كيف يتم تجنيب المنطقة الحرب بين أمريكا وإيران؟
تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT
لا يزال الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران قائمًا، منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979م، ولا تزال الأزمة تبارح مكانها، وقد بدأت الأزمة في ذروتها، مع قصة الرهائن الأمريكيين، الذين اعتقلوا في طهران، بسبب اتهامات إيرانية لأمريكا للسياسة الأمريكية، ثم الطلب الإيراني لأرصدة مالية لإيران في الولايات المتحدة، قبل الثورة، وهؤلاء الذين تم اعتقالهم، هم من أعضاء السفارة الأمريكية في طهران، ثم برزت قضية المفاعل النووي الإيراني، التي لا تزال الأزمة قائمة بينهما بسببه، منذ أكثر من عقدين تقريبًا، ولا تزال تتفاقم وتخف قليلًا، وتعود وفق المزاج الإسرائيلي وتحريضه، والذي يتوجس من مخاطر هذا المفاعل النووي، حتى لا يتحول إلى أسلحة نووية.
ولا شك أن أي موقف عسكري من قبل الولايات المتحدة على إيران، سوف يلحق ضررًا بالمنطقة، بشكل أو بآخر، وهذا ليس في مصلحة استقرار المنطقة ولا العالم، والولايات المتحدة لها مصالح بترولية وعسكرية ومصالح كثيرة، سوف يلحقها الضرر من أية عملية عسكرية على إيران، وسياسة التهديد والفرض والإرغام بالقوة، لن تجدي في الحلول السياسية، ولن تحقق أهدافها مهما كانت الفروق العسكرية بين الطرفين، بل ستكون آثارها كبيرة على المنطقة، وعلى وأوروبا، فالحروب، لفرض سياسات ، لم تحقق نجاحًا في كل العالم، وإن نجحت لفترة، فإنها لا تستمر بعدها وتتراجع وتنسحب، وهذا ما جرى للعراق بعد احتلاله، ثم احتلال أفغانستان ثم عادت طالبان مرة أخرى للحكم.. فقبل عقدين من الآن، صدر كتاب بعنوان (أوراق منسية.. أحاديث هزة الخليج)، للكاتب والمؤلف، رياض نجيب الريّس، ومن ضمن هذه الأحاديث التي اعتبرها الريّس، أنها هزة الخليج، حديث صحفي أجراه رياض الريس، مع السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله ـ بمدينة صلالة، في 2 أبريل 1981م، ونشر بمجلة المستقبل المهاجرة في باريس. وكان بالفعل كلامًا نفيسًا وعميقًا ودقيقا، لاستشراف المستقبل الأفضل للمنطقة، ويمكن أن نطرحه في هذا الوقت للعبرة والاستفادة مما قيل عن الأزمات والصراعات، على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على هذا الحديث. ومما قاله السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ إن إيران قوية ومستقرة، أفضل لجيرانها وللمنطقة. إن التعامل مع الحكم المستقر هو التعامل مع الوضوح» ـ مضيفا في فقرة أخرى من الحديث ـ: عمان وإيران تحكمهما سياسة الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ونسعى باستمرار إلى تطوير علاقاتنا معها ودعهما. إن إيران غير المستقرة ستأتي بكارثة على المنطقة. وقال السلطان قابوس للصحفي رياض الريس: (تذكر كلامي)». كان الحديث قد جرى ـ كما أعتقد ـ في فترة المشكلات التي حصلت بعد الثورة الإسلامية، والتفجيرات التي أدت برئيس الجمهورية محمد علي رجائي، وكذلك استهداف رئيس البرلمان محمد حسين بهشتي وآخرين، فقتل مع عشرات النواب في الفعل الشنيع، من قبل منظمتي فدائيي خلق، ومجاهدي خلق، الماركسية واليسارية.
