zuhair.osman@aol.com


مفتتح شعري: صوتٌ من عمق المعاناة
أنا لستُ رَعديداً يُكبِّل خُطْوَه ثِقَلُ الحديد
وهناك أسرابُ الضحايا الكادحون
العائدون مع الظلام من المصانع والحقول
ملأوا الطريق
عيونهم مَجروحةُ الأغوارِ ذابلةُ البَريق
يتهامسون
وسياطُ جَلَّادٍ تسوق خِطاهم ما تصنعون
يُجلجِلُ الصوتُ الرهيبُ كأنه القَدَرُ اللَّعين
تظلُّ تُفغرُ في الدُّجى المشؤوم أفواهُ السجون
فيغمغمون: نحنُ الشعوبُ الكادحون
— محيي الدين فارس


في لحظةٍ تاريخية تتآكل فيها الحدود بين الحياة والموت، تصبح القصيدة أكثر من كلمات؛ تصبح شهادةً على زمنٍ يُسرَق فيه الفقراء من كل شيء: من حقهم في الحياة، في الأمل، في الوطن.

قصيدة محيي الدين فارس، الصادرة من أعماق القهر، لا تزال تعكس بجلاءٍ مأساة السودان اليوم، حيث الحربُ لا تكتفي بإسكات البنادق، بل تسعى لإخماد صوت الكادحين أنفسهم.


الحرب: آلة تدمير الذات الجماعية
ما يجري في السودان ليس مجرد صراعٍ على السلطة بين جنرالات، بل جريمة مستمرة تُرتكب بحق الإنسان البسيط، الذي يعمل في الحقول والمصانع، ويعود مساءً ليجد الوطن وقد تبدد في دخان المدافع. هذه الحرب تُعيد إنتاج بنية القهر، حيث تُسحق الفئات التي تشكل قلب السودان الحقيقي: البسطاء، العُمّال، النساء، الأطفال، الحالمون بثورة لم تكتمل.


هنا، لا تُهدم البنى التحتية فقط، بل تُفكك الذاكرة، وتُغتال فكرة الوطن من جذورها. وما الحرب في جوهرها إلا نفيٌ صريح لإرادة الناس في الحياة، وتحويلٌ للثورة التي نادت بـ"حرية، سلام، وعدالة" إلى كابوس يومي يُراد له أن يبدو قدراً لا مفر منه.


الكادحون: ضحايا بلا ضجيج
في كل بيت مهدوم، وفي كل جثة لم تُحص، هناك صدى لصوت الشاعر: "ملأوا الطريق... عيونهم مجروحة". هم الذين يموتون بصمت، بينما تتبارى النخَب في المؤتمرات الصحفية، وتحسب عدد الكيلومترات التي تقدمها الجيوش. هؤلاء ليسوا أرقاماً في بيانات النزوح، بل أصحاب الأرض، وصانعو الخبز، وحَمَلة الحلم. إن سرقة حياتهم ليست خسارة فردية، بل اقتلاع لروح البلد من جذورها.


لماذا تُستهدف لجان المقاومة والخدمات؟
وسط هذا الدمار، ظهرت لجان المقاومة والخدمات كشكلٍ نقيٍّ من تجليات الإرادة الشعبية. بعيدًا عن الشعارات الرنانة، مارست هذه اللجان فعلاً حقيقياً، عميقًا، وصامتًا:


حولت منازل البسطاء إلى مستشفياتٍ ميدانية.


أقامت مطابخ تُطعم آلاف الجوعى بلا دعم خارجي.


نظمت حملات حماية للنساء من العنف.


أعادت بناء النسيج الأهلي الممزق.


لكن لهذا الفعل المجتمعي الجريء ثمن. فالنظام القديم، بكل وجوهه المتبدلة، يرى في هذه البذور الوليدة تهديداً لسلطته. لذلك يُلاحَق شباب اللجان بالاعتقال، وتُشوه صورتهم، وتُفجر مقارهم، ليس لأنهم يحملون السلاح، بل لأنهم يحملون فكرة: أن الشعب قادرٌ على إدارة نفسه، دون العسكر، ودون نخبة متكلسة.


السياط لا تتغير... تتناسل فقط
عبارة "سياطُ جلادٍ تسوق خِطاهم" تختزل مأساة السودان في قرنٍ كامل. فكل نظامٍ جديد جاء بـ"سياطٍ" جديدة، لكنه أبقى على الأسلوب ذاته: قمعٌ، إذلال، واستلاب. من مستعمر الأمس إلى عسكر اليوم، ظلت السلطة قائمةً على نفي صوت الكادحين، وعلى تحويلهم إلى وقودٍ يُشعل نار السلطة، أو إلى ضحايا يُبنى على جثثهم صرح الوهم الوطني.


السياط اليوم ليست مصنوعة من جلد، بل من خطابٍ يُجرّم الضحايا، ويُبرّئ القتلة. إنها السياط التي تجوّع الشعب باسم السيادة، وتُجهز على آخر ما تبقى من "وطن" في وعي الناس.


"نحن الشعوب الكادحون"... الصوت الأخير الذي لا يموت
تُمثّل الجملة الختامية من القصيدة صرخة تتجاوز الزمن: "نحن الشعوب الكادحون". ليست استغاثةً، بل إعلان بقاء. فالكادحون لا يملكون المنصات، ولا يكتبون البيانات، لكنهم يصنعون الحياة من بين الأنقاض. لهذا تحديدًا، لا بد أن نُصغي إليهم:


على المجتمع الدولي أن يتوقف عن رؤية السودان كملف أمني أو بوابة لمصالحه الجيوسياسية.


على الأنظمة العربية أن تتوقف عن تمويل أدوات الموت، وتبدأ بدعم أدوات الحياة.


على النخب السودانية أن تُراجع دورها في إنتاج هذه المأساة، وتتخلى عن وهم الحلول الصفوية.


ما الذي نريده؟
وقف فوري لإطلاق النار، دون شروط.


حماية فعالة للجان الخدمات بوصفها جهات مدنية محايدة تمثل الناس لا النخب.


آلية محاسبة دولية عادلة لمجرمي الحرب، تُنصف الضحايا وتكسر دائرة الإفلات من العقاب.


الثورة ليست وهماً... بل وعداً لم يُخلف بعد
لو عاد محيي الدين فارس إلى السودان اليوم، لرأى مشهدًا يتجاوز قصيدته: جلادون لم يعودوا يخفون وجوههم، سجون بلا جدران، وفقراء ينحتون الحياة وسط الرماد. لكنه سيرى أيضًا ما لم يمت: إرادة الكادحين، تلك التي لا تقهرها المدافع.


الثورة لم تُهزم، لأنها ما زالت حية في صحن الطعام الذي تعدّه امرأة في مطبخ جماعي، وفي مضمدٍ يربط جرحًا في زقاق، وفي شابٍ ينقل دواءً على دراجة نارية.


لا تُقتل الثورات بالرصاص، بل بالصمت. فانتصارُ السودان يبدأ عندما نرفض جميعًا أن نكون شركاء في صمتنا.

 

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

سوال : هل نظام الجباية الذي اسسه المستعمر صالح ليكون نظاما للتنمية الوطنية ؟!

إذا قررت شركة تايوتا بأن وكيلها في السودان لا يعمل بالصورة المطلوبة وان السوق السودانية لم تعد بالحجم الذي يستحق وكالة لها في الخرطوم وقررت نقل أعمال وكالتها من الخرطوم لتكون تحت اشراف وكيلها في جدة مثلا !! فهذا قرار يتعلق بالشركة وتقديراتها التجارية

– إذا قررت بريطانيا ان وكيلها في السودان لا يعمل بالصورة المطلوبة وان السوق السودانية تحتاج اعادة هيكلة وقررت نقل أعمال وكالتها لادارة السودان من القاهرة إلى ابي ظبي !! فهذا قرار يخص الإمبراطورية وتقديراتها لادارة مستعمراتها السابقة !!

– أنا عاجز تماما عن فهم احتجاجنا على خطوة نقل كفالتنا من وكيل إلى وكيل !!
– حتى العام ٢٠١٧ كانت شركة بي واي دي ( BYD) الصينية متخصصة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية فقط ولم تكن تصنع سيارة كهربائية
في العام ٢٠١٧ أقنعت الصين ايلون ماسك بافتتاح اكبر مصانع تسلا عندها
خلال خمس سنوات استطاعت شركة بي واي دي نقل كل التقنية التي تحتاجها من شركة تسلا

– العام الماضي ٢٠٢٤ باعت شركة BYD الصينية ٤ ملايين ومائتين اثنين وسبعين سيارة ( ٤٢٧٢٠٠٠) عالميا ليرتفع سهمها في سوق الشركات الكهربائية من ١.٥٪؜ خلال العام ٢٠١٨ إلى ٢٣.٥٪؜ في العام الماضي

– في العام ١٩٥٦ وافق الإنجليز على سودنة الوظايف واكملوا انسحابهم العسكري والإداري من السودان

خلال سبعين سنة اغلقت خلالها مصانع لانكشاير التي اسس لاجلها الإنجليز مشروع الجزيرة بينما ظللنا نحن عاجزين عن اكتشاف علاقة الانتاج الافضل بين المزارع وادارة المشروع

– ظللنا حتى الثمانينات اي بعد ثلاثين سنة من رحيل الإنجليز نشتري متطلبات ادارة السودان عبر مكتب السودان في لندن الذي كان عبارة عن مكتب تابع لوزارة الخارجية البريطانية

– لم نفكر ولا لحظة في الاجابة على سوال : هل نظام الجباية الذي اسسه المستعمر صالح ليكون نظاما للتنمية الوطنية ؟! هل نظامنا التعليمي الذي اسسه المستعمر لتخريج متعلمين مهرة في مجالات الادارة والحرف والمهن صالح لتخريج متعلمين لتنمية البلاد ؟!

– من حق بريطانيا ان تدير مستعمرتها المسماة بالسودان من ابي ظبي او من باخرة في المحيط الهندي !!
What difference does it make?!
صديق محمد عثمان Siddigmohamed Osman

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • رئيس قطاع المعاهد الأزهرية: القراءة في الأزهر ليست هواية بل رسالة حياة
  • سوال : هل نظام الجباية الذي اسسه المستعمر صالح ليكون نظاما للتنمية الوطنية ؟!
  • رئيس المعاهد الأزهرية : القراءة في الأزهر ليست هواية بل رسالة حياة
  • هيئة الإسعاف: 86% من البلاغات التي يتلقاها المركز ليست حقيقية
  • مستودعات الموت … من علي الكيماوي إلي البرهان الكيماوي !!
  • نهاية القتال في السودان… تجميد الحرب
  • مظاهرات أمام منزل هرتسوج.. الشعب يريد إنهاء الحرب علي غزة وإعادة الأسرى
  • الرئيس اللبناني عن انتخابات البلدية: إرادة الحياة أقوى من الموت
  • اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني