوله.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان بيئي الذخائر غیر المنفجرة الجیش الأمیرکی حرب فیتنام فی فیتنام أکثر من إلى أن
إقرأ أيضاً:
كارثة صامتة.. ازدياد تلوث الأنهار في بريطانيا وسط تحذيرات بيئية
كشفت تحقيقات استقصائية أن كميات المياه المسحوبة من أنهار وبحيرات إنجلترا لأغراض صناعية واستهلاكية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، بارتفاع بلغ 76% خلال العقدين الماضيين، في مؤشر خطير على تفاقم أزمة الموارد المائية في البلاد وتهديد متصاعد للتوازن البيئي. اعلان
ووفق تحليل مشترك أجرته "واترشِد إنفستيغيشنز" وصحيفة الغارديان، فقد تم سحب 11.6 مليون متر مكعب من المياه خلال السنوات الخمس الأخيرة حتى عام 2023، مقارنة بـ6.6 ملايين متر مكعب فقط مطلع الألفية. وارتفع معدل سحب المياه من الأنهار ليشكل اليوم 61% من إجمالي المياه المسحوبة من الطبيعة، مقارنة بأقل من 40% قبل عشرين عامًا، في حين زاد الاعتماد على المياه الجوفية بنسبة 53% منذ عام 2018.
"أنهارنا في خطر"يحذر خبراء البيئة من أن هذا التوسع المفرط في سحب المياه يأتي في وقت تعاني فيه البلاد من فترات جفاف متكررة، وتهالك في البنية التحتية المائية، وتسربات هائلة من الشبكات.
يقول نيك ميشام، الرئيس التنفيذي لمنظمة WildFish البيئية: "نُحمّل الأنهار فوق طاقتها وهي تجف. وعندما يعود المطر، نعيد للمجرى مياهًا ملوثة. موائل الحياة البرية في خطر حقيقي".
ورغم تصنيف بعض الاستخدامات بأنها "غير استهلاكية" – مثل المياه المستخدمة في توليد الكهرباء أو الملاحة – يؤكد النشطاء أنها ليست آمنة بيئيًا، إذ تُفقد كميات كبيرة أثناء العملية، وتعود المياه غالبًا ملوثة حراريًا أو كيميائيًا.
Relatedاللجنة الأولمبية تقلل من مسألة تلوث المياه في ريو دي جانيروتفاقم الكوليرا في اليمن نتيجة تلوث المياهالاتحاد الأوروبي يطلق استراتيجية شاملة لمكافحة تلوث المياهالترخيص يتوسع.. بينما المخزون يتقلصأظهرت البيانات أن الحد الأقصى المسموح لسحبه من الأنهار والبحيرات ارتفع بنسبة 6% خلال السنوات العشر الماضية، ليصل إلى 27 مليار متر مكعب، فيما تقلصت حدود سحب المياه الجوفية والمدية بنسب 4% و42% على التوالي منذ عام 2013.
وتُحذّر وكالة البيئة من أن الطلب العام على المياه قد يزداد بمقدار 6 مليارات لتر يوميًا بحلول عام 2055، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة. وتشير التقديرات إلى أن شركات المياه لا تزال تفقد نحو 19% من إمداداتها اليومية – أي ما يقارب 3 مليارات لتر – بسبب التسربات، ما يفاقم العجز الهيكلي.
تأخر استراتيجي واستنزاف للأنهاريقول مصدر في قطاع المياه، طالبًا عدم الكشف عن هويته: "كان يجب علينا بناء خزانات جديدة منذ عشر سنوات. الحكومات المتعاقبة افتقرت إلى الرغبة السياسية".
بسبب نقص مرافق التخزين، تلجأ شركات المياه إلى سحب كميات إضافية من الأنهار خلال الجفاف – وهو التوقيت الأكثر حساسية بيئيًا.
ويتابع ميشام: "ما نراه هو فشل ذريع في التخطيط المسبق. كثير من الأنهار التي كانت تزخر بالحياة أصبحت بركًا آسنة لا حياة فيها".
نهر "إيتشين": تحذير مبكر من الانهيارمن بين الأمثلة الصادمة، ما يحدث في نهر إيتشين، حيث انخفض عدد أسماك السلمون العائدة للتكاثر إلى أدنى مستوياته منذ بدء التسجيل، إذ لم تُسجل سوى 133 سمكة في عام 2022 و187 فقط في 2024.
وتحذر جانينا غراي من WildFish قائلة: "الثمن تدفعه الأنهار. والأسماك هي الضحية الأولى".
يشير التحقيق إلى تفاوت كبير في كميات السحب بين الأقاليم، حيث ارتفعت في منطقة ميدلاندز بنسبة 132% خلال عقد واحد، لتصل إلى 3.6 مليارات متر مكعب، بينما تراجعت في الجنوب بنسبة 26%. وفي ويلز، استحوذت مقاطعة باويس وحدها على 42% من إجمالي التصاريح، مدفوعة بمشاريع المياه والطاقة.
الحكومة تتحرك متأخرةنشرت الحكومة البريطانية هذا الأسبوع إطارها الوطني الجديد للمياه، في محاولة لتدارك الأزمة.
وقالت وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية (Defra): "النمو السكاني المتسارع، وتدهور البنية التحتية، وتغير المناخ، كلها تتطلب إصلاحًا جذريًا. لقد ضمنا استثمارًا خاصًا بقيمة 104 مليارات جنيه إسترليني لتشييد تسعة خزانات جديدة وشبكات توزيع حديثة، ونعمل على تحديث نظام التراخيص لحماية البيئة".
وفي المقابل، أكد متحدث باسم وكالة البيئة أن البلاد بحاجة إلى "تكنولوجيا جديدة، ومراقبة ذكية للسحب"، مضيفًا أن "صلاحياتنا الجديدة بموجب قانون التدابير الخاصة بالمياه ستُسهم في تطبيق أفضل وأكثر صرامة للتراخيص ومحاسبة المقصرين".
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة