بقلم: الريح عبد القادر
(1 من 2)
من أخطر ما يعيشه "المستنيرون" السودانيون في فترة هذه الحرب وهمُ اقتلاع الكيزان. ومن المخيف أن الغالبية العظمى منهم يتوهمون أن اقتلاع الكيزان سيكون تحصيلَ حاصل، وضربةَ لازب؛ فتراهم جالسين لا يفعلون شيئاً، في انتظار أن تهوي شجرة الكيزان إلى الأرض من تلقاء نفسها. وسببُ هذا الوهم ما اشتهر بينهم من نبوءة محمود محمد طه عن اقتلاع الكيزان.
لقد نسيَ هؤلاء، من فرط استهانتهم بعدوهم، حقيقة أنّ الكوزنة فكرة، وإنْ كانت خاطئة. والأفكار تُحاربُ بالأفكار؛ والفكرة الخطأ لا تموت إلا بالتوعية والتنوير. فمن بين جميع الذين يكتبون عن خطل التجربة الكيزانية وفشلها، قلما تجد من يتصدى لتفنيد "المبادئ المؤسِّسة للفكر الكيزاني". وبدون بيان خطل هذه المبادئ، ونسف حججها ودعاواها، سيظل الكيزان عقبة كأداء تعترض طريق بناء دولة الحرية والسلام والعدالة في السودان. بيد أنّ الخبر الجيد أنّ المبادئ التي يقوم عليها الفكر الكيزاني أوهى من بيت العنكبوت. لكن معظم الذين يهاجمون الكيزان إنما يهاجمون ممارستهم، ويتركون منبع فكرهم، ولا يعدم الكيزان أن يجدوا المبررات للدفاع عن فشل تجربتهم، والاستماتة في إحيائها ومواصلتها.
وأعتقد أن ما يعرف بنبوءة محمود محمد طه قد لعبت دوراً سلبياً في تخدير "المستنيرين" وإيهامهم بأن اقتلاع الكيزان قادم مثل فلق الفجر. ولو عُنِي هؤلاء بتحليل نبوءة محمود لتبيّنوا عوارها بأدنى جهد. يقول محمود محمد طه "إن من الأفضل للشعب السوداني أن يمر بتجربة حكم جماعة الهوس الديني". ونعلم الآن جيداً أن تجربة حكم جماعة الهوس الديني هي أسوأ ما مرّ به السودان. ويضيف محمود "وسوف تكون تجربة مفيدة للغاية"، ونعلم الآن أن هذه التجربة قد أذاقت الشعب الأمرين، وأدخلت البلاد في فتنة أحالات نهارها إلى ليل، فما هي التجربة "المفيدة للغاية" التي جناها الشعب السوداني من التشريد والاغتصاب والموت والدمار؟
إن دور قادة الفكر والرأي والسياسة والكياسة ليس في أن يتركوا شعوبهم تقع في دوامة الحروب والفتن، وترك النساء والفتيات يتعرضن للاغتصاب والتشريد، وترك الشباب يموتون موت الضأن في معارك عبثية، وترك الممتلكات عرضة للنهب والتدمير، بحجة أن يتعلم الشعب من هذه التجربة المدمرة. بل إنّ دور القادة الحقيقيين هو تجنيب شعوبهم كل هذه المآسي بسداد الرأي، والحكمة، وحسن التدبير. ويمضي محمود في "نبوءته" قائلاً إن حرب الكيزان "سوف تنتهي فيما بينهم". نعم، سوف تنتهي فيما بينهم، لكن إذا انهزم الشعبي، فسينتصر الوطني، أو إذا انهزم أحمد فسيظفر حاج أحمد. لكنهم لن يُقتلعوا من أرض السودان اقتلاعاً إلا بجهد ثوري مصحوب بجهد فكري لا يقلّ ضراوةً ومثابرة.
وفي هذا الصدد، لا يذكر الكثيرون أن المرحوم محمد أحمد محجوب سبقَ محمود محمد طه بعشر سنوات في توقع ما يحدث للسودان بسبب الكيزان. قال المحجوب مخاطباً الترابي عام 1967م: "إنني لا أخاف على السودان من تبسمك ولا من أحلامك، تبسم كما يحلو لك، واحلم كما تشاء من أحلام؛ ولكنني أخاف على السودان أن تعتلي السلطة فيه يوماً ما أو أحد اتباعك، وبذلك سوف يفقد السودانُ كلمته، والمواطنُ أسباب عيشه، ولا يجد لقمة العيش الكريمة، وسوف يكون مبغضاً من أقرب الأقربين إليه".
لم يرسم المحجوب خارطة طريق للنجاة من حكم الكيزان. لكنه على الأقل كان أكثر شفقةً وخوفاً على الشعب السوداني، وحذرنا من أننا لن نجد لقمة العيش الكريم في سوداننا، بسبب حكم الكيزان وحربهم، فنضطر إلى اللجوء إلى أقرب جيراننا فيوصدون دوننا الأبواب.
إنّ توقع نهاية الظالمين ليس دليل عبقرية، فهو مما هو مشاهد في التاريخ، ومما هو معلوم في سنن الله في خلقه. ولكن نهاية الظالم لا تعني نهاية الظلم. فقد يخلف الظالم من هو أشد ظلماً منه. ولذلك لا بد من خلق البيئة التي لا يمكن أن يترعرع فيها الظلم أو ينمو. وفي حالة الكيزان، علينا أن نعترف أن فكرهم يعشعش في رؤوس عضويتهم. وقطع الرأس وترك الجذور ليس من الحكمة في شيء. بل علينا أن نعترف أيضاً أن 30 سنة من حكم الكيزان قد جعلت الكثير من الناس كيزاناً بفهمهم وسلوكهم وإن لم ينتموا تنظيمياً للكيزان.
في الحلقة الثانية من هذا المقال سنتناول كيفية التصدي لفكر الكيزان من جذوره. وسنعتمد مقاربةً تقوم على تفكيك هذا الفكر، وإزالة الرغام والركام الكثيف الذي يغلفه، لكي ننفذ إلى جوهره. إنّ جوهر الفكر الكيزاني هو طلب السلطة، والتناجي للوصول إليها من دون بقية المواطنين، والعمل على المحافظة عليها بكل الوسائل. وطلب السلطة في الإسلام منكر عظيم. لا يشفع فيه وضع الغايات النبيلة، مثل إقامة الدين وتطبيق الشريعة وخلاف ذلك. وهو ما سنستعرضه في الجزء القادم بحول الله تعالى.
alrayyah@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: محمود محمد طه
إقرأ أيضاً:
تفكيك الوهم
يرتفع صوت تيار يروّج لفكرة أن إنهاء إيران على يد الكيان الإسرائيلي يمثل “فرصة تاريخية”. هذا الطرح يكشف قراءة ساذجة وخطيرة للواقع الجيوسياسي، ويؤسس لتسليم كامل بموازين الهيمنة الصهيونية، في لحظة تفتقر فيها الأمة إلى مشروع تحرري فعّال.
إن زوال إيران أو تدمير قوتها الإقليمية لا يُنتج استقرارا، وإنما يمنح (إسرائيل) موقع السيادة المنفردة على الإقليم، فالتوازن القائم بين قوتين متخاصمتين مهما اختلفت دوافعهما يشكّل حاجزا أمام تفرد أحدهما بالقرار الإقليمي، وتكافؤ الخصوم يوسّع هامش المناورة للقوى الضعيفة، بينما يؤدي اختلال المعادلة إلى شلل القدرة على الصمود والمقاومة.
لا ينتظر الكيان الإسرائيلي إذنا ليتوسع لكنه يتحرك حين يتوفر له الفراغ، وتراجع إيران أو اختفاؤها يخلق بالتأكيد هذا الفراغ؛ إذ ستتقدم تل أبيب لفرض هندسة أمنية شاملة على منطقتنا في ظل أنظمة عربية كثيرة أظهرت استعدادها الكامل للانبطاح أمام الإرادة الصهيونية. ومع غياب القوة التي تثير قلقها، ستتوسع دون عوائق وتفرض نفوذها بلا مقاومة.
المشروع الإسرائيلي يمتد في خطة مدروسة للهيمنة والتفكيك. وهذه الخطة بدأت قبل الثورة الإيرانية، وتواصلت مع تعاظم نفوذ طهران، وتتسارع عند كل فراغ؛ إذ نجد الكيان الإسرائيلي يضرب غزة ويخترق بيروت ويوجه رسائل نارية إلى دمشق وبغداد وينسق مع أنظمة عربية سرا وعلانية رغم بقاء الخصم الإيراني.. فكيف سيكون المشهد إذا اختفى هذا الخصم من الميدان؟
إن المراهنة على اكتفاء (إسرائيل) بزوال إيران وهم سياسي.. هذا الكيان يتغذى على الضعف، ويتقدم كلما غاب التهديد.. وزوال إيران لا يحرر العواصم العربية لكنه يسلّمها للاختراق الصهيوني الشامل والهيمنة المتفردة.. وعندما تفقد أقطارنا قوة الردع الخاصة بها تتحول أنظمتها إلى وكلاء طيعين ضمن منظومة الهيمنة والتبعية.
إيران، رغم مشروعها الطائفي القبيح وتمددها الخبيث لا تمثل العقبة الوحيدة أمام النهضة.. العقبة الكبرى تكمن في غياب المشروع العربي المستقل، وفي افتقاد الإرادة السياسية الرافضة للارتهان بين مطرقة التمدد الإيراني وسندان التبعية الغربية.. والأمة لا تحتاج إلى (عدو واحد)، ولكن إلى معادلة توازن تسمح بنشوء قوة ثالثة تعيد تعريف الاستقلال القومي وتحرر القرار السياسي.
إن الاحتماء بعدو لتصفية عدو آخر لا يصنع سيادة لكنه يرسّخ الاستلاب والتبعية. والخروج من هذا الحصار لا يمر عبر نيران العدو الإسرائيلي، وإنما عبر بناء القوة الذاتية، وتحشيد الإرادة الشعبية، واستعادة القرار السيادي من قبضة الارتهان المزدوج.
ستفقد الأمة ما تبقى من قدرتها على المقاومة والمواجهة حين يتفرد الكيان الإسرائيلي بالسيادة على الإقليم، وتتحول الأنظمة العربية إلى أدوات تنفيذ لا تملك من أمرها شيئا.. تنفذ ما يملى عليها من مراكز القرار الأجنبية، وتضطلع بدور الوكيل المحلي في مشروع الهيمنة، وتسخر مواردها لحماية المصالح الخارجية بدلا من حماية شعوبها، إسهاما في ترسيخ الضعف، وقمعا لأي نزوع نحو التحرر أو المقاومة حتى تصبح الدولة الوطنية مجرد واجهة شكلية لسلطة بلا إرادة أو قرار أو سيادة.
الصراع الحقيقي لا يقتصر على إيران أو إسرائيل، إنما يدور مع بنية الهيمنة التي تحاصر أمتنا وشعوبنا منذ لحظة الاستقلال وقيام الدولة العربية الحديثة.
— ومن يراهن على الكيان الإسرائيلي لتحقيق الخلاص، فإنه بذلك يسلّم المفاتيح، ويوقّع على بياض، ويخسر نفسه قبل أن يخسر عدوه!
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةأنا طالبة علم حصلت معي ظروف صعبة جداً و عجزت اكمل دراستي و أ...
نحن اقوياء لاننا مع الحق وانتم مع الباطل...
محمد عبدالخالق سعيد محمد الوريد مدير بنك ترنس اتلنتيك فليوري...
قيق يا مسؤولي تعز تمخض الجمل فولد فأرة تبا لكم...
المتحاربة عفوًا...