ولا شك أن هذا الطرح الحصيف من السلطان قابوس، هو أن تستوعبه كل المنطقة جيدًا، وتتخذه أسلوبا وطريقا يخدم الطرفين، دول الخليج وإيران، ويبعد هواجس التخوف والتوتر بينهما، ومكائد الآخرين وحسابتهم، وإستراتيجياتهم الخاصة، لتتجنب المنطقة أهوال الحروب والتوترات، التي لن تستفيد منها لا إيران، ولا دول مجلس التعاون، ولو حصل ـ لا سمح الله ـ حرب في هذه المنطقة، فإنها ستجرها إلى المجهول، لا يعرف مداها إلا الله، ولا مخاطرها، وسيكون الجميع خاسرين، في كل المجالات، وسنبكي بعدها على الأطلال، لأن الأثمان ستكون باهظة ومكلفة، لكل الأطراف، بدلا من التنمية والاستقرار، ورفاهية الشعوب ونهوضها.
ومع بروز مسألة المفاعل النووي الإيراني ـ كما أشرنا آنفًا ـ وبروزها كقضية دولية، من خلال الضغط على إيران بعدم تخصيب اليورانيوم، من قبل أغلب الدول الكبرى في مجلس الأمن لوقف ـ كما يعتقدون ـ محاولة امتلاك إيران السلاح النووي، وبهذا دخلت القضية أبعادًا خطيرة وشائكة، وإسرائيل تطرح ـ وهي المحرض الأكبر ـ أن إيران تحاول تحت ستار البرنامج السلمي، إنشاء منشآت الوقود النووي اللازمة، لإنتاج مواد قابلة للانشطار من أجل برنامج نووي، أو غيرها من التوترات مع السياسة الأمريكية.. لكن إيران أصرت على حقها في التخصيب وفي الحصول على هذه الطاقة النووية السلمية. والكثير من دول العالم ترى: أن من حق إيران امتلاك الوقود النووي السلمي، وتطوير هذا البرنامج للأغراض العلمية والتكنولوجية، ومثلما حصلت إسرائيل وباكستان والصين، وقبل ذلك الدول الكبرى فإن إيران من حقها الحصول على هذا العلم وأدواته التكنولوجية، في المجال السلمي ـ مثلها مثل الآخرين ـ وهذه خطوة منطقية ولا يجوز القفز عليها، لكونها من بديهيات الواقع الراهن. كما أن على إيران أن تنفتح أكثر على دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى تعزيز التفاهم معها لتطمينها من جهة، وفي تأكيد رغبتها في استقرار المنطقة والتعاون، مع دولها بما يبعد شبح الحروب والصراعات والتوترات، التي لا يستفيد منها إلا أعداء الأمة، وتجار السلاح وقوى الهيمنة والعولمة. وتتحرك بما يطمئن دول المنطقة من توجهات إيران العسكرية، ومدى رغبتها في استقرارها، في التعاون المشترك وحل القضايا العالقة، وهذا في صالح الجميع، وستسهم في استنهاض المنطقة كلها، لإبعاد التوجسات والصراعات والتوترات، التي عانت وتعاني منها المنطقة حتى الآن، والشواهد كثيرة ومتوفرة ولا نريد فتح الملفات. كذلك فإن التصريحات النارية تجاه السياسات هنا وهناك، ليست داعمة للتقارب بين الطرفين، إيران ودول المنطقة، وهذه تستغل كثيرًا في الغرب، ويستعملها اللوبي الصهيوني في الترويج لمقولة أن إيران تستعد من خلال مفاعلها النووي لإنتاج أسلحة نووية لإبادة إسرائيل من الوجود، كما يروج اللوبي الصهيوني من خلال برنامج إيران النووي، لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود، وهذه، ذرائع إسرائيلية استغلها ساسة إسرائيل منذ أكثر من عقدين حتى الآن، لطرح هذه القضية في الدوائر الأمريكية والغربية، لخطر المفاعل النووي الإيراني، مع أن هذه الفكرة لا نعتقد بصوابها تمامًا وهي مقولة غير صحيحة .
