عذابات الروهينغا.. وجود غير قانوني وموت خارج الذاكرة
تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT
بورما- في ربيع 2025، وقف يومو رحمن على بوابة إحدى المدن الألمانية، لاجئا يحمل أكثر من حقيبة على كتفيه، ليس بها فقط ملابس الطريق، بل سنوات طويلة من الخوف والمطاردة والنكران، ولم يكن يهرب من قريته المحترقة فحسب، بل من حياة كاملة لم يُسمح له أن يكون جزءا منها.
ولد رحمن في ولاية أراكان غرب ميانمار (بورما) لعائلة روهينغية مسلمة، وكان ذلك كافيا ليسلبه الجنسية والاعتراف بوجوده، وكأن النظام القانوني بني خصيصا ليقول له "أنت غير مرئي"، فحين حلم بدراسة الطب، سُدّت الأبواب في وجهه، وعندما قرر الفرار، اعتُقل وضُرب وابتُز، ودُفع به نحو حياة أخرى لا تشبه إلا المعاناة.
وتعد قصة يومو مرآة لمأساة شعب الروهينغا بأكمله، قُدِّر له أن يولد في حالة "وجود لا قانوني"، وأن يعيش بين جدران صامتة لا تعترف بآدميته.
وإن كانت معاناة شعب الروهينغا ممتدة لعقود، فإن عام 2017 شكَّل نقطة تحول دموية، حين شنَّ جيش ميانمار حملة عسكرية واسعة النطاق ضدهم، وصفتها واشنطن عام 2022 بالإبادة الجماعية، إذ بلغ النزوح الداخلي أعلى مستوياته على الإطلاق، مع تهجير أكثر من 3.3 ملايين شخص داخل البلاد، وفقا لأرقام أممية.
وفي 2024، شهدت ولاية أراكان (راخين) تصاعدا حادا في الصراع المسلح بين جيش ميانمار ومليشيا محلية تُعرف باسم "جيش أراكان"، مما أدى إلى تفاقم معاناة الروهينغا الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين فكي كماشة: يُقتلون داخل الوطن، ويُطردون خارجه.
إعلانومن بين آلاف القصص التي تشبه حكاية يومو، ترصد الجزيرة نت في هذا التقرير خيوط المأساة المتشابكة، بدءا من واقع اللاجئين الروهينغا في المنافي المكتظة، إلى حال من بقي منهم داخل ميانمار، وصولا إلى الجرح الأعمق وهو وضعهم القانوني، الذي تحول من أداة تهميش إلى سلاح إبادة بطيئة.
من التزوير للتهريبفي عام 2017، فرَّ أكثر من 700 ألف من الروهينغا من ميانمار إلى بنغلاديش، حسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، هربا من حملة قمع عسكرية وصفتها الولايات المتحدة بأنها إبادة جماعية.
وكان يومو واحدا من هؤلاء، إذ قرر مغادرة بلدته في ولاية أراكان بعد تصاعد الهجمات، بدعم من والده الذي وعده بتأمين تكاليف الرحلة والدراسة، لينطلق في سبتمبر/أيلول مع شبان قريته باتجاه بلدة مونغدو قرب الحدود البنغلاديشية، لكنهم اعتقلوا خلال رحلتهم على يد جيش ميانمار، كما يقول للجزيرة نت.
وبعد دفع الشاب نحو 400 دولار أميركي، أُفرج عنه، بينما ظل مصير رفاقه مجهولا، ومن ثم لجأ إلى منزل أحد أقاربه في مونغدو، وبعد أسبوع من محاولات الخروج، تضمنها تزوير شهادة ميلاده، نجح في الوصول إلى مدينة شيتا غوينغ في بنغلاديش.
وهناك، التحق بقسم علم النفس في إحدى الجامعات البنغلاديشية، وتعلّم اللغة البنغالية، ويقول يومو "رغم اندماجي النسبي، فإني بقيت أحمل داخلي شعور الهوية المكسورة"، وهو ما دفعه لتأمين مستقبله باستصدار جواز سفر بنغلاديشي، كلَّفه جهدا ووقتا و250 ألف تاكا بنغلاديشية (2066 دولارا تقريبا).
فتح جواز السفر ليومو بابا جديدا، فحصل على منحة دراسية في تركيا، وتعلم اللغة ثم التحق بالجامعة، وبدا وكأنه يعيش حلما، لكن وفي سنته الثالثة انتهت صلاحية الجواز، ولم يكن بمقدوره تجديد الإقامة لفقده أوراقا رسمية تثبت هويته العائلية، وبات في وضع غير قانوني، وصار يعيل نفسه بالعمل بالخفاء وبمساعدات من والده.
