يمن مونيتور/ وحدة التقارير/ من محمد عبدالقادر اليوسفي

على أطراف حي الضربة وسط مدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، تقف أم سليم يوميًا عند زاوية حوش منزلها بقلقٍ مُرهق، تراقب الأفق بحثًا عن أي أثر لصهريج المياه المنقذ. مرّت خمسة أيام عصيبة منذ أن دَفعت 18 ألف ريال – ما يعادل نصف راتب زوجها الشهري – لتعبئة خزان منزلها بصهريجٍ لا تتجاوز سعته ألفي لتر.

تقول بصوتٍ يختلط فيه اليأس بالألم: “صرنا نُنفق على الماء ضعف ما نُنفقه على الطعام، لكن حتى هذه السلعة صارت سرابًا نطارده كل يوم”.

في المدينة التي نُعِتت يومًا بـ”عاصمة الثقافة اليمنية”، تتحول مشاهد الانتظار المُذِل خلف صهاريج المياه إلى روتين يومي، وسط أزمة متشعبة الأسباب: جفاف يضرب الأحواض المائية، واستنزافٌ جائر للآبار، وتقاعسٌ مؤسسي مُريب. بينما تُسجل أسعار المياه ارتفاعاتٍ جنونية، يغيب أي تدخل عاجل من الجهات الرسمية، وكأن حياة الآلاف وكرامتهم باتت رهينة سوقٍ سوداء تتحكم بها أيادٍ خفية.

ماء أم خبز؟.. معادلة البقاء المستحيلة

في حي البعرارة، يقطع علي حسن – عامل بأجر يومي وأب لأربعة أطفال – مسافة كيلومترين يوميًا حاملًا جرارات بلاستيكية فارغة.

وجهه المُتعب يختصر معاناةً جماعية: “أقضي ساعتين يوميًا لأملأ الجرار من خزان مدرسة مهجورة. إذا ذهبت للعمل، نحرم من الماء، وإذا جلبته، نفقد قوت اليوم”. كلماته لا تصف حاله وحده، بل حال آلاف الأسر التي تحوَّل الماء لديها إلى “هاجس وجودي” يُهدد استقرارها المعيشي.

تؤكد لميس الصوفي – إحدى سكان المدينة – أن الأزمة تجاوزت كل التوقعات: “وصلنا لمرحلةٍ كارثية. لا خدمات أساسية، ولا كهرباء، والماء صار سلعةً نادرة بأسعار خيالية”.

وتضيف في حديثٍ لـ”يمن مونيتور”: “خمسة آلاف لتر من الماء تُكلف الآن 40 ألف ريال، بعد أن كانت 20 ألفًا قبل أشهر. حتى المطر صار شحيحًا، وكأن السماء تشارك في حصارنا”.

من جانبه، يصف محمد الصبري من حي الجمهوري الوضع بأنه “حصار مائي مُتعمَّد”: “الماء أضحى أزمة كل بيت. نعيش تحت سطوة سماسرة الصهاريج، بينما الجهات الرسمية تتعامى عن معاناتنا”.

المدارس والمستشفيات.. ضحايا غير مباشرة

لا تقتصر الكارثة على المنازل، بل تمتد إلى المدارس والمراكز الصحية التي تتحول إلى مساحاتٍ مهددة بالأمراض بسبب انعدام المياه النظيفة.

في مدرسة “النهضة” التي تحوّل فناءها إلى نقطة تجميع للمياه – يقول مدير المدرسة: “التلاميذ يغيبون أيامًا بسبب أمراض الإسهال. كيف نُعلمهم تحت شمسٍ حارقة وهم عطشى؟”.

مؤسسة المياه: غيابٌ في لحظة مصيرية

رغم تفاقم الأزمة، تغيب مؤسسة المياه المحلية عن المشهد تمامًا. شبكة الأنابيب في أحياء “الحوض” و”الحصب” و”بئر باشا” – التي كانت يومًا مصدر فخر – تحوَّلت إلى هياكل صدئة.

يقول أحد السكان: “الأنابيب مجرد ديكور منذ سنوات. كأنها نصب تذكاري لعصرٍ كان الماء فيه حقًا، لا امتيازًا”.

عند محاولة التواصل مع مدير المؤسسة، لم يُجب على اتصالات “يمن مونيتور”. لكن مصدرًا إداريًا – طلب عدم الكشف عن اسمه – برر التقاعس بـ”انعدام الكهرباء والتمويل”. إلا أن مراقبين يُشيرون إلى أن هذه المبررات لا تُخفف من الجرم المزدوج: إهمال المؤسسة، وتواطؤها الضمني مع شبكات استغلال الأزمة.

المبادرات الدولية.. قطرة في محيط العطش

في ظل غياب الدولة، تحاول منظمات دولية تقديم حلولٍ ترقيعية، مثل توزيع خزانات أو صيانة آبار مجتمعية. لكن المهندس أحمد الصنوي – منسق مشاريع مياه سابق – يرى أن هذه الجهود “لا تُغطي 15% من الاحتياج الفعلي”.

