تعزيز النفوذ.. كيف توظف تركيا التحولات الجيوسياسية بعد سقوط الأسد؟
تاريخ النشر: 5th, June 2025 GMT
تعتبر تركيا الرابح الإقليمي من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، من نواحٍ عديدة أبرزها؛ تعويم التيارات الإسلامية في المنطقة مرة أخرى بعد تعثر مشاريعهم وسقوط أنظمة حكمهم، وتأسيس قواعد عسكرية، وتسييس ملف اللاجئين السوريين، وتفكيك الخطر الكردي، ودعم جهود محاربة تنظيم داعش، وتوظيف انسحاب محتمل للولايات المتحدة من سوريا، وتراجع دور إيران في تفاعلات الإقليم، وتقاسم ضمني للنفوذ مع إسرائيل في سوريا، والمساهمة في جهود إعادة إعمار سوريا، والانخراط في صناعة الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) السورية.
التغيرات في سوريا تحمل انعكاسات عميقة على الدول المجاورة، فضلًا عن تأثيرها على توازن القوى الإقليمي، وفقًا لنظرية “البيوت الخشبية” التي صاغها الخبير الإستراتيجي ووزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، ومفادها أن اندلاع النيران في منطقة جغرافية ما لا يقتصر تأثيرها عليها، بل يمتد إلى الجوار بل وجوار الجوار لدرجة أن هناك من يعتبر بأهمية “الجار قبل الدار”. وقد علق أحد الخبراء الإستراتيجيين على ذلك الوضع الذي تشهده سوريا قائلًا: “الشكل الذي ستتخذه سوريا خلال هذا الانتقال سيؤثر على المنطقة بأكملها، بطريقة مماثلة ولكن معاكسة للطريقة التي شكّل بها الأسد المشهد الإقليمي من قبل”.
في هذا السياق، تعتبر تركيا أكثر القوى الإقليمية تأثيرًا في التفاعلات الجارية على الساحة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهو ما سوف تسعى إلى توظيفه بما يعزز مصالحها، من زوايا عشرة، تحاول هذه المقالة مناقشتها.
أولًا: تعويم التيارات الإسلامية
يظل أحد النتائج التي لازمت تطورات التفاعلات على ساحة الشرق الأوسط هو وصول التيارات السياسية ذات الميول الإسلامية إلى حكم سوريا، وهي واحدة من الدول العربية المحورية ليس في المشرق العربي وإنما في المنطقة ككل، وهو ما يعود في المقام الأول إلى الدعم العسكري واللوجيستي التركي لتحالف الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام بحكم صلتها بتحالف الفصائل المسلحة السورية. وقد انخرطت أنقرة على نحو براجماتي مع هيئة تحرير الشام منذ سنوات، فأقامت علاقات يمكن أن تساعدها الآن في توجيه السلطات الجديدة في دمشق باتجاه يلائمها.
وفي الوقت الذي تعثرت فيه تجارب ما أُطلق عليه “الحكومات الملتحية” في مصر وتونس بعد الموجة الأولى والثانية من الحراك الثوري، وبرزت مناطق رمادية كبيرة في خبرتي اليمن وليبيا بعد سقوط نظامي علي عبد الله صالح ومعمر القذافي وعدم القدرة على تشكل نظام جديد مستقر بل نشأ ما يسمى بالسيادة المتعددة ولا سيما للفاعلين المسلحين ما دون الدولة، وخرجوا من الحكم في تجربة المغرب وانحسر تأثيرهم في الأردن، تشير تجربة الصعود الجديد للتيارات الإسلامية إلى إمكانية استلهام تجربتهم من جديد في حالات قد تكون مفاجئة. وبالتالي، يمثل استقرار النظام الجديد في سوريا تعزيزًا للمصالح التركية.
كما يدعم هذه التجربة الحليف الإستراتيجي لأنقرة في الإقليم الدوحة إذ كانت الدولة العربية والخليجية الوحيدة الداعمة لتطلعات الشعب السوري وحقه في الحرية، وفقًا لخطابها السياسي حينذاك. لذلك رفضت التطبيع مع “الأسد” طيلة السنوات الماضية حتى بعد قرار عودة سوريا للجامعة العربية في مايو 2023. كما أنها الدولة العربية الأكثر صلة بهيئة تحرير الشام التي لها اليد الطولى في التفاعلات السورية بعد سقوط الأسد، وتجاوزت الدوحة مرحلة توجيه الانتقادات الإقليمية والدولية بدعمها وتمويلها المالي لتلك الهيئة مما عرضها لدعم الجماعات المتطرفة. غير أن حالة الانفتاح المتزايد من الدول العربية والغربية على الإدارة الانتقالية السورية صارت تدحض هذه الحالة.