إعلانوفي مارس/آذار الماضي، قرَّر يومو الهجرة -عن طريق التهريب- إلى أوروبا، بعد أن جمع 8 آلاف يورو من مدخراته، لكن رحلته كانت محفوفة بالمخاطر، حيث اعتقلته الشرطة في أثناء محاولته العبور إلى بلغاريا، وضربته قبل إعادته قسرا.
لكنه لم يستسلم، فجرّب طريق البوسنة، ثم المجر، حيث تكرر الاعتقال والضرب، لكنه نجح في الوصول إلى ألمانيا بعد محاولات عديدة، لتبدأ رحلة جديدة أقل قسوة، لكنها ما زالت بلا وضوح.
استقبلت بنغلاديش أكثر من مليون لاجئ روهينغي منذ 2017، ويعيش معظمهم في ظروف صعبة في مخيمات شديدة الاكتظاظ، في كوكس بازار وجزيرة باسان تشار.
ورغم أن الحكومة التزمت لسنوات بمبدأ "عدم الإعادة القسرية"، باعتباره حجر أساس في القانون الدولي، فإن هذه السياسة تغيرت مطلع عام 2025، ففي الخامس من يناير/كانون الثاني الماضي، اعتقل حرس الحدود البنغلاديشي 36 لاجئا في أثناء محاولتهم عبور الحدود وأعادوهم قسرا إلى ميانمار.
وتكررت حوادث مماثلة لاحقا، كان أبرزها احتجاز 58 لاجئا في 11 من الشهر ذاته، وفقا لصحيفة غارديان البريطانية، وحسب الصحيفة ذاتها، فقد صدرت تعليمات بمنع الدخول "غير القانوني" حتى لأسباب إنسانية، ورافق ذلك تضييق داخلي، تمثل في تقييد حركة اللاجئين، وتدمير مصادر دخلهم، وإغلاق المدارس غير الرسمية، مما أشاع شعورا بأنه لم يعد مرحبا بهم.
ولم تقتصر السياسات الصارمة على بنغلاديش، حيث وثقت "هيومن رايتس ووتش" حالات إعادة قسرية في الهند وتايلند أيضا، وفي مايو/أيار الحالي دان المقرر الأممي الخاص بميانمار توم أندروز الحكومة الهندية بعد أن أجبرت عشرات اللاجئين الروهينغا على النزول من سفينة تابعة للبحرية، وتركتهم في قارب صغير بالمياه الدولية، واصفا الحادثة بأنها "غير قانونية وغير أخلاقية"، واعتبرها امتدادا للفظائع المرتكبة بحق الروهينغا.
إعلان أحياء على الهامشبالقرب من مدينة بوثيدونغ في ولاية راخين، يعيش محمد سيان مع عائلته في مخيم داخلي للنازحين، حيث تستمر الحياة في إطار معاناة يومية لا تنتهي، إذ تفتقر هذه المخيمات إلى أبسط مقومات العيش، فلا كهرباء، ولا مياه نظيفة، ولا رعاية صحية أو تعليم. وبسبب غياب الوثائق الرسمية، يُمنع السكان من التنقل حتى داخل قراهم، ويواجهون خطر الاعتقال إذا خرجوا دون تصاريح.
يقول سيان في حديثه للجزيرة نت: "إذا تم القبض علينا ونحن نتنقل دون إذن، نعتقل فورًا، أما العمل الرسمي فمستحيل تقريبا بسبب عدم امتلاكنا وثائق قانونية، وهو ما يدفع كثيرين إلى القبول بوظائف مؤقتة بأجور زهيدة، أو الوقوع في فخ العمل القسري، كما أن الوصول للسلع الأساسية صعب، والأسعار باهظة، بالإضافة إلى أن المساعدات الإنسانية ممنوعة، فنضطر أحيانا للاعتماد على النباتات البرية للبقاء".
ويتابع "لكن كل ذلك يهون أمام مأساة الولادة والوفاة، فعند ولادة طفل، يصبح تسجيله رسميا شبه مستحيل، فالسلطات ترفض إصدار شهادات ميلاد، مما يدفع بعض العائلات لدفع رشاوى مقابل وثائق مزورة لا يعترف بها، بينما يعتمد آخرون على تسجيلات مجتمعية لا قيمة قانونية لها".
أما الموت، فليس أقل قسوة، كما يصف سيان، إذ "لا تصدر السلطات شهادات وفاة، وكل شيء يتم بطرق غير رسمية، والأسوأ أن جيش أراكان استولى مؤخرا على عدد من مقابرنا، مما يدفعنا للبحث عن أماكن بديلة لدفن أحبائنا، أو دفع المال للحصول على إذن مؤقت، وكأن الموت نفسه يحتاج إلى تصريح".
وفي ظل النزاع المستمر بين جيش ميانمار والجماعات المسلحة مثل "جيش أراكان"، لا وجود لسلطة ضامنة، ويجد المدنيون الروهينغا أنفسهم محاصرين، يقول سيان "غالبا ما يستخدمنا جيش أراكان دروعا بشرية، ويجبر الشباب على القتال في صفوفه، في حين يحاصرنا الجيش النظامي بالقيود والاعتقالات والحرمان من أبسط الحقوق".
إعلانويختم بقوله "الخوف لا يفارقنا، لا نعرف متى تبدأ الاشتباكات، أو من سيقتحم منازلنا في الليل، الجيش أم الجماعات المسلحة".
لكن حتى من قرروا الهرب من الجحيم، لم ينجوا من المصير القاسي، فقد أكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن ما لا يقل عن 569 شخصا من مسلمي الروهينغا لقوا حتفهم أو فُقدوا في أثناء محاولتهم الفرار بحرا من ميانمار أو بنغلاديش خلال عام 2023، وهو أعلى عدد مسجّل منذ عام 2014، إذ بلغ حينها 730 شخصا، وفق بيان رسمي.
وأضافت المفوضية أن تلك الحالات وقعت خلال محاولات عبور نحو 4500 شخص لبحر أندامان وخليج البنغال، في ظروف بالغة الخطورة، غالبا ما يواجه فيها اللاجئون الموت جوعا، أو غرقا، أو يقعون ضحايا مهربي البشر.
لم تكن مأساة الروهينغا وليدة الحروب وحدها، بل إن جذورها تمتد إلى البنية القانونية نفسها، ففي ميانمار، لم يكن القانون أداة لحماية الحقوق، بل تحوّل إلى وسيلة ممنهجة لنزع الاعتراف وفرض العزلة والإقصاء عبر سلسلة من القوانين، على رأسها قانون الجنسية لعام 1982، الذي جرّد الروهينغا من الانتماء الوطني ووُضعهم خارج منظومة الحقوق المدنية والسياسية.
وبما أن دستور ميانمار لا يعترف بهم بوصفهم جماعة من السكان الأصليين، فهم محرومون من الجنسية، ونتيجة لذلك، يُمنعون من امتلاك العقارات، ومن الالتحاق بالمدارس الثانوية، والمشاركة في الحياة السياسية والعسكرية.
بدورها، أشارت مفوضية اللاجئين إلى أن التشريعات القانونية تعد من الأسباب الجذرية التي تقف وراء اضطهاد الأقليات، إضافة إلى انعدام الإشراف المدني على الجيش، والخلل في النظام الديمقراطي، والإفلات من العقاب، وضعف حكم القانون.
وقد أدّت هذه العوامل مجتمعة إلى تعميق انتهاكات حقوق الإنسان في ميانمار، مع تحمّل النساء والفتيات العبء الأكبر بسبب العنف القائم على أساس النوع والعنف الجنسي.
إعلانوفي هذا السياق، تحججت الحكومة المؤقتة في بنغلاديش بهذه القوانين لتبرير رفضها استقبال اللاجئين الروهينغا، مؤكدة أنهم من سكان ميانمار ولا يجوز لهم عبور الحدود من دون وثائق رسمية.
ويشرح الخبير في الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان، كمال المشرقي، أن تشريعات ميانمار وضعت تصنيفا تمييزيا صارما للجنسية، لا يعترف إلا بمن ينتمي إلى واحدة من "135 قومية معترف بها"، وهو ما يُقصي الروهينغا.
ويضيف -للجزيرة نت- أن "القانون يشترط إثبات الإقامة في البلاد قبل عام 1823، وهو شرط تعجيزي وغير عملي"، ويرى أن هذه الممارسات تنتهك القانون الدولي، بما في ذلك المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية 1954 بشأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية، واتفاقية 1961 بشأن خفض حالات انعدام الجنسية، حيث يُحظر حرمان الأفراد من الجنسية تعسفيا.
لكن الأخطر -حسب المشرقي- أن وضع الروهينغا لا يندرج فقط تحت مفهوم "عديمي الجنسية"، بل يتعداه إلى ما يُعرف بـ"اللاوجود القانوني"، وهو غياب تام لأي اعتراف قانوني بوجودهم، وحرمان شامل من الوثائق والحماية والحقوق الأساسية.
وهذا على خلاف عديمي الجنسية، الذين رغم عدم تمتعهم بالجنسية قد يحصلون على بعض الحقوق كالخدمات التعليمية والصحية. أما الروهينغا فيواجهون محوا قانونيا لكيانهم الإنساني، وحرمانا من أي إمكان قانوني للتوثيق أو الحماية أو اللجوء.
يقول المشرقي إن السياسة المتبعة في ميانمار ضد الروهينغا يمكن أن تُصنّف قانونيا جريمة تطهير عرقي، نظرا لما تتضمنه من طرد قسري وتمييز منهجي وعنف موجّه ضد جماعة بعينها بهدف محو هويتها الجماعية.
كما يشير إلى أن الوقائع قد تندرج أيضا ضمن تعريف الفصل العنصري بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1973، في حال ثبت وجود نية مبيتة لإبقاء الروهينغا تحت سيطرة قانونية غير عادلة وحرمانهم من حقوقهم.
إعلان صراع الدين والهويةرغم أن أزمة الروهينغا تُقدَّم غالبا بوصفها "وجودا غير قانوني"، فإن جذورها أعمق وأكثر تعقيدا، إذ تتداخل الأبعاد القانونية مع خلفيات دينية وثقافية تمتد عبر قرون.
فوجود المسلمين الروهينغا في ولاية أراكان ليس طارئا ولا مستحدثا، بل تؤكد المصادر التاريخية أن الإسلام وصل إلى سواحل أراكان منذ القرن السابع الميلادي عبر التجار العرب، مما أدى إلى تشكُّل مجتمع مسلم مستقر يمتلك ثقافته المحلية وهويته الدينية المتميزة.
ورغم هذا الامتداد التاريخي، فإن الروهينغا يتعرضون لمحاولات ممنهجة لطمس وجودهم، من خلال استهداف هويتهم الدينية تحديدا، إذ يُنظر إليهم في الخطاب الرسمي والمجتمعي بوصفهم "أقلية مسلمة دخيلة" على النسيج القومي ذي الأغلبية البوذية، وهو ما أضفى على الاضطهاد طابعا دينيا عميقا، يتجاوز حدود النزاع العرقي والسياسي، حسب ما ورد في مجلة الدراسات العربية.
في هذا السياق، يقول سليم نور الأركاني، المدير التنفيذي لجمعية أراكان الإنسانية، إن المجتمع الروهينغي داخل ميانمار بات يعتمد على وسائل بدائية -ولكن فعالة- للحفاظ على هويته، حيث تُعلّم الأسر أبناءها اللغة الروهينغية شفهيًا داخل المنازل، وتُقام الحلقات الدينية لتحفيظ القرآن والحديث، وتُنقل الأغاني الشعبية والأمثال والعادات الاجتماعية في نطاق عائلي أو مجتمعي ضيق، غالبا ما يُمارَس في الخفاء تجنبا لبطش السلطات.
ويضيف الأركاني أن التحدي الحقيقي اليوم لا يقتصر على الداخل فقط، بل يمتد أيضا إلى الشتات، ففي مخيمات اللاجئين ببنغلاديش، وبين مجتمعات الروهينغا في السعودية وماليزيا وأوروبا، بدأت معالم الثقافة الروهينغية تتلاشى تدريجيا، لا سيما في صفوف الجيل الجديد، فالأطفال الذين نشؤوا في هذه البيئات يتحدثون غالبا بلغة البلد المضيف، ويتلقون تعليمهم وفق مناهج أجنبية، ويعيشون في مجتمعات لا تعرف شيئا عن تاريخ الروهينغا أو نضالهم.
إعلانويشير إلى أن العائلات في ماليزيا مثلا باتت تستخدم اللغة الماليزية أو الإنجليزية في الحياة اليومية، في حين تراجعت الروهينغية إلى مجرد "لغة الأجداد"، أما في السعودية، وبرغم وجود جالية روهينغية كبيرة، فإن كثيرا من الأبناء باتوا يتحدثون العربية بطلاقة، لكنهم يجهلون كثيرا من تراثهم الشفهي والديني.
ويحذر الأركاني -في حديثه مع الجزيرة نت- من أن هذا الانصهار الثقافي، رغم ما يوفره من فرص تعليم وانفتاح، يُنذر بخطر حقيقي، يتمثل في ضياع الذاكرة الجماعية، مما قد يؤدي إلى تهميش الرواية الذاتية للشعب الروهينغي، ويحولها إلى مجرد صفحة منسية في تقارير المنظمات.
أما في داخل ميانمار، فيؤكد أن التعليم كان ولا يزال جبهة مركزية في معركة الهوية، فمعظم أبناء الأجيال السابقة لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس الحكومية، بسبب غياب الوثائق الرسمية، وفي حالات نادرة، كانت بعض المدارس تقبل تسجيل أطفال الروهينغا بشرط التخلي عن أسمائهم الإسلامية، وتعلم اللغة البوذية، والمشاركة في الطقوس الدينية ضمن الأنشطة اللاصفية.
ويختتم الأركاني بأن هذا الإقصاء الممنهج دفع الأسر إلى تأسيس نظام بديل يُعرف بـ"الكتاتيب"، وهو تعليم ديني تقليدي يتعلم فيه الأطفال الحروف العربية، والقرآن، وبعض العلوم الإسلامية، مما جعله خط الدفاع الأخير في معركة الحفاظ على الدين والهوية.
وما يريده الروهينغا -بحسب من قابلتهم الجزيرة نت- ليس أكثر من حقهم في العودة إلى ديارهم بسلام وكرامة، عودة لا تُنقص من إنسانيتهم، ولا تحرمهم من حقوقهم القانونية والثقافية والدينية.
وتبدأ مطالبهم من استعادة جنسيتهم الكاملة، وإلغاء قوانين التمييز، ومحاكمة المسؤولين عن ظلمهم، إذ إنهم يطلبون فرصة للحياة بوصفهم أشخاصا متساوين، لا مواطنين من الدرجة الثانية أو لاجئين في وطنهم، مؤكدين أن هذه ليست مجرد مطالب سياسية، بل هي حق أساسي لكل إنسان، وأمل يرفضون التخلي عنه رغم كل الألم والمعاناة.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات اللاجئین الروهینغا ولایة أراکان الروهینغا فی جیش میانمار غیر قانونی جیش أراکان فی ولایة أکثر من وهو ما إلى أن
إقرأ أيضاً:
السينما الوثائقية..نافذة حيوية توثّق الذاكرة الوطنية وتعرض تحولات المجتمع العُماني
صنّاع الأفلام الوثائقية: نقل القصص المحلية إلى منصات إقليمية وعالمية برؤية فريدة -
تعد السينما الوثائقية في سلطنة عُمان أكثر من مجرد تسجيل للواقع؛ إنها وسيلة فنية وفكرية تسهم في بناء الوعي، وتشكيل صورة الوطن في أذهان أفراده. وكلما التقطت العدسة المزيد من التفاصيل أصبحت الهوية أوضح، والتاريخ أعمق، والمستقبل أكثر ارتباطًا بالجذور. وتعد السينما الوثائقية من أبرز الأدوات البصرية التي تسهم في توثيق الحياة اليومية، وتسليط الضوء على ملامح الهوية الثقافية والمجتمعية العُمانية.
بين الحارات القديمة والجبال الشاهقة، وبين الحِرَف التقليدية والحكايات الإنسانية تجد عدسة الوثائقي ما يستحق أن يُروى ويُحفظ. في الوقت الذي يشهد فيه المشهد الثقافي في سلطنة عُمان تطورًا لافتًا تبرز السينما الوثائقية كإحدى الوسائل الفنية المهمة التي تسهم في توثيق وتسجيل موروث الشعب العُماني في صورة بصرية قريبة من الواقع؛ فالكاميرا لم تعد تقتصر على التصوير السياحي أو المناسبات، بل أصبحت أداة تحكي القصص، وتوثّق البيئات، وتحفظ الهوية.
يأتي تعريف السينما الوثائقية بأنها فن سينمائي يوثّق الواقع والحقائق التاريخية أو العلمية أو الاجتماعية من خلال لقطات حقيقية؛ لتسليط الضوء على قضايا أو موضوعات معينة بغرض تثقيفي أو تأريخي مع الأخذ في الاعتبار أن كل فيلم وثائقي هو وجهة نظر المخرج للحياة الواقعية.
وفي سلطنة عُمان كانت بدايات السينما متواضعة؛ إذ بدأت السينما بالأفلام الوثائقية كما كان الحال في البدايات الأولى للتصوير في سلطنة عُمان منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي؛ حيث كانت وثائقية أيضًا، وقد افتتح بها تلفزيون سلطنة عُمان بثّه، وهو لا يزال يعوّل على الفيلم الوثائقي القصير، ويعتمد عليه في توثيق الحياة الاجتماعية والسياسية والتجارية والصحية وغيرها من الأنشطة الحيوية والتنموية.
