العربي الأفريقي (مارس 1979): ولكننا نأكل باسطة سلا (3)
تاريخ النشر: 11th, April 2025 GMT
عبد الله علي إبراهيم
02 - 04 - 2009
للمغنية رأي سلبي كبير في شغل الأستاذ عبد الرحمن السلاوي. فهي القائلة:
ما بنركب رقشات وراء
ولا بنجيبو راجل مره
ولا بناكل باسطة سلا
وأنا على غير رأي المغنية في شغل السلاوي. فقد اقتسمت معه "باسطة" في زمن مضى وأسعدتني وساغ لي طعمها إلى يومنا. وتمر في هذا الشهر الذكرى الثلاثين لهذه الباسطة.
العمل مع السلاوي لطف يتخلله ضحك يحسنه الرجل. وأكثر ما حببني فيه هو أنه وثق بي واستثمر بسخاء في مشروع ترك لي قيادته. وكان ذلك في زمن صعب خلاص. فقد خرجت في نحو ابريل 1978 على الحزب الشيوعي الذي لم أذق بين عتاته طعم ثقة السلاوي ولا أريحيته وأنا وهم في فدائية العمل سراً تحت الأرض وسكراتها. فرحلوا هم وتركوني خارجاً عنهم. وكنت تعرفت على السلاوي خلال فترة الغيبة هذه ضميراً شيوعياً مستتراً. فقد كنت أغشى ميز عزابة هو فيه. ولسبب ما لم يطلع الصديق الذي كنت أغشاه السلاوي بحقيقة أمري. وأذكر (لو أذكر) أنه قدمني إليه كقريب أو معرفة من بلدة كريمة. ووضح لي فيما بعد أن السلاوي لم يشتر هذا الغطاء. وربما لحظ من لغتي أو من إجاباتي على أسئلته أنني شخص لم ير كريمة درة بلدي الصغير منذ عام 1961. وهذا هو الحق. واتضح له بعد خروجي أنني كنت ما كنته. وسخر مني ومن صديقي.
ثم جاءني في آخر 1978 بعرض إصدار مجلة ثقافية. واستعجبت لهذا الفتى البلي بوي السمح، الذي بدأ يريش آنذاك في تجارة الصادر والوارد، يفكر في الثقافة أو الصحافة. ثم اتضح لي أن رأس ماله كان من الصحافة أصلاً. فقد هاجر صغيراً إلى الكويت وعمل في جريدة السياسة الشهيرة. وكانت مهمته أن يصدر ملاحق إعلانية بالأجر وبالعمولة. وقد ساقه هذا العمل إلى بلاد عربية كثيرة بحثاً عن الإعلان. ونجح وريش. وعاد إلى السودان.
لم تساورني الشكوك في مشروع السلاوي كما هو متوقع من يساري مثلي يظن العالم كله في طلابه: المخابرات الأمريكية، جهاز الأمن القومي، والموساد، وكالة شينخو، وفاتن حمامة (ليلاً في الأحلام)، والنملة الحنونة، وذبابة التسي تسي. ولم أثبط همته فعل المعارضين لنظمنا المستبدة الذين يصدقونها في أنه لا يمكن عمل شيء حقيقي مؤثر في الفكر والسياسة وهي حاكمة ما تزال. فقد اختلفت خطتي للمعارضة عن معارضة التسويف التي ترجي كل شيء حتى يوم السعد: جدلة عرس في الأيادي ولتخرج الكنوز كلها من باطن الأرض تغني. فقد كنت وأنا بين الشيوعيين أدعو في مجلتهم الفكرية "الشيوعي" على كسر احتكار الحكومة للصحف وفرض الإصدار المتعدد لها منتهزين الثقوب في قانون الصحافة. ففيه مثلاً حق إصدار صحف ثقافية وفنية ورياضية. أنظر مقالي "الإعلام الثوري" بأحد أعداد "الشيوعي" لعام 1975.
ولكن لا حياة لمن تنادي حتى سمعني السلاوي من غير أن يقرأ مجلتنا الغاطسة. فعرض عليّ أن أعمل معه لإخراج العربي الأفريقي. ولم أتهيب من بعد تجربتي مع السلاوى (الفتى الذي قد تراه غراً أو مسلطاً) أن أنحت فضائي من المسئولية التي تليني حتى في ظل أكثر النظم عتواً.
فلم أرض تعطيل مساهمتي للوطن في الحقول التي أحسنها حتى يوم الفرج: "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان". فهذا التعطيل تفريط في تبعة الواحد في فتح النوافذ المضيئة الصغيرة للناس في حلك العتمة ليثبتوا على الأمل وليروا من ثقب تلك النوافذ العنيدة مشارف الكون الجديد. كان ذلك ما ينصح به أستاذنا عبد الخالق محجوب المناضلين. فهو لم يكف يسألهم أن يبثوا الأمل في الناس كل صباح جديد بالإنجاز الصغير والمأثرة المتواضعة والحقائق الجديدة. وكان يسميها النوافذ التي يرى منها الشعب الوجود المغاير في لمح البصر. وسيجد المناضل في مثل السلاوي، غير المتوقع، سنداً. فالأشواق للوطن المغاير ليست حكراً لعتاة السياسيين في المخابئ أو في دركات كوبر أو في فنادق الغربة الموصوفة دائماً بذات الخمس نجوم. فالله فيّ، وأمثال السلاوى (الذين تخطئهم عين السياسي بل قد يتهمهم في وطنيتهم هم الغالبية) فيّ جداً. وللقارئ الواقف على "بشاتن" حالي مع المعارضة الرسمية لنظام الإنقاذ لقبولي عضوية المؤتمر القومي من أجل السلام (1989) أن يقرأ خطوتي تلك في سياق هذا التاريخ.
سرعان ما حصل السلاوي على التصريح بإصدار المجلة. ثم وفر لنا مكتباً في عمارة الضرائب فاتحاً على جهة الجنوب منها. وكان يغشاني كل صباح بعربته الأسبريو بمنزلي ببري المحس حلة آل إسحاق (طراهم الله بالخير) لنلاحق تبعات إصدار المجلة. وأعجبني فيه كمستثمر أنه كان لا يستغلي شيئاً ليخرج منتوجه يسر الناظرين. اختار من بين المطابع معامل التصوير الملون السودانية لحرفتها المبتكرة في الطباعة الملونة التي لم تبلغها بعد المجلة السودانية آنذاك. ولم يقبل الدنية في المجلة فصدرت في ورق أبيض لا ورق جرنال. واختار من بين الخطاطين الأستاذ السر وهو أغلاهم والذي ظهرت مواهبه لاحقاً في استنباط خطوط عربية مشرقة لفتت إليه الانتباه. وكان كريماً مع ضيوفنا. أذكر مرة أن دعونا إلى ندوة المجلة. وكنت بشح خيالي قد قررت عقدها بدار الصحيفة الضيق. فأقترح السلاوي أن نستضيفهم بفندق الصفا الذي يقع فوق دارنا مباشرة. ورتب كل شيء مع إدارة الفندق فجاء الضيوف (وفيهم الدكتور خالد المبارك) وعزمناهم جد.
ووجدته كمستثمر على درجة عالية من الخلق والمرونة. فقد تولى جانب الإعلانات من المجلة. وهذا أصل تخصصه كما تقدم. فجعل محور الإعلان لعددنا الأول قناة جونقلي. فنشر مادة إعلانية محلاة بصور شيقة في 6 صفحات من المجلة واتبع ذلك بأن جعل صفحة الغلاف الأخيرة لمشهد من حقول التشييد في جونقلي احتلته آلة حدباء عظيمة تمخر عباب أرض قناة المستقبل. وعلى النفس ذاته نشر إعلانين عن أعمال الحاج محي الدين الكجم وابنه صلاح من أميز المستثمرين في الجنوب ممن يريدون للناس أن يرونهم في الجانب الصالح من الأمر. ولم يكن ينتظر من المعلنين بأعداده الأولى مالاً. فهو لا يرى بأساً في المقايضة. سألته كم دفع له الفندق الكبير على الصفحتين البهيتين في المجلة فقال لا شيء. "إنني انتظر يوم يأتيني ضيوف لشركتي أو المجلة فيسكنوا فيه بالمجان جزاءً وفاقاً". ولا أحسب أنه نال قرشاً على إعلانه لفندق الصفا. فلربما كان ذلك سداداً لفاتورة ندوة المجلة التي انعقدت في رحابه وفواتير أخرى علاوة على حسن الجيرة. وربما يذكر السلاوي أنني كنت اقول له سيطالنا الغنى لجنى الجنى من المجلة يوم تعلن عندنا شركة روثمان وساعات رولكس مما كنت أحدق فيه بحسد على صفحات مجلة "الحوادث" البيروتية. ولكن فرحة ما تمت.
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
أزمة حادة بين فرنسا والجزائر.. ماذا تعرف عن حرب الحقائب الدبلوماسية؟
نشرت مجلة "لوبوان" الفرنسية تقريرا تحدثت فيه عن قرار الجزائر بتعليق دخول الموظفين الفرنسيين المكلّفين بنقل الحقائب الدبلوماسية عبر المطارات الجزائرية.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن هذه الخطوة تُعدّ سابقة في تاريخ العلاقات المتوترة بين البلدين وتعكس مرحلة جديدة من التصعيد الدبلوماسي غير المألوف.
وتضيف المجلة أنه في أعقاب الخلافات المتكررة حول الإلزام بمغادرة الأراضي الفرنسية وتبادل طرد المؤثرين الجزائريين والموظفين الدبلوماسيين من كلا الجانبين، اندلعت مؤخرًا أزمة جديدة تُعرف بـ"حرب الحقائب الدبلوماسية".
وباتت العلاقات بين فرنسا والجزائر، التي كانت تمر أصلا بحالة من الجمود شبه التام اليوم أكثر هشاشة مع توقف تبادل المراسلات الدبلوماسية بين البلدين.
وانطلقت هذه الأزمة الجديدة يوم الخميس 24 تموز/ يوليو، مع إبلاغ السفارة الجزائرية في فرنسا وزارة الخارجية الفرنسية بسحب تصاريح الدخول إلى المطارات والموانئ الفرنسية من الموظفين الدبلوماسيين والقنصليين الجزائريين وذلك تنفيذًا للإجراءات التي اتخذتها وزارة الداخلية الفرنسية قبل ساعات قليلة فقط.
في إطار ما وصفه بـ"إستراتيجية الردّ التدريجي" تجاه السلطات الجزائرية؛ أصدر وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو تعليماته بتعليق بطاقات الدخول، التي تُمنح للممثلين الجزائريين المعتمدين في فرنسا، إلى المطارات ما يمنعهم من إرسال أو استلام ما يُعرف بـ"الحقائب الدبلوماسية".
انتهاك اتفاقية فيينا
وذكرت المجلة أنه ردا على ذلك استدعت الجزائر مساء السبت القائم بالأعمال في السفارة الفرنسية بالجزائر إلى مقر وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، في ظل غياب السفير ستيفان رومانيه الذي تم استدعاؤه إلى باريس في شهر نيسان/ أبريل الماضي.
وخلال لقاء وُصف بأنه ودي أعرب مدير إدارة الحصانات والامتيازات الدبلوماسية عن احتجاج السلطات الجزائرية الشديد على الإجراءات الفرنسية. وفي السياق نفسه؛ أُبلغ القائم بالأعمال في السفارة الفرنسية بالجزائر بقرار سحب فوري لكافة بطاقات الدخول إلى المطارات والموانئ الجزائرية الممنوحة لأعضاء السفارة والقنصليات الفرنسية في الجزائر، وذلك في إطار إجراء مُماثل وتطبيق لمبدأ المعاملة بالمثل.
وأكدت الجزائر احتفاظها بحق اللجوء إلى الهيئات الدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، للدفاع عن حقها في ضمان الحماية الكاملة لمهامها الدبلوماسية على الأراضي الفرنسية.
قرار سيء
وأفادت المجلة أنه في السادس من نيسان/ أبريل 2025، وبعد الزيارة القصيرة التي أداها وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى الجزائر، حيث استقبله الرئيس عبد المجيد تبون، اتفق الجانبان على استئناف الحوار تمهيدًا لبدء حلحلة الأزمة القائمة. لكن بعد أقل من أربعة أشهر، بات الحديث يدور عن إحالة الخلاف الدبلوماسي القائم إلى منظمة الأمم المتحدة، لتتولى دور الوسيط بين الشريكين التقليديين.
وبشكل عام؛ تُظهر هذه الأزمة تفاقم التوتر بين الجزائر وفرنسا بشكل غير مسبوق. ويتجلى ذلك في عدم تحدث عبد المجيد تبون و ايمانويل ماكرون، اللذين يصفان علاقتهما بالصداقة والثقة المتبادلة، هاتفيا غير مرة واحدة فقط منذ 14 حزيران/ يونيو 2024.
ويُشير خبير في العلاقات الفرنسية الجزائرية إلى أن "تعليق بطاقات الدخول إلى المطارات يعد قرارا خاطئا يحمل تداعيات سلبية على الفرنسيين والجزائريين بذات القدر".
وأضاف أن التأثير السلبي لهذا القرار يتفاقم لأنه يشمل فئات من الأشخاص لا تنتمي بالضرورة إلى الدوائر الدبلوماسية والقنصلية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحقائب الدبلوماسية، التي تم تقنين استخدامها في المادة 27 من اتفاقية فيينا بشأن العلاقات الدبلوماسية التي تم اعتمادها في نيسان/ أبريل 1961، تُعدّ عنصرًا أساسيًا في سير عمل وزارة الشؤون الخارجية وتواصلها مع باقي مؤسسات الدولة.
الوثائق المحمية بسرية الدفاع
وبحسب المجلة غالبا ما تُحيط الحقائب الدبلوماسية بهالة من الغموض والتكهنات، وتُختم هذه الحقائب بإحكام وتُنقل وتُسلم تحت إشراف قائد الطائرة أو السفينة.
وتحتوي هذه الحقائب على مذكرات وتقارير سرية للسفراء والموظفين القنصليين ورسائل مشفرة ووثائق محمية بسرية الدفاع وجوازات سفر فارغة وشهادات الميلاد وبطاقات الهوية وأدوية بالإضافة إلى مراسلات عملاء المخابرات والدفاع المعتمدين أو العاملين تحت غطاء في البعثات التي ينتمون إليها.
وبموجب المادة 27 من اتفاقية فيينا لسنة 1961 الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية، لا يجوز بأي حال من الأحوال مصادرة هذه الحقائب من قبل السلطات في البلد الذي أُصدرت منه أو تمر عبر أراضيه.
ونقلت الصحيفة عن سفير سابق عمل في عدة عواصم أوروبية أنه "في الدول التي تحرص على ضمان إحكام نقل الحقيبة الدبلوماسية بشكل كامل، يتم دائما إرسالها بمرافقة موظف مكلف بنقلها، وهو في الغالب عنصر أمني، بغض النظر عن الظروف".
وأضاف السفير السابق: "مع ذلك، في البلدان المرتبطة برحلات جوية، تُنقل الحقيبة الدبلوماسية عبر شركة الطيران التابعة للدولة المرسلة. يقوم موظف دبلوماسي وموظف أمني بمرافقتها إلى المطار وتسليمها شخصيًا إلى طاقم الطائرة، تحت مسؤولية قائد الرحلة".
وأوضح السفير السابق أيضاً أنه "عند الوصول، تُسلّم الحقيبة إلى مكتب وزارة الخارجية في المطار، حيث يقوم موظف مختص باستلامها مباشرة من طاقم الطائرة. هذه الإجراءات تضمن عملية نقل شبه خالية من الأخطاء".
وضع الثبات
وذكرت المجلة أن الحقيبة الدبلوماسية تشكل أداة الاتصال والنقل الكتابي الأساسية في سير العمل السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والثقافي لأي دولة. وظلّ مقر الحقيبة الدبلوماسية لفترة طويلة في طوابق القبو بوزارة الخارجية الفرنسية، في مكان يُطلق عليه "المخبأ"، قبل أن يتم نقله إلى موقع لا كورنوف، حيث تُستقبل وتُخزن الحقائب المرسلة من حوالي 300 بعثة دبلوماسية فرنسية حول العالم.
ورغم مساهمة تقنيات الاتصال الحديثة في تغيير كبير في طريقة استخدام الحقيبة الدبلوماسية، غير أن دورها لا يزال أساسياً ولا غنى عنه. وفي هذا السياق، قال دبلوماسي فرنسي: "لم ندرك بعد تماماً تبعات هذا الإجراء الذي اتخذته وزارة الداخلية. الأمر يحتاج إلى وقت لتقييم تداعياته والبحث عن سُبل ووسائل بديلة لنقل المراسلات خارج القنوات التقليدية المعتمدة".
وفي ختام التقرير نوهت المجلة بأن هذا التصعيد الجديد في إستراتيجية الرد التدريجي التي يتبعها برونو ريتايو يُشكّل خطّ فصل واضحًا بين وزارة الداخلية ووزارة الخارجية وقصر الإليزيه، إذ يبدو أن موقف الصرامة الذي يتبناه وزير الداخلية في إدارة هذه الأزمة يتفوّق حاليًا على نهج الحوار والتروي الذي تتبناه بقية أركان السلطة التنفيذية.