قراءة مختلفة لرمزيات قافلة الصمود ورهاناتها
تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT
مهما كان موقفنا من النظام التونسي في مستوى خياراته الداخلية، ومهما كانت طبيعة علاقته بمحور التطبيع والثورات المضادة قبل إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 وبعدها، فإنه يظل من الأنظمة العربية القليلة التي سمحت وما زالت تسمح بارتفاع سقف الإسناد النخبوي والشعبي للمقاومة. ففي ظل سردية رسمية منحازة للمقاومة الفلسطينية ولمحور الممانعة -على الأقل في المستوى الخطابي- تتموضع تونس في خانة الدول التي يكاد يتماهى الموقف الرسمي فيها مع مواقف القوى السياسية والمدنية والنقابية الأهم، بما فيها القوى المعارضة، وهو ما يجعلها تختلف عن تلك الدول العربية التي تسمح بهامش إسناد للمقاومة دون التخلي عن خيار التطبيع العلني (مثل المغرب أو الأردن)، وتختلف كذلك عن تلك الدول التي اختارت قمع أي مظهر من مظاهر الإسناد للمقاومة أو لإيران في صراعهما ضد الكيان الصهيوني (مثل الدول المشكّلة لمحور التطبيع).
رغم أن "قافلة الصمود" هي مبادرة مدنية وليست مبادرة رسمية، فإنها لا يمكن أن تنفصل عن رهانات السلطة القائمة وعن بحثها لتأكيد/تجديد شرعيتها فيما يتصل بالقضية الفلسطينية التي لخّصها "المرشح" الرئاسي قيس سعيد في شعاره الشهير خلال المناظرة التلفزية مع منافسه نبيل القروي سنة 2019: "التطبيع خيانة عظمى". وقد كان لهذا الشعار -بالإضافة إلى التسريب الذي أثبت علاقة القروي بداعم صهيوني- أثر كبير في توجيه الرأي العام إلى اختيار "الخبير الدستوري" قيس سعيد. ولكنّ منطق "التأسيس الثوري الجديد" الذي حملته سردية "تصحيح المسار" سرعان ما تراجع أمام "منطق الدولة" من خلال تقوية العلاقات الاستراتيجية مع محور التطبيع، وهو ما تجلى خاصة في عدم تمرير قانون تجريم التطبيع لِما يمثّله من تهديد -حسب ما نقل رئيس البرلمان عن رئيس الجمهورية- لمصالح تونس الخارجية.
إنّ السؤال الذي يطرحه خيار النظام التونسي بعدم تجريم التطبيع ثم السماح لقافلة الصمود بالعمل دون تضييقات هو التالي: إذا كان تجريم التطبيع يمثل تهديدا لمصالح تونس الخارجية، فكيف يمكن فهم الموقف المتسامح من الدولة تجاه "قافلة الصمود" رغم أنها تُمثل إحراجا للكيان ولمحور التطبيع؛ يتجاوز في رمزيته الإحراج الذي قد يسببه قانون لا يتجاوز تأثيره المستوى المحلي؟ إن فهم الموقف الرسمي التونسي يحتاج إلى استدعاء التحولات التي حصلت في العلاقة بين قاطرة محور التطبيع (الإمارات) وبين الجزائر. ففي ظل الصراع المفتوح بين الدولتين (داخل محور الثورات المضادة)، يبدو أن تونس قد اختارت الانحياز للموقف الجزائري الرافض "رسميا" للتطبيع دون تنفيذ مخرجات قمة بيروت 2002 (أي خيار حل الدولتين، أو الأرض مقابل السلام والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود). ونحن نذهب إلى أن قافلة الصمود لم تكن لترى النور دون دعم النظام الجزائري ودون سماحه بمشاركة ناشطين جزائريين فيها، بل لا يمكن أن ترى النور دون تنسيق قوى بين النظامين التونسي والجزائري.
لا يمكن فهم الرهانات الكبرى لقافلة الصمود دون أن نذكّر بأن أي مبادرة "مدنية" في الدول العربية لا يمكن أن تنجح إذا ما تعارضت مع "المصالح العليا" للأنظمة أو مثلت تهديدا لها. لقد سمحت الجزائر -ومعها تونس- بتنظيم القافلة "المغاربية" لتقوية شرعيتهما السياسية القائمة -في جزء منها- على دعم القضية الفلسطينية. وهما بهذا تعبّران عن وجود "انشقاق" أو على الأقل تعارض مصالح بين الدول المشكّلة لـ"محور الثورات المضادة". فالعلاقة بين النظام الجزائري بقيادة الرئيس تبّون وبين الإمارات (ومن قبل ذلك العلاقة المأزومة مع المشير حفتر المهيمن على الغرب الليبي) قد بلغت مرحلة المواجهة الإعلامية العلنية. ولا شك في أن "قافلة الصمود" ليست فقط فرصة لتقوية سردية "الانتصار للمقاومة الفلسطينية" ومعاداة الصهيونية، بل هي أيضا فرصة لإضعاف موقف الإمارات ومحميّاتها في مصر وغرب ليبيا. ولكن هل يعني ذلك أن "قافلة الصمود" هي صنيعة النظامين الجزائري والتونسي؟
دون لبس، فإن الإجابة عن السؤال الوارد أعلاه هي النفي. فالقافلة هي نتيجة حراك مدني عفوي لا يمكن ربطه بأي طرف سياسي أو أيديولوجي، وهو حراك لم يكن كما تقول بعض الأصوات المتصهينة "مؤامرة إخوانية"، ولكنه لم يكن أيضا "مؤامرة سلطوية". ولكنّ استقلالية "القافلة" ليست استقلالية مطلقة، فالنظام التونسي كان يستطيع منعها، وكذلك شأن النظام الجزائري فيما يتعلق بالمشاركين فيها من مواطنيه. إن تجاوز الحدود بصورة قانونية في ظل ميراث سايكس-بيكو هو شأن "أمني" فيما يتعلق بالأفراد، فما بالك إذا تعلق الأمر بقافلةٍ تتحرك لدعم غزة في ظل نظام إمبريالي متصهين. وهو ما يعني أن النظامين التونسي والجزائري قد وجدا مصلحتهما في دعم القافلة دون التماهي معها، أي دون أي مشاركة رسمية فيها. فالقافلة، مهما كان مصيرها، ومهما كان شكل التعامل معها في غرب ليبيا ومصر، هي أداة لـ"تصدير" إحراج التطبيع إلى الشرق وتقوية شرعية النّظامين التونسي والجزائري أمام الرأي العام في البلدين، فضلا عن إضعاف الجزء المستهدف من "محور التطبيع" وحمله على تغيير سياساته العدائية تجاه النظام الجزائري وبصورة أقل النظام التونسي.
في تونس وغيرها، اشتغلت العديد من الخطابات -المكتوبة والشفوية- برمزية القافلة إقليميا ودوليا (كسر حدود سايسكس-بيكو، تأكيد الإجماع المغاربي على نصرة المقاومة، بيان الحدود الغربية لـ"إسرائيل".. الخ) ولكن الاشتغال على رمزية القافلة في المستوى المحلي يكاد يكون منعدما. فإذا ما تركنا خطابات التخوين ووعي المؤامرة جانبا، فإن القافلة الشعبية قد نجحت فيما فشلت فيه المعارضة الراديكالية والمساندة النقدية على السواء. لقد نجحت القافلة في "تحييد" الصراعات السياسية والانقسامات الأيديولوجية التي تحكم سرديات النخب قبل "تصحيح المسار" وبعده، ولم تتحرك إلا بهوية نضالية جامعة لا مكان فيها للإقصاء على أساس الهوية الأيديولوجية: نصرة المقاومة برفع الحصار عن غزة.
لكنّ تشويش بعض العقول الموتورة على القافلة -من موقع التقاطع الموضوعي مع السردية الصهيونية- جعل السجال العمومي ينتقل من مستوى "تثمين" هذا الاختراق للأيديولوجيات المغلقة /السرديات الكبرى؛ إلى موقع دفاعي أساسه إنكار "اختراق" الإخوان للقافلة، أو عدم وجود نية لإحراج الأنظمة المطبّعة بدءا من شرق ليبيا، فتلك العقول الوظيفية لم تكن لتسمح بأي تقارب بين أصحاب السرديات الكبرى حتى في مستوى القضية الفلسطينية. فهذا التقارب قد يُمثل سابقةً يمكن النسج عليها في مستوى الرهانات الداخلية، ولذلك تداعى الوظيفيون إلى التشكيك في صدق الدعم الليبي (حكومة طرابلس) للقضية الفلسطينية من جهة أولى، وإلى تبرير موقف بنغازي والقاهرة باعتباره دفاعا مشروعا عن سيادتهما وعن حقهما في مواجهة "المشروع الإخواني". ولم يكن هذا النسق الحجاجي "المتصهين" ليجد أفضل من اختزال القافلة في "الإخوان" لشيطنتها. ونحن نصف النسق الحجاجي بـ"التصهين" لأن شيطنة أي حراك مقاوم في الفضاء العربي يحتاج إلى استحضار "الإخوان" (مثلما يفعل الكيان مع حركة حماس المصنفة "حركة إرهابية)، كما تحتاج السردية الصهيونية -وهو رأي المناضلة اليسارية المغربية لطيفة البوحسيني- إلى تهمة "معاداة السامية" أو إلى تهمة "اليسار الإسلاموي" -في فرنسا خاصة وفي الغرب بصفة عامة- لشيطنة كل من يدعم القضية الفلسطينية.
إذا كانت قافلة الصمود قد أكدت أن حدود الكيان لا تنتهي عند سيناء غربا، فإنها قد أثبتت أيضا أن "الحصون المتقدمة" أو الطوابير الخامسة للتصهين الناطق بالعربية لا تقف عند حدود حكومة غرب ليبيا. فإذا كنا نستطيع أن نفهم مواقف النخب الوظيفية في حكومتي بنغازي والقاهرة باعتبارها دفاعا عن الخيار التطبيعي للنظامين، فإننا لا نستطيع فهم موقف العديد من الشخصيات الاعتبارية في تونس، بالأخص أولئك الذين ينتمون إلى "تصحيح المسار" أو موالاته النقدية. فالسردية الرسمية للنظام التونسي هي سردية معادية للصهيونية وللإمبريالية، ولم يكن للقافلة -بمختلف مكوناتها- أن تغادر تونس دون موافقة من النظام. فكيف يمكن أن نفسر تقاطع أغلب خطابات هؤلاء مع السردية الصهيونية (شيطنة الإخوان رغم أن قاطرة المقاومة الآن-وهنا هي حماس الحركة الإخوانية)؟ وكيف نفسر دفاعهم المستميت على الأنظمة "المطبعة" ومحاولة رفع الحرج عنها بتبني سردية "المؤامرة الإخوانية" التي تقف وراء القافلة؟ بل كيف يمكن أن نفهم تشكيكهم في "نوايا" قافلة تحركت على أعين الدولة وبمباركتها وبقيادة مشتركة لا علاقة لها بـ"الإخوان"؟
إنها أسئلة نطرحها لا لنجيب عنها، بل لندعوَ إلى البحث عما يساعد على الإجابة عنها في أطروحات المقال ذاته. فنحن نكتب بمنظور مركّب لا يدعي الإحاطة بالحقيقة، ولكنه منظور قد يساعد على جعل أي حكم "مواطني" أقرب ما يكون إلى الموضوعية وأبعد ما يمكن عن الاختزالية والانحيازات التأكيدية.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء التونسي التطبيع الفلسطينية فلسطين تونس التطبيع قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة أفكار سياسة تكنولوجيا سياسة سياسة مقالات اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النظام الجزائری النظام التونسی قافلة الصمود یمکن أن لا یمکن لم یکن
إقرأ أيضاً:
دعم هند صبري قافلة الصمود يثير انقساما.. تضامن فني مصري وسط دعوات لترحيلها
أثارت مشاركة الفنانة التونسية هند صبري في دعم قافلة إنسانية متجهة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، جدلا واسعا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث انقسمت الآراء بين من أشاد بموقفها الإنساني ومن رأى في خطوتها تجاوزا غير مقبول، مطالبا بسحب جنسيتها المصرية وترحيلها من البلاد.
جاء هذا التفاعل عقب نشر صبري عبر حسابها على إنستغرام منشورات أبدت فيها دعمها قافلة "الصمود"، التي انطلقت من تونس باتجاه قطاع غزة، مما فتح عليها باب الانتقادات.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2بتهمة تأييد "حزب الله".. مغنّ من فرقة "نيكاب" الأيرلندية يمثل أمام القضاء البريطانيlist 2 of 2بعد أسابيع من طرح الفيلم ونجاحه.. وفاة نجم "ليلو وستيتش" عن 57 عاماend of listوتداول بعض المستخدمين صورا وتصريحات من حسابها، معبرين عن استيائهم، ومعتبرين ما قامت به مساسا بالموقف الرسمي، في حين دافع آخرون عنها وأكدوا أن موقفها يندرج في إطار التعاطف مع القضية الفلسطينية.
ردود فعل منقسمةوكان أشرف صبري -والد الفنانة المصرية ياسمين صبري- من بين من دعوا إلى ترحيل هند صبري عبر منشور على حسابه في فيسبوك.
كما طالبت جيهان عبد الله نقيب الممثلين أشرف زكي بسحب تراخيص الفنانين المشاركين أو الراغبين في المشاركة في المسيرات، وعلى رأسهم هند صبري. وتكررت دعوات مشابهة على منصة "إكس" تطالب بطردها من مصر وسحب جنسيتها.
محدش يعلى على ارادة الشعب #سحب_الجنسيه_من_هند_صبري pic.twitter.com/rVOOjt6QoN
— Yasmina ???????? (@YasminaMO) June 15, 2025
"اغتيال معنوي وفني"ورغم تصاعد الحملة، لم تصدر صبري أي توضيح رسمي حتى الآن، في حين عبّر فنانون ومخرجون عن تضامنهم معها، مؤكدين تقديرهم لمكانتها وعلاقتها الوثيقة بمصر التي يعتبرها كثيرون وطنها الثاني.
فتحت وسم "فلسطين قضيتنا كلنا"، أبدت الفنانة رانيا فريد شوقي دعمها صبري، وأشادت بثقافتها ورقيها، مؤكدة أن القضية إنسانية وليست مسألة جنسية. كذلك، اعتبرت الفنانة إلهام شاهين الانتقادات الموجهة لها مبالغا فيها.
أما المخرج أمير رمسيس، فرأى أن وفاء صبري لتونس لا يتعارض مع وفائها لمصر، بينما رفض المخرج يسري نصر الله التشكيك في محبتها لمصر، واصفا الحملة بأنها نوع من الترهيب لكل من يختلف، وإساءة للمصريين قبل غيرهم.
إعلانمن جانبه، دعا الناقد الفني طارق الشناوي نقيب الممثلين إلى التدخل السريع، واصفا ما تتعرض له صبري بـ"القصة الوهمية" التي تهدف إلى اغتيالها معنويا. في حين رفض المنتج محمد العدل التشكيك في وطنيتها، مؤكدا أنها "مصرية تونسية وطنية بامتياز".
وكتب الناقد أمير العمري أن هند صبري أظهرت انتماء لمصر يفوق ما يبديه كثيرون يحملون جنسيتها، مؤكدا أن الحملة ضدها تحمل خطابا عنصريا صادرا عن "جهل أو نوايا خبيثة".
مسيرة فنية مشتركة بين مصر وتونسوكانت مسيرة هند صبري السينمائية بدأت من تونس عام 1994 بفيلم "صمت القصور"، ثم قدمت "موسم الرجال"، لكن انطلاقتها الأبرز كانت من خلال فيلم "مذكرات مراهقة" عام 2001 إلى جانب الممثل المصري أحمد عز والمخرجة إيناس الدغيدي.
وشاركت في عدد من أبرز الأعمال السينمائية المصرية مثل "بنات وسط البلد" مع محمد خان، و"جنينة الأسماك" مع يسري نصر الله، و"مواطن ومخبر وحرامي" مع داود عبد السيد، و"أحلى الأوقات" لهالة خليل. كما لعبت أدوارا بارزة في أفلام "الجزيرة" و"الكنز" و"أسماء" و"الفيل الأزرق" و"كيرة والجن".
وحافظت على حضورها في السينما التونسية من خلال مشاركات لافتة، أبرزها في فيلم "بنات ألفة" لكوثر بن هنية.
وتستعد حاليا لتصوير دورها في مسلسل "عسل أحمر" المقتبس من رواية "دم على نهد" للكاتب إبراهيم عيسى، إلى جانب الفنان آسر ياسين، حيث تجسد فيه دور صحفية تحقق في سلسلة جرائم قتل.