واقتصر الوجود السينمائي على بعض دور العرض التي كانت تعرض الأفلام الأجنبية دون وجود إنتاج سينمائي محلي يُذكر. ومع مرور الوقت، وبدعم من المؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة بدأت تظهر محاولات لصناعة أفلام عُمانية قصيرة تركز على قضايا المجتمع المحلي، وتُبرز البيئة والثقافة العُمانية. كما شهدت السينما العُمانية تطورًا تدريجيًا، خاصة مع تنظيم مهرجانات سينمائية محلية ودولية، مثل مهرجان مسقط السينمائي الدولي الذي أسهم في تشجيع المواهب العُمانية الشابة على دخول هذا المجال، كما أسهمت المبادرات التعليمية والحلقات التدريبية في المدارس والمؤسسات الأكاديمية في بناء جيل جديد من المخرجين والكتّاب والمصورين الفوتوغرافيين.
حكايات من وراء الكاميرا
وتشير آراء فنية إلى أن السينما الوثائقية تؤدي دورًا محوريًا في حفظ الذاكرة الوطنية، وتقدم عُمان من منظور إنساني وثقافي للعالم، خاصة مع تطور أدوات الإنتاج، وانتشار المنصات الرقمية التي ساعدت صانعي الأفلام على الوصول إلى جمهور محلي ودولي.
وعن عالم السينما الوثائقية يقول أنور بن خميس الرزيقي مخرج أفلام ونائب رئيس الجمعية العُمانية للسينما: دائمًا في السينما الوثائقية نسعى للموازنة بين أهمية الموضوع وجاذبية الجمهور؛ إذ إن موضوع الفيلم هو الأساس سواء كان قضية مهمة أو فكرة مثيرة. وهذا ما يمنح الفيلم قيمته، ولكنه وحده لا يكفي لجذب الجمهور؛ لذا فإن التوازن يتحقق من خلال طريقة السرد في الفيلم التي يجب أن تكون ممتعة ومؤثرة مع الاهتمام بجودة التصوير، والصوت، وإيقاع الفيلم. وإذا كان الفيلم روائيًا يضاف إلى ذلك الأداء التمثيلي الذي يعزز قوة الموضوع.
وأضاف الرزيقي: الفيلم الوثائقي ليس كغيره من الأفلام؛ فهو نوع من السينما القائم على تقديم الحقائق وتوثيق الأحداث، لكن ذلك لا يتعارض مع السرد الفني، ومن حق صانع الفيلم أن يتبنى وجهة نظره ويعرضها داخل العمل شرط أن يقدمها برؤية فنية ممتعة وشفافة. هذا المزج بين الحقيقة والفن يعطي قيمة أكبر للفيلم الوثائقي، وربما ستصبح الأفلام الوثائقية مستقبلًا أقرب إلى الدراما في بعض الجوانب؛ وذلك لأن الجمهور أصبح معتادًا على أسلوب السرد المشوّق، ولكن تبقى للأفلام الوثائقية خصوصيتها؛ فهي تحترم الواقع وتعكس الحقيقة أولًا، ويمكن توظيف مشاهد درامية لإبراز قضية الفيلم أو موضوعه بشكل أوضح، لكن الهدف يظل دائمًا إيصال الحقيقة وليس تغييرها.
ومن جانب آخر يتحدث سعيد بن سليمان الوهيبي أمين سر الجمعية العُمانية للسينما عن السينما الوثائقية العُمانية قائلًا: السينما الوثائقية في سلطنة عُمان اليوم أصبحت أقرب لروح الإنسان العُماني؛ لأنها تروي قصصه، وتوثّق تفاصيل حياته، وموروثه الثقافي العريق؛ فهي ليست مجرد أفلام، بل ذاكرة حيّة تحفظ حكايات الأجداد وتجارب الحاضر؛ لتصل إلى الأجيال القادمة بأسلوب فني راقٍ يلامس المشاعر، ويحافظ على هويتنا العُمانية، وينقلها للعالم بصورة ملهمة وجميلة. والسينما الوثائقية تتميز بأنها قريبة من الحقيقة والإنسان؛ فهي لا تكتفي بسرد القصص، بل تنقل الواقع كما هو، وتوثّق الأحداث والتجارب بأسلوب صادق وعميق. ومن خلال ذلك تصبح رسالة موجهة إلى الثقافات الأخرى؛ لتعريف العالم بمضمون الثقافة والهوية الفريدة لكل بلد، وإبراز قصصه وقيمه بأسلوب فني راقٍ. فهي تحمل قيمة توثيقية وتاريخية، تحفظ الموروث والذاكرة الجماعية، وتفتح نافذة للحوار والتفاهم بين الشعوب؛ لتكون أكثر من مجرد وسيلة للترفيه، بل جسرا يربط القلوب والثقافات. وعندما يرى المشاهد حكاية حقيقية فيها مشاعر وصور حيّة، يكون تأثيرها عليه أعمق من أي خطاب أو مقال. وهذا النوع من الأفلام في السلطنة يسلط الضوء على قضايا منسية؛ لتخلق تعاطفًا، بل حتى تحرك المجتمعات نحو التغيير.
ويضيف: في كثير من الأمثلة عالميًا وإقليميًا أفلام وثائقية أسهمت في تعديل قوانين، وحماية بيئة، وحتى رفع أصوات فئات مهمشة؛ لأنها لا تنقل المعلومة فحسب، بل تلمس القلب والعقل معًا، وتجعل المشاهد يعيش القصة بدلًا من سماعها.
الوثائقي في ميزان الجمهور
يرى متابعون أن تعزيز هذا النوع من السينما يتطلب رؤية استراتيجية تشمل التعليم، والتمويل، والتوزيع، والترويج؛ حتى تظل العدسة العُمانية قادرة على توثيق الواقع بكل صدق وجمال، وأن هذه العدسة التي تتجوّل بين تفاصيل الحياة العُمانية لا تنقل فقط مشاهد، بل تُنتج وعيًا بصريًا وثقافيًا يسهم في حفظ الذاكرة الوطنية.
وهكذا جاءت آراء عدد من المهتمين بالسينما الوثائقية في سلطنة عُمان متفاوتة بين الحماس والإعجاب، والدعوة إلى دعم أكبر لهذا النوع من الفن.
يقول محمد بن منصور السلماني: ما جذبني لهذا النوع من السينما هو أن الفيلم الوثائقي صادق ومصداقي وبعيد عن التمثيل؛ إذ أرى أن كل لحظة في الفيلم الوثائقي هي واقعية وحقيقية، وتنقلني لعالم مختلف تمامًا لم أكن بدراية عنه لولاها؛ إذ تجعلني أتأمل أكثر وأفهم الحياة من زوايا متنوعة. وسبق أن غيّر الفيلم الوثائقي نظرتي لمواضيع معينة؛ إذ أكثر من مرة شاهدت أفلامًا وثائقية كشفت لي حقائق صغيرة، لكن تأثيرها كان عليّ كبيرًا؛ فهي تجعل المشاهد يعيد حساباته، ويوسع مداركه. على سبيل المثال؛ بعض الوثائقيات عن البيئة جعلتني أنتبه لتفاصيل كنت مهملها في حياتي اليومية.
وأردف قائلًا: أنا كمشاهد ما أفضله في الفيلم الوثائقي هو توازن السرد البسيط مع صور حقيقية أو أرشيفية؛ فهذا يعطيني شعورًا بأن القصة ملموسة وواقعية. والموسيقى أيضًا إذا استُخدمت بذكاء ترفع من الإحساس، وتجعل المشاهد يعيش اللحظة. وأنا كمشاهد للأفلام الوثائقية، هناك بعض المواضيع التي أتمنى رؤيتها في السينما الوثائقية مستقبلًا، مثل قصص عن أناس عاديين، ولكن حياتهم مليئة بالقصص الملهمة، وأيضًا عن تاريخ الأماكن القديمة والبحر والجبال، وكل ما يرتبط بالهوية والثقافة العُمانية، بالإضافة إلى القضايا المعاصرة عن الشباب في المجتمع. ولكن هناك قضايا كثيرة أهم وأحق أن تُعرض في السينما الوثائقية، مثل التغيرات الاجتماعية، وعلاقة الأجيال بالتراث، والتحديات البيئية مثل الماء والمناخ، وأيضًا قصص الناس الذين أسهموا في بناء هذا البلد في مختلف المجالات.
وقال هيثم بن سيف المعولي ممثل أفلام سينمائية: السينما الوثائقية تعد من أكثر الأنواع الفنية تأثيرًا؛ لأنها تقدم سردًا حقيقيًا يبين الحقائق والقصص الواقعية، وتعطي الفرصة للجمهور للتفاعل مع مواضيع تهم المجتمع وتزيد الوعي. أنا أتابع هذا النوع من الأفلام بانتظام؛ لأنني أرى فيها عمقًا ورؤية جديدة عن العالم الذي حولنا. والتمثيل هو جزء لا يتجزأ من الفيلم الوثائقي، خصوصًا إذا كان الهدف منه هو إعادة تمثيل أحداث تاريخية أو تجارب شخصية، لكن لا بد أن يكون الممثل حذرًا؛ لكيلا يتعارض مع روح الوثائقي الذي يعتمد على الواقعية. كما أن التوازن بين التمثيل والواقع هو المفتاح للحفاظ على مصداقية العمل.
ويضيف: صحيح أن العناصر الدرامية ممكن أن تساعد في جذب الجمهور، لكنها ليست دائمًا ضرورية؛ فقوة المحتوى غالبًا ما تكون كافية لجذب الانتباه. ولكن في الوقت ذاته تقديم القصص بطريقة درامية ممكن أن يعزز تأثيرها، ويجعلها أكثر جذبًا للجمهور. وأنا الآن ممثل، ولكن إذا جاءتني فرصة لاختيار موضوع فيلم وثائقي فسأختار إنتاج فيلم وثائقي عن قضايا التغير المناخي وتأثيره على المجتمعات؛ لأني أرى أن هذا الموضوع يحتاج أن يُسلط الضوء عليه أكثر، لأنه يؤثر على مستقبلنا جميعًا. وإلقاء الضوء على قصص الناس الذين يعيشون في مناطق تعاني من آثار التغير المناخي ممكن أن يكون مؤثرًا وملهمًا.
وتشارك أروى بنت علي بن صالح السنيدية في هذا الحديث حول السينما الوثائقية العُمانية بقولها: الوثائقي العُماني دائمًا يشدني؛ كونه يقدم الواقع العُماني بشكل أعمق وبشكل فني يكون أقرب للقلب؛ إذ إن الدمج الذكي بين عناصر الفيلم الوثائقي من سرد وصور أرشيفية وموسيقى يعطي دوره وطابعه على الفيلم. فمثلًا السرد يعطي العمق، والصور الأرشيفية تربطك بالتاريخ، والموسيقى ترفع من التجربة ما يعني أن التوازن بينهم هو الذي يصنع الأثر. فالتاريخ العُماني الحربي، والبحر، والجبال تعد جزءًا من الهوية الوطنية، كذلك قصص حقيقية من التراث الشعبي تُقدَّم بروح عصرية من المواضيع الشيقة التي لا بد أن تُعرض كفيلم وثائقي.
وقال أحد الشغوفين بالسينما الوثائقية وليد بن سالم الدرعي: الجمهور له ذائقته الخاصة في العديد من الفنون، ولكن في السينما ما يجذبهم هو القصة الواقعية والأحداث المثيرة والتصوير الإبداعي. وكما يعلم جميع المهتمين بالأفلام الوثائقية أن بعض الأفلام ممكن أن تترك أثرًا كبيرًا وتأثيرًا على المشاهد. كما أنه قد يغيّر نظرته تجاه بعض المواضيع؛ وذلك بفصل السرد للحياة النمطية في المجتمع العُماني، والموسيقى التي تتناسق مع السرد؛ وذلك لأن توصيل الرسالة بطريقة الحياة المجتمعية سيبهر صناع الأعمال في استخراج الفكر السينمائي، وبالتالي ستُتيح الفرص في الإخراج للأعمال الجميلة والإبداعية.
التحديات
يقول رئيس الجمعية العُمانية للسينما محمد بن عبدالله العجمي: رغم قلة الموارد وصعوبات الإنتاج، إلا أن هناك جيلًا من المخرجين العُمانيين الشباب الذين اختاروا الفيلم الوثائقي كمسار فني وثقافي. بعضهم تلقى تدريبًا محليًا في حلقات عمل ومراكز ثقافية، وآخرون تعلّموا بأنفسهم من خلال الممارسة والمشاهدة. وأنا أرى أن المخرجين العُمانيين اليوم يذهبون إلى مواضيع قريبة من الناس وملامسة لروح المكان؛ حيث نجد الكثير من الأفلام التي تستكشف الهوية العُمانية بعمق، من قصص التراث البحري وحياة الصيادين إلى الحكايات الجبلية والموروث الشعبي في القرى النائية. هناك أيضًا اهتمام متزايد بموضوعات البيئة والتغير المناخي، وقصص الشباب وريادة الأعمال، وحتى التحولات الاجتماعية التي نعيشها مع التطور السريع. هذا التنوع يعكس كيف أن السينما الوثائقية أصبحت مرآة حقيقية للمجتمع، ووسيلة للتعبير عن تفاصيل حياتنا اليومية. ولكن في الوقت ذاته لا نخفي أن هناك عدة تحديات نعمل جميعًا على تجاوزها أبرزها محدودية التمويل، وقلة المنصات المتخصصة لعرض الأفلام الوثائقية ما يجعل بعض الأعمال الرائعة لا تصل للجمهور كما تستحق. كذلك نحتاج إلى فرص تدريب أكثر تقدمًا في مجالات التصوير والمونتاج والصوت؛ حتى نرفع المستوى الفني ليواكب التطور العالمي. وأحيانًا تشكل الجغرافيا تحديًا أيضًا؛ فالوصول إلى مواقع تصوير نائية يتطلب جهدًا ودعمًا لوجستيًا كبيرًا.