فإذا كان الهدف من هذا السلاح، تدمير إسرائيل من أجل الفلسطينيين، فإن هذا السلاح النووي سوف يقتل ملايين الفلسطينيين أيضا وربما دول الجوار المحيطة بإسرائيل ومنها لبنان، مع وجود حزب الله فيه والمؤيد من إيران!! فهذه التوجسات هي صناعة إسرائيلية بماركة مسجلة، ولا نقول إلا ما قاله الحديث الشريف (الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها)، ومن هنا نعتقد أن على الولايات المتحدة أن تتحرك للحلول السلمية، عن طرق التفاوض، فعليها أن تبعد التهديدات بالحلول العسكرية، أو التلويح بها لمحاورة الآخر المختلف معه، والحوار ضرورة عقلية لأبعاد شبح الحروب والصراعات والتوترات، ولا مناص من استعمالها واقتناصها، من التأكيد على التفاوض، الذي يجعله سهلا وميسورا بدل التهديدات ورفع سقف المطالب التي تفرض، وإبعاد التوتر والصراع بشتى الوسائل والطرق والأساليب عنها، وعن جيرانها.. وإذا كان المجتمع الدولي يريد منطقة خالية من الأسلحة النووية، فان العدل والإنصاف، يدعوان أن يكون الجميع ملتزمين بهذا الأمر، أما أن يكون البعض يملك السلاح النووي والبعض الآخر يُحرم عليه، فإن المشكلات ستظل قائمة ولا تنتهي.
والحقيقة أن هذا السكوت على امتلاك إسرائيل أسلحة نووية يعد سابقة خطيرة، تشجع إسرائيل على اختلال التوازن الاستراتيجي والعسكري، في الشرق الأوسط، ومن ثم رفض الانصياع إلى القرارات الدولية، لأن الأطراف المعتدى عليها ـ لا تملك المقدرة العسكرية ـ ومنها النووية ـ على رد التهديد.
ومن هنا فإن هذا السكوت والتجاهل سيجر المنطقة إلى أحوال وإلى ضياع الفرص في السلام العادل والدائم. وإذا كانت هناك خطوات لإنتاج السلاح النووي عند بعض الدول في المنطقة، فإن من المنطقي أن يتم الحديث عن مخاطر هذا السلاح بصورة عامة، حتى تكون المنطقة كلها خالية من الأسلحة النووية وتكون الكفة متعادلة بين كل الأطراف، وليس استثناء بعض الأطراف، وتركها تعربد وتحتل وتهدد لمجرد أنها تلقى التأييد والمساندة من بعض الدول الكبرى. ونتذكر عندما أطلق الرئيس الراحل صدام حسين، تصريحاته بتدمير نصف إسرائيل، استغلها اللوبي الصهيوني، وروّج لكذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، مع أن هذه أكاذيب وتم الاعتراف بها عندما ظهرت، وكان ما كان بعد ذلك بالنسبة للعراق، وهذا قياس مع الفارق كما يقول الأصوليون، لكننا نرى أن إيران تحتاج إلى جيرانها وأصدقائها، مثلما جيرانها وأصدقاؤها يحتاجون إليها، وتلك مسألة طبيعية وفطرة إنسانية، أشار إليها العلامة ابن خلدون في مقدمته، وهو ما يعرف بالاجتماع الإنساني وحاجة الإنسان إلى أخيه والعكس، والجميع يتمنون لإيران النهوض والتقدم والاستقرار، مع علاقة جيدة وقوية مع جيرانها، حيث الروابط القوية التي تجمع بين الشعب الإيراني وشعوب منطقة الخليج والجزيرة العربية من العلاقات التاريخية الوطيدة عبر قرون من حسن الجوار وعلاقات المصاهرة، وغيرها من الوشائج الضاربة في عمق التاريخ، وقبل ذلك رابطة الدين التي نعدها أقوى الروابط وأوثقها عرى، قد لا نحتاج معها إلى الشرح والتبيان، مع أحقية إيران الاحتفاظ والاستفادة من التكنولوجيا، وما تمليه ثوابتها والتفاف شعبها ومصلحتها العليا، لكن لابد للجميع من التقارب والتفاهم، وزرع الثقة، ومناقشة الخلافات بروح العلاقة التاريخية المتينة، لأن الجميع سيبقى، ولا يستطيع أحد إلغاء جاره، فالجغرافيا ثابتة، لذلك لا مفر من التقارب والتعاون، واستقرار إيران من استقرار دول المنطقة والعكس الصحيح، فليس هناك مصلحة، لكل المنطقة في إثارة التوترات والأزمات وتعكير الأجواء.. نعم إن إيران المستقرة غير المضطربة، خير لجيرانها، من إيران غير المستقرة.
ولا شك أن تغيير الولايات المتحدة الأمريكية سياستها، تجاه طريقة الحل بالتفاوض في مسقط، بحسب ما نشر، يعتبر خطوة مهمة بلا شك لتقريب وجهات النظر، وهذا يعني أن هناك انفراجًا في التعاطي مع أزمة المفاعل النووي الإيراني، بدلًا من التهديد بالقوة أو استخدامها، إلى حوار من خلال التفاوض، قد يسهم في الحل الذي تأخر كثيرًا، وهو الجلوس بين الطرفين لإيجاد مخرج بينهما، ويثمر حلولًا إيجابية بينهما، وربما يساهم في اتفاق كما كان الاتفاق في مسقط قبل عدة سنوات، يبعد التوترات والأزمات في المنطقة، وهو بلا شك مطلب الجميع، إن حسنُت النيات بين أطرافه.
عبدالله العليان كاتب وباحث فـي القضايا السياسية والفكرية ومؤلف كتاب «حوار الحضارات فـي القرن الحادي والعشرين»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة السلطان قابوس السلاح النووی على إیران إن إیران من خلال من قبل
إقرأ أيضاً:
كيف نفهم إستراتيجية روسيا في البحر الأسود؟
تعكس إستراتيجية روسيا في البحر الأسود مزيجا من الطموحات الجيوسياسية والمصالح العسكرية، في منطقة تعد محورية لأمنها ونفوذها الإقليمي.
وتقول الباحثة ناتالي سابانادزه، وهي زميلة أبحاث أولى في برنامج روسيا وأوراسيا، والباحث جاليب دالاي، زميل استشاري أول في مبادرة تركيا ضمن برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في تقرير نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس)، إنه على مدى جزء كبير من عقدين من الزمن، قللت أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من شأن روسيا ودوافعها للهيمنة على منطقة البحر الأسود.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2بعد حرب الـ12 يوما مع إيران.. بماذا أوصت مراكز الأبحاث الإسرائيلية نتنياهو؟list 2 of 2"دبلوماسية التجارة لا المعونة".. إستراتيجية أميركية جديدة في أفريقياend of listويعتبر فهم أنماط الاستمرارية والتكيف في نهج موسكو في البحر الأسود أمرا أساسيا لتوقع سلوكها الإستراتيجي في المستقبل. فاستمرار روسيا في استخدام الحرب الهجينة والحرب الشاملة في البحر الأسود، إذا ما كتب له النجاح، ستكون له "تداعيات مدمرة" على المنطقة الأوسع نطاقا.
ويقول الباحثان إن الحفاظ على سيطرة أوكرانيا على أوديسا وساحلها المجاور يعد أمرا جوهريا لأمن البحر الأسود. ويجب أن تتضمن أي هدنة أو اتفاق سلام مستقبلي بنودا لضمان الردع طويل الأمد ضد أي محاولات روسية متجددة لقطع وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود. فمثل هذه الخطوة لن تقوض فقط الجدوى الاقتصادية لأوكرانيا، بل ستضعف أيضا أهميتها الإستراتيجية الأوسع نطاقا.
أهمية دور تركياوكان لالتزام أنقرة باتفاقية مونترو -التي تمنع دخول السفن العسكرية إلى منطقة البحر الأسود خلال زمن الحرب- تأثير كبير على طموحات روسيا.
وبالتالي، ستظل تركيا فاعلا محوريا في البحر الأسود وشريكا حيويا للغرب، نظرا لتحكمها في المضائق التركية، وامتلاكها لأطول شريط ساحلي في المنطقة، وثقلها الجيوسياسي الكبير.
ويرى الباحثان أن البحر الأسود يعد جزءا لا يتجزأ من إعادة روسيا تصور هويتها الإمبريالية الجديدة، وسعيها إلى مكانة القوى العظمى، وحساباتها الجيوسياسية الأوسع. ففي هذه المنطقة تحديدا يتجلى النزوع الروسي نحو المراجعة ما بعد السوفياتية بأوضح صوره. وإن فهم أنماط الاستمرارية والتكيف في نهج موسكو في البحر الأسود يعد أمرا أساسيا لتوقع سلوكها الإستراتيجي في المستقبل.
إعلانوتمثل الحرب في أوكرانيا، إلى حد كبير، محاولة من روسيا لتحقيق طموحها طويل الأمد في الهيمنة على البحر الأسود، بما في ذلك الممرات التجارية وممرات الطاقة الحيوية. ورغم أن هذه الحرب تشكل تصعيدا، فإنها لا تمثل تحولا جذريا في النظرة الإستراتيجية لموسكو، والتي تقوم أساسا على مقاومة النفوذ الغربي، ولا سيما نفوذ الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، في المنطقة.
ومن هذا المنطلق، من المرجح أن تكون روسيا أكثر عدائية تجاه احتمال انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي مما توحي به خطاباتها الرسمية. وفي هذا السياق، يجب تنفيذ إستراتيجية الاتحاد الأوروبي الجديدة الخاصة بالبحر الأسود بشكل عاجل وفعال، بما يظهر التزاما راسخا بأمن المنطقة وسياسة الردع فيها.
ويقول الباحثان إن الحفاظ على سيطرة أوكرانيا على أوديسا وساحلها المجاور يعد أمرا محوريا لأمن البحر الأسود. وينبغي أن تتضمن أي هدنة أو اتفاق سلام مستقبلي بنودا تضمن الردع طويل الأمد ضد أي محاولات روسية متجددة لقطع وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود. فمثل هذه الخطوة لن تقوض فقط الجدوى الاقتصادية لأوكرانيا، بل ستضعف أيضا أهميتها الإستراتيجية الأوسع نطاقا.
ويضيف الباحثان أن كلا من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، أساءا حتى وقت قريب، تقدير النوايا الإستراتيجية لروسيا، وقللا من شأن إصرارها على تحقيق تلك النوايا. ففي أثناء الحرب الباردة، كانت الوظيفة الأساسية لحلف الناتو هي الردع والدفاع ضد التهديد السوفياتي.
وبوصفها خليفة للاتحاد السوفياتي، لطالما نظرت روسيا إلى الناتو ليس فقط بوصفه تهديدا نتيجة لتوسع الحلف، بل كمنظمة عدائية تتكون من خصوم الكرملين في الحرب الباردة. فروسيا تعارض وجود الناتو ذاته. وبينما يواصل الردع الفعال منع اندلاع مواجهة تقليدية مباشرة مع أعضاء الحلف، تتجه موسكو بشكل متزايد إلى استخدام أساليب الحرب الهجينة، مثل التأثير السياسي وحملات المعلومات، لتحقيق أهدافها.
تزايد المخاطرومع تراجع الحضور الأمني الأميركي في المنطقة، تتزايد المخاطر التي تهدد البحر الأسود والأمن الأوروبي الأوسع. وفي هذا السياق، فإن تحديد آليات التعاون بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتركيا بشكل واضح يعد أمرا بالغ الأهمية. كما أن تعزيز التعاون بين حلفاء الناتو المطلين على البحر الأسود بات أمرا ملحا.
وتشكل مبادرة إزالة الألغام الجارية بقيادة بلغاريا ورومانيا وتركيا نموذجا واعدا للتعاون العملي، وهو نموذج يمكن توسيعه ليشمل مجالات أخرى. وتدرك روسيا تماما مثل هذا التنسيق، ومن المرجح أن تسعى إلى تقويضه عبر التخريب وحملات التضليل.
ويقول الباحثان إنه بدلا من السعي إلى إنشاء بنية أمنية إقليمية تعاونية، تقوم الرؤية الروسية للبحر الأسود على ترتيبات فعلية تشبه تقاسم النفوذ مع تركيا، على غرار الديناميكيات التي سادت في حقبة الحرب الباردة، إذ تسعى موسكو إلى فرض سيطرتها على الحوض الشمالي، وتركيا على الجنوب.
ويتطلب هذا النهج من روسيا إدارة علاقة تبادلية مع تركيا تزداد تعقيدا، لا سيما في ظل مؤشرات على تقارب متجدد في سياسة أنقرة الخارجية والأمنية مع الغرب. وتبقى تركيا الفاعل المحوري في البحر الأسود، نظرا لسيطرتها على المضائق التركية، وامتلاكها لأطول شريط ساحلي في المنطقة، وثقلها الجيوسياسي الكبير.
إعلانوتعارض تركيا توسيع بصمة الناتو في البحر الأسود، لكنها ترفض في الوقت نفسه احتمال الهيمنة الروسية. لذا يتمحور الموقف الإستراتيجي لأنقرة حول الحفاظ على توازن القوى الإقليمي، من خلال دعم القدرات الأوكرانية ومواجهة الطموحات الهيمنية لروسيا، مع تجنب توسيع كبير في انخراط الناتو المباشر.
وفي ظل احتمال تقليص الدور الأميركي في المنطقة، فإن الدفاعات في منطقتي البلطيق والبحر الأسود بحاجة إلى إستراتيجية مشتركة لاحتواء روسيا. وستظل أوكرانيا القوية والمرنة، المدعومة باستمرار من قبل أوروبا وشراكات إقليمية متينة، عنصرا أساسيا لضمان أمن طويل الأمد في البحر الأسود.
تنافس مع الصينويرى الباحثان أنه إذا تمكنت روسيا من إعلان النصر في أوكرانيا، أو حتى إذا تم النظر إليها على أنها انتصرت، فإن مثل هذه النتيجة ستخلف عواقب خطيرة على جوار روسيا الأوسع. فمن المرجح أن تقوم موسكو مدفوعة بنشوة الانتصار، بانتهاج مقاربة أكثر حزما لإعادة تشكيل المنطقة كما تتخيلها.
وبالنسبة لكثير من الدول المجاورة، قد لا يبقى أمامها خيار سوى الاصطفاف مع روسيا تحت الضغط. وتعد مناطق البحر الأسود وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى مترابطة ضمن إطار الإستراتيجية الروسية المتطورة تجاه جوارها. ويجب أن يشكل هذا الواقع استجابة أورو-أطلسية منسقة، تهدف إلى بناء سياسات متماسكة ومترابطة عبر هذه المناطق لموازنة النفوذ الروسي وتعزيز القدرة الإقليمية على الصمود.
وعلى الرغم من أن الحضور الاقتصادي للصين في منطقة البحر الأسود لا يزال محدودا، فإنه يشهد توسعا مطردا، مما يسهم في تنامي التصور الإقليمي بوجود تعددية قطبية، وهي معادلة ستضطر روسيا بشكل متزايد إلى التعامل معها.
وعلى عكس موسكو، فإن بكين غير مثقلة بإرث إمبريالي، مما يسمح لها بالتعامل مع الفاعلين الإقليميين من دون قيود تاريخية كبيرة. وبينما لا تعرب الصين صراحة عن تأييدها لطموحات روسيا الإمبريالية الجديدة، فإنها لا تعارض رؤيتها للتعددية القطبية القائمة على مناطق نفوذ حصرية.
وبالنسبة لموسكو، فإن التعددية القطبية لا تتمحور حول تنوع مراكز القوة، بل حول بناء إطار مناهض للغرب لإعادة تشكيل النظام العالمي. وعلى المدى المتوسط، من المرجح أن تتسامح روسيا، بل وقد ترحب، بالحضور الصيني في المنطقة بوصفه ثقلا موازنا للغرب. أما على المدى البعيد، فقد تتحول هذه الشراكة البراغماتية إلى تنافس إستراتيجي، ولا سيما مع تعمق النفوذ الصيني.