وأضاف في حديثيه لتقريرنا: “المشكلة بنيوية. الاعتماد على الصهاريج خلق سوقًا سوداء يهيمن عليها المتنفذون، بينما يُدفع المواطن ثمن الفساد واللامبالاة”.

جفافٌ مناخي.. وحربٌ تُجفف الأرض

يربط الخبير البيئي عبدالكريم السبئي الأزمة بالتغير المناخي: “انخفضت معدلات الأمطار 60% خلال عقد، ما أدى لتناقص تغذية الخزانات الجوفية”. ويحذر: “تعز مُهددة بجفاف شامل خلال 5 سنوات إذا استمر الاستنزاف. نحن أمام خطرٍ وجودي”.

من جهته، يُحمِّل الصحفي بلال المريري أطراف الحرب مسؤولية استغلال المياه كسلاح: “الأحواض الشمالية تحت سيطرة الحوثيين، والآبار المتبقية ملوثة أو جافة بسبب التوسع العشوائي في زراعة القات”.

ويشدد على أن الحل الجذري يكمن في “تنفيذ مشروع محطة تحلية مياه البحر في المخا”، الذي جُمِّد بسبب الحرب.

الماء رفاهية.. والحياة انتظارٌ

وسط هذا المشهد، يبدو سكان تعز وكأنهم أمام خيارين مريرين: إما دفع نصف دخلهم لشراء الماء، أو الاستسلام لعطشٍ يهدد صحتهم وحياتهم. بينما تغيب خطط الإنقاذ، تترسخ قناعة بأن الماء – ذلك الحق الأساسي – صار هنا سلعةً تُقاس بالدماء، لا بالأموال.

و في المدينة ذات الكثافة السكانية العالية والتي طالما ناضلت من أجل البقاء، تُكتب الآن فصولٌ جديدة من المعاناة، حيث يُختزل الإنسان إلى مجرد ظمءٍ يسير على قدمين.

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: أزمة المياه الجفاف الحرب الحصار الحوثيون الماء اليمن تعز يمن مونيتور

إقرأ أيضاً:

“الأغذية العالمي”: المساعدات التي وصلت غزة منذ أيار أقل من احتياجات يوم واحد للسكان

#سواليف

قال #برنامج_الأغذية_العالمي التابع للأمم المتحدة، الأربعاء، إنه تمكن من إيصال 9 آلاف طن فقط من #المساعدات الغذائية إلى قطاع #غزة منذ 19 أيار/مايو الماضي.

وأشار البرنامج في منشور عبر منصة “إكس”، إلى أن هذه الكمية “تمثل أقل من احتياجات يوم واحد لكل فرد في القطاع المحاصر”.

وأوضح أنه مستعد لتوسيع نطاق عملياته الإنسانية في غزة، لكنه شدد على أن ذلك “يتطلب ضمانات للوصول الآمن وتحسين الظروف الميدانية”، حتى تتمكن فرقه من القيام بمهامها بفعالية.

مقالات ذات صلة طلاب العلمي يشتكون من صعوبة امتحان الرياضيات اليوم 2025/06/26

وتأتي هذه التصريحات في وقت يعاني فيه أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة من أزمة إنسانية خانقة، مع استمرار العدوان الإسرائيلي وتشديد الحصار الذي أدى إلى نقص حاد في الغذاء والماء والدواء.

وتواصل قوات #الاحتلال وبدعم أمريكي مطلق، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة أكثر من 188 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، بجانب مئات آلاف النازحين.

مقالات مشابهة

  • حدائق فنية تحت الماء.. “قاش” التركية وجهة للغواصين
  • نجحت في الحفاظ على انسيابية حركة الطيران والمسارات الجوية في ظل الأزمة.. أجواء المملكة تُسجل عبور 1330 رحلة طيران كمتوسط يومي خلال الأحداث التي شهدتها المنطقة مؤخرًا بزيادة تقدر بنحو 95%
  • حل أزمة مازوت البقاع في لبنان وعودة مهرجانات بيت الدين.. تفاصيل
  • “الأغذية العالمي”: المساعدات التي وصلت غزة منذ أيار أقل من احتياجات يوم واحد للسكان
  • “تريند الكركم” يثير الجدل في مصر.. جهة حكومية تحذر ومدونون: “حرام”
  • غزة تواجه كارثة مائية تهدد حياة أكثر من مليون مدني
  • جائزة الأمير طلال الدولية تخصص مليون دولار لدعم مشاريع “الحياة تحت الماء” في دورتها لعام 2024
  • “الفاو”: تغيرات مناخية تهدد الموسم الزراعي في اليمن وتفاقم أزمة الغذاء
  • نواب: تركيا تخوض “حرب مياه” تهدد حياة ملايين العراقيين
  • لجنة نيابية تطلق تحذيراً عاجلاً: أزمة المياه تهدد الأمن الغذائي