كل صباحٍ تستيقظ أنسام محمد (اسم مستعار) على أمل واحد، أن يصلها خبر. خبرٌ صغير، رسالةٌ مقتضبة، أو حتى إشعار هاتفي يعيد إليها شيئاً من حياةٍ توقفت منذ السابع من أكتوبر 2023، حين غادر زوجها البيت ولم يعد. منذ ذلك اليوم، وهي لا تعرف إن كانت زوجة شهيد، أم زوجة أسير، أم ببساطة امرأة علّقت حياتها على سؤال لا جواب له: "ما مصيره؟"

في ركن من منزل أنسام، يحتل الهاتف مكاناً لا يغيب عن عينيها، تنتظر منه ما تأخر، وتصارع يوماً بعد يوم صوتاً داخلياً يهمس: "ربما لن يعود".

لكن صوتاً آخر، أقوى وأكثر عناداً، يردّ: "بل سيعود، لابدّ أن يعود."

ثلاثة أطفال يُربّون الحنين في غياب والدهم. أكبرهم، حين وصفه أحدهم في الشارع بـ"اليتيم"، عاد للبيت وهو يعلن أن والده شهيد. صفعته أنسام، لا غصباً منه بل رفضاً لفكرة الموت، وعادت لتغمره باكية: "بابا مسافر... مش ميت."

أنسام لا تعيش الحداد، بل تعيش الانتظار. وبين نظرات الشفقة، أو التهكم، أو حتى "النصيحة" بالزواج من جديد، تبقى هي كما هي: زوجة رجل لا تعلم إن كان في عداد الشهداء أم المعتقلين.

هكذا تبدأ يومها: بين وجع الغياب، ومرارة الأسئلة، ورفض التصديق، في قصة من آلاف القصص التي لم تُختم فصولها بعد... في غزة ، حيث لا ينتهي الفقد، ولا يُقفل باب الرجاء...

حين تسأل أنسام نفسها: "لماذا لا يُصدقني أحد؟"، لا تجد إجابة تقنعها سوى أن الناس تعبوا من الأمل... وهي وحدها من لم يسمح لليأس أن يقيم في قلبها.

وتلك ليست القصة الوحيدة. ففي بيت لاهيا، تروي مها - زوجة شاب اختفى أثناء الاجتياح الأخير - بصوت مرتجف: "آخر مرة شافوه فيها، كان في الشارع العام، قالوا الجنود اعتقلوه... بس ناس تانيين حلفوا إنهم شافوا الدبابة تدعس جسمه."

بين روايتين متناقضتين، تعيش مها في العراء. لا جسد لتبكيه، ولا اسم في قوائم الأسرى، ولا قبر يمكن أن تزوره في الأعياد. "أنا مطلقة من الحياة... لا زوجة ولا أرملة"، تقولها وتغالب دموعًا تراكمت منذ شهور.

هذا النوع من الغياب لا يمنحك امتياز الحزن المكتمل، ولا شرف الشهادة. إنه فراغ مُعلّق يجعل من كل دقيقة انتظارًا مستنزفًا.

وتتضاعف القسوة حين تضاف مسؤولية الأطفال، والأسئلة اليومية التي لا تنتهي. "وين بابا؟" يسأل الطفل، ولا تملك الأم سوى أن تخترع قصة جديدة، كل مرة، تحفظ شيئًا من الأمل، ولا تصدم طفولته بحقيقة مُعطّلة.

خارج هذه البيوت، وبين الأزقة والخيام، يعيش الناس على لحظات تُشبه المعجزات: لحظة أن يُفرج الاحتلال عن معتقل من غزة، فيحمل معه، ربما، معلومة عن المختفين الآخرين.

فمنذ بداية الحرب، لم يُسمح لأي منظمة حقوقية بزيارة معتقلي غزة في سجون الاحتلال. اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقدّمت مرارًا بطلبات للزيارة، لكنها جوبهت بالرفض. لم تتلقِ العائلات شيئًا: لا صورة، لا رسالة، ولا حتى رقم ملف.

في أوائل مايو 2025 فقط -أي بعد سنة ونصف تقريبًا من بدء الحرب والاختفاء- سمح الاحتلال لمحامين من هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير بزيارة قسم "ركيفت"، أحد أقسى أماكن الاحتجاز، تحت سجن الرملة.

خرج المحامون بشهادات صادمة: تعذيب جسدي ونفسي، حرمان من الصلاة، مراقبة بالكاميرات، تهديدات بالقتل. أحد المعتقلين قال: "ركيفت مش سجن، هذا قبر ما بيدخلوه إلا للموت البطيء."

ولا تقتصر الانتهاكات على "ركيفت" وحده؛ فهناك سجون وأماكن احتجاز أخرى، كثير منها غير شرعي، مثل الموقع العسكري "سيديتمان"، حيث يُحتجز الأسرى في ظروف لا تقل قسوة، بعيدًا عن أي رقابة قانونية أو إنسانية.

ورغم هذا، فإن الأمل في أن يحمل هؤلاء المعتقلون معلومات عن مختفين آخرين، جعل كثيرًا من العائلات تنتظرهم كما لو أنهم رسلٌ من المجهول.

في الأرقام، الحكاية أكثر اتساعًا، وأكثر ألمًا. التقديرات تشير إلى أكثر من 14 ألف مفقود في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. ما بين 2000 إلى 3000 منهم يُعتقد أنهم محتجزون قسرًا في السجون الإسرائيلية.

تشير التقديرات إلى أن أكثر من 10,000 شخص ما زالوا عالقين تحت أنقاض المباني، وفي محيط المرافق الطبية، وتحت الرمال المتراكمة في الطرقات. ويُعزى تعذّر الوصول إليهم إلى النقص الحاد في المعدات الهندسية الثقيلة ووسائل الإنقاذ المتخصصة، ما أدى إلى إبطاء عمليات الإخلاء والانتشال بشكل كبير.

في ظل هذه المعطيات، أصبحت جهود الإنقاذ محدودة النطاق وتستغرق فترات زمنية طويلة قد تمتد من أيام إلى سنوات، وفقًا للقدرات المتاحة على الأرض.

في ظل هذه الغيوم الثقيلة، تقف المرأة في غزة معلّقة بين واجبها الإنساني، والتزامها الشرعي، والمجتمع الذي يطلب منها أن "تمضي قُدمًا".

لكن أين تمضي وهي لا تعرف إن كانت حرة، أم أرملة، أم مجرد اسم في خانة "الزوجات المعلّقات"؟

الشيخ عبد الباري خلة، أحد أبرز المختصين في الفقه الإسلامي في غزة، أوضح أن الزوجة ملزمة بالانتظار أربع سنوات قبل اعتبار زوجها متوفى، ما لم يصدر حكم قضائي موثوق. وبيّن أن الزواج قبل ذلك باطل، ولا ينعقد شرعًا إلا إذا ثبتت الوفاة بشهادة أو تقرير موثوق.

وفي حال عاد الزوج بعد زواج زوجته بآخر، فإن زواجها الثاني يُفسخ فورًا، وتُخيّر بين العودة لزوجها الأول أو الانفصال.

أما على المستوى القانوني، فأوضح منذر الفراني، أن المرأة تظل زوجة في نظر القضاء طالما لم تصدر المحكمة الشرعية حكمًا بإثبات الوفاة. وأضاف أن من حقها رفع دعوى بعد سنة على الغياب في حالة الحرب، لكن دون ذلك، تبقى بلا ميراث، وبلا تركة، وبلا يقين.

وهنا تتجلى معاناة لا تتحدث عنها الأوراق الرسمية.

المختصة النفسية في مركز شؤون المرأة أماني أهل، التي عايشت نساء كثيرات من هذه الفئة، تصف حالتهن بأنها "أشد حالات الهشاشة النفسية التي يمكن تخيّلها".

فهن يعانين من اضطراب ما بعد الصدمة، اكتئاب عميق، وعزلة اجتماعية خانقة. أماني تشير إلى ضرورة إشراك الأطفال في معرفة الحقائق حول مصير والدهم وتحديثات أخباره، بما يتناسب مع أعمارهم، لتجنب الصدمة المتكررة.

وتؤكد احتياج هؤلاء النسوة إلى دعم نفسي طويل الأمد، اللواتي خضع بعضهن لـ18 جلسة علاج، والبعض الآخر وجد في "العلاج مع الأقران" (مجموعات دعم جماعي) طوق نجاة مؤقت.

رغم هذا، لا يزال المجتمع يلوم أنسام ومها وغيرهن، كما لو أن الحب ضعف، أو الوفاء عبء، أو الانتظار جنون.

وفي المساء، حين تعود أنسام من جلسة علاج جماعي، ت فتح هاتفها كما تفعل كل ليلة، وتقرأ الرسالة ذاتها للمرة الألف.

تضع الجهاز قرب وسادتها وتغفو، تحلم فقط بلمسة... أو برقم مجهول يظهر فجأة على الشاشة، ليعيد ترتيب الحكاية كلها من جديد.

ملاحظة : هذا النص مخرج تدريبي لدورة الكتابة الإبداعية للمنصات الرقمية ضمن مشروع " تدريب الصحفيين للعام 2025" المنفذ من بيت الصحافة والممول من منظمة اليونسكو.

المصدر : وكالة سوا - سعيد اسليم اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين ثلاثة أسرى في سجن "جلبوع" يعانون أوضاعا صحية حرجة الاحتلال يوسع عمليات التجريف والتدمير داخل مخيم جنين الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حاجز الحمرا الأكثر قراءة معاناة نزوح جديدة: الجيش الإسرائيلي يُحذّر بإخلاء مناطق واسعة في خانيونس سموتريتش: لا مساعدات لغزة إلا بالحد الأدنى وسندمّر ما تبقى من القطاع إسرائيل تُصادق على إقامة جدار على الحدود مع الأردن مستوطنون يعتدون على منازل المواطنين في بروقين غرب سلفيت عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

المصدر: وكالة سوا الإخبارية

كلمات دلالية: فی غزة

إقرأ أيضاً:

البراءة لأربعيني من تهمة تزوير حكم بالطلاق للاستفادة من منحة

برّأت محكمة الجنايات الابتدائية بالدار البيضاء اليوم الأحد، المتهم الموقوف “خ.محمد” من جناية التزوير في محررات رسمية. بعدما طالبت النيابة العامة في حقه بتوقيع عقوبة السجن المؤبد وغرامة مالية قدرها 100 مليون دج.

ويتعلق الحكم القضائي محل الجريمة بدعوى طلاق بين زوجة أب المتهم الحالي المسماة ” ب.عواوش” وطليقها ” ز.عز الدين”. الذي تم تزويره كحيلة لتمكين زوجة والده بغرض الاستفادة من منحة أرملة شهيد بأثر رجعي. وهذا بتواطؤ محامي الذي كان وقتها يشتغل في نفس المؤسسة التي يعمل بها المتهم في قضية الحال.

ومثل المتهم أمام هيئة المحكمة لمعارضة حكم غيابي صادر في حقه ، حيث تمسك في الجلسة بإنكار كل ما نسب إليه من تهم ووقائع، مؤكدا بأنه لم يساعد زوجة أبيه للاستفادة من منحة أرملة شهيد. باعتباره وقتها كان في خلاف عائلي معها، مؤكدا أنه ليس له أي مصلحة شخصية أو منفعة لمساعدتها. بحكم أنه كان وقتها عامل في مؤسسة خاصة، ويتقاضى أجرا محترما.

كما نفى المتهم تواطئه مع المحامي ” ب.” نفيا قاطعا، أو تنقّله معه إلى منطقة الاخضرية أين تم تزوير الحكم بعد سحبه من طرف نفس المحامي. أو حتى مرافقة زوجة والده “ب.عواوش” إلى محكمة حسين داي سنة 2005.

وفي تصريحات أخرى للمتهم لدى مواجهته مع النيابة العامة أنكر حتى علاقته بالمحامي ” حدادي” الذي وكلته زوجة والدته للتكفل بإجراءات الاستفادة من منحة أرملة شهيد بأثر رجعي.

الجلسة تكشف تفاصيل كثيرة

كشفت جلسة المحاكمة أن تفجير القضية تمّت على يد أمين الخزينة العمومية بولاية الجزائر. الذي اكتشف شبهة تزوير في حكم صادر عن قسم شؤون الأسرة لدى محكمة حسين داي. حيث لفت انتباهه وجود اختلافات طفيفة بين الحكمين الأول “محل التزوير ” الذي صدر بتاريخ 7 مارس 1990. والحكم الثاني الصادر بتاريخ 26 ديسمبر سنة 2005.

وعليه تمّ مراسلة محكمة حسين داي فكان رد الأخيرة فب مراسلة أخرى لتؤكد ضمنها أن الحكم الأول في دعوى الطلاق بين المسماة ب.عواوش” و” ز.عز الدين” صدر بتاريخ 7 مارس 2005. حيث تم التأكيد أن كلا الحكمين صادرين من قسم شؤون الأسرة بنفس المحكمة لكن الاختلاف طرأ في الختم الخاص بالقاضي “بوراس سليمة”. حيث أن الأخيرة لم تكن تزاول عملها سنة 1990 بقسم شؤون الأسرة.

كما تم التأكيد أن الاختلاف أيضا يكمن في التواريخ والوقائع، من خلال إحداث تغيير في المحرر الرسمي والمتمثل في الحكم القضائي الأول المتعلق بسنة 1990.

حيث تم التأكد من الواقعة هذه، بعد استدعاء الأخت غير الشقيقة للمتهم ” خ.محمد”، التي صرحت أمام الحزينة العمومية أن هناك أحكام متناقضة. وأن شقيقها ” خليل” هو من زوّر الحكم، باعتبار أن والدتها أمية لا تحسن القراءة والكتابة.

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور

مقالات مشابهة

  • ثنائي مصري ضمن أفضل 20 زوجي بالعالم بعد التألق بمونديال تنس الطاولة
  • زوجة عصام صاصا تنفي شائعات انفصالهما بصور جديدة
  • 45 يوماً على النهاية… وترامب يُبقي الأسواق معلّقة بين الرسوم والانتظار
  • زوجة ماكرون تصفعه في مطار هانوي
  • وصفة طبيعية لتسليك الشرايين وتحسين صحة المفاصل (فيديو)
  • «كان مكتئب».. زوجة حفيد نوال الدجوي تكشف عن سبب انتحار زوجها
  • جامعة MSA تعلن الحداد 3 أيام لوفاة الدكتور أحمد شريف الدجوى
  • البراءة لأربعيني من تهمة تزوير حكم بالطلاق للاستفادة من منحة
  • بقيت شحاته.. زوجة شيكا ترد على منتقدي ظهورها بعد وفاة زوجها