ثانيًا: تأسيس قواعد عسكرية
تشير بعض الكتابات إلى أنه خلال زيارة الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع لتركيا في 4 فبراير 2025، وقعت كل من أنقرة ودمشق على اتفاقية دفاع مشترك تتضمن تأسيس قواعد عسكرية تركية جديدة في مناطق بوسط سوريا، دون أن يتم تسليط الضوء عليها إعلاميًا. وتستهدف تركيا من وراء توسيع حضورها العسكري في سوريا تحقيق جملة من الأهداف، من أبرزها ترسيخ وجود طويل الأمد، وتقطيع أوصال المشروع الكردي، وتأمين المصالح التركية في شرق البحر المتوسط، بالإضافة إلى توفير أوراق رابحة في مواجهة الخصوم، وحماية المصالح الاقتصادية لأنقرة. فضلًا عن مد النفوذ العسكري الإقليمي لتركيا؛ إذ إن بناء قواعد عسكرية في سوريا، يتكامل مع حضورها العسكري في قطر، وكذلك في ليبيا والصومال، وهو ما يعني توفير بيئة خصبة لتمددها في منطقة الشرق الأوسط.
ثالثًا: تسييس ملف اللاجئين
وفقًا لهذا الاتجاه، تعتبر تركيا الرابح الأكبر من هذا التحول الضخم في سوريا؛ إذ كانت قبل ذلك الدولة الأكثر تضررًا من الأزمة السورية منذ عام 2011. فقد تحملت أعباء اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة، واستضافت أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ سوري، ونجحت في الحصول على عائدات مالية من دول الاتحاد الأوروبي نظير تحملها تدفقات اللاجئين السوريين. وفي مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، استغلت تركيا وجود رغبة لدى عدد من اللاجئين للعودة إلى الوطن الأم مرة أخرى. ومن ثم، هناك مصلحة تركية تتمثل في منع تدفق موجات جديدة من اللاجئين السوريين مع تهيئة الأجواء السورية بما يسمح بعودة هؤلاء اللاجئين من الأراضي التركية. خاصة مع تصاعد خطابات الكراهية والعنف ضد اللاجئين في الداخل التركي من قبل أحزاب اليمين المتطرف، علاوة على ما تشكله قضية اللاجئين من عبء انتخابي ثقيل على مستقبل الائتلاف الحاكم الذي خسر في المدن الكبرى كإسطنبول في انتخابات البلدية الأخيرة، وهو ما لا يريد قيادات حزب العدالة والتنمية تكراره مرة أخرى في أية استحقاقات انتخابية مقبلة. غير أن هناك أعداد من اللاجئين السوريين سوف تبقي عليهم الدولة التركية لمقايضة دول الاتحاد الأوروبي بهذا الملف.
رابعًا: تفكيك الخطر الكردي
ظل الأكراد يمثلون لترة طويلة معضلة تركيا الكبرى؛ حيث تحاول الحكومة التركية إيجاد حل جذري لإجهاض أي مشروع لوحدات حماية الشعب التي تعتبرها أنقرة امتدادًا سوريًا لحزب العمال الكردستاني لإقامة حكم ذاتي في شمال شرق سوريا. والتي من شأنها تهديد الحدود التركية إما عسكريًا بشن هجمات من حين لآخر، وإما سياسيًا بإقامة الحكم الذاتي وسلك مسار بناء دولة كردية.
وبموجب تلك المخاوف غزت تركيا مناطق من الشمال السوري من أجل إضعاف الأكراد والاستيلاء على مناطق إستراتيجية على الشريط الحدودي حتى أصحبت نقطة احتكاك بين تركيا والولايات المتحدة التي دعمت القوات الكردية في مكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي. وعلى الرغم من تصاعد اللهجة التركية ضد “قسد”، و”وحدات حماية الشعب” إلا أن أنقرة تسعى في الآونة الأخيرة إلى صهر الأكراد داخل المؤسسات السورية الموحدة بقيادة “الشرع”.
غير أن أحد التحولات الرئيسية التي حدثت فيما يخص علاقة تركيا بحزب العمال الكردستاني هو إعلان الحزب في 12 مايو 2025 عن حل نفسه وإلقاء السلاح في مواجهة الدولة التركية. ويرتبط هذا القرار بجملة من الدوافع الرئيسية، من بينها التنسيق التركي- العراقي في مواجهة الكردستاني، والتأثيرات العكسية لسقوط نظام الأسد على المكون الكردي في الإقليم، وتبدل المواقف الغربية تجاه أكراد سوريا، بالإضافة إلى تراجع النفوذ الإيراني في الإقليم وانعكاساته على الدعم الإيراني للكردستاني. فضلاً عن رغبة الحزب في محاولة تحييد خسائره البشرية والمادية.
خامسًا: دعم جهود محاربة تنظيم داعش
تمثل مخيمات شمال شرق سوريا لعوائل مقاتلي تنظيم “داعش” الإرهابي، والتي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التهديد الأكبر لتركيا والمنطقة؛ حيث تتولد بعض المخاوف من إمكانية عودة التنظيم مجددًا وقدرته على إعادة تشكيل نفسه مرة أخرى، في إطار إستراتيجية عمل للتنظيمات الإرهابية بأنها في حالة “كمون” وليس حالة “نوم”. حيث تقبع الخلايا النائمة لـ”داعش” في تلك المخيمات تنتظر الفرصة للخروج مرة أخرى، مما يشكل تهديدًا وضغطًا على أمن الحدود التركية. ولهذا تسعى تركيا إلى تقوية دوائر تعاونها الأمني والاستخبارات مع الجهات الغربية والشرق أوسطية والعربية الداعمة لمحاربة داعش.
وفي هذا السياق، أفضت عملية أمنية نفذتها شرطة إسطنبول إلى إلقاء القبض على 11 عنصراً مشتبه في انتمائهم لتنظيم داعش، وبدأت إدارة مكافحة الإرهاب التابعة لشرطة إسطنبول تحقيقات مكثفة لكشف أعضاء تنظيم داعش؛ حيث تبين أنهم ينشطون في المدينة على صلة بمناطق صراع خارجية، وفقًا لما نشرته عدد من وسائل الإعلام التركية في 17 مايو 2025. وتؤكد هذه العملية على الإستراتيجية الحالية التي تتبناها السلطات التركية في إطار التعامل مع التهديدات الإرهابية، والتي تُركز بشكل رئيسي على نمط “العمليات الاستباقية”، في إشارة إلى التعامل الاستباقي مع التهديدات المحتملة التي يتم رصدها عبر الجهد الاستخباراتي، كذلك تكشف هذه العملية عن حضور تنظيم داعش في الأراضي التركية عبر خلايا صغيرة وعبر عناصر فردية أو “ذئاب منفردة”، ويبدو أن هذا الانتشار يرتبط بشكل رئيسي بموجات الهجرة المستمرة إلى تركيا من عدد من المناطق المحاذية.
سادسًا: توظيف انسحاب الولايات المتحدة من سوريا
رغم أن سقوط الأسد يمثل فرصة إستراتيجية للولايات المتحدة، لكن من غير المرجح أن تنخرط إدارة ترامب بشكل أكبر مع القيادة السورية الحالية، على الرغم من إعلان الرئيس ترامب خلال جولته الخليجية ولقاءه الرئيس أحمد الشرع في الرياض يوم 14 مايو 2025 برفع العقوبات على سوريا وبدء وزارة الخزانة الأمريكية الإجراءات التنفيذية لذلك. فلا تزال الحكومة الأمريكية تصنف هيئة تحرير الشام (HTS) كمنظمة إرهابية أجنبية، ومن غير المحتمل أن يتغير هذا التصنيف تحت هذه الإدارة. علاوة على ذلك، هناك اتجاه داخل الإدارة يرى أن الوقت قد حان لـ”تجاوز مسألة وجود القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا”، بل بدأ الخوض في نقاش حاسم حول احتمالية انسحابها في المستقبل القريب.
منذ إدارته الأولى يخطط الرئيس دونالد ترامب لسحب القوات الأمريكية من سوريا، والذي تراجع عنه تحت ضغوط مسئولي وزارة الدفاع، ولكن مع التحولات التي شهدتها المنطقة وخاصة بعد سقوط نظام الأسد، أعادت إدارة ترامب “الثانية” طرح خطط الانسحاب من سوريا. ويكمن هذا القرار في جملة من الأسباب التي تتعلق بالداخل الأمريكي؛ حيث أثار وجود القوات الأمريكية في سوريا جدلًا واسعًا حول جدوى استمراره، واندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري، وتراجع نفوذ تنظيم داعش، فضلًا عن إستراتيجية ترامب التي تميل إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. غير أن هذا القرار سيكون له العديد من التداعيات على مستقبل قوات قسد، وجهود محاربة تنظيم داعش، وتزايد الدور التركي في سوريا، الذي يثير هواجس إسرائيل.
سابعًا: تراجع دور إيران في تفاعلات الإقليم
إن سقوط النظام السوري يمثل ضربة قوية لإيران، باعتبار أنه يخصم إلى حد كبير من النفوذ الإقليمي الذي سعت إلى ترسيخه على مدى أكثر من أربعة عقود. ولعل ذلك يصب في صالح تركيا التي ورثت النفوذ الإيراني بعد وصول نخبة جديدة لحكم سوريا، وفقًا لشرعية الغلبة. إذ إن إيران كانت ترى هذا النفوذ ورقة ضغط قوية تستخدمها في إدارة صراعها مع إسرائيل، خاصة أن سوريا كانت أيضًا همزة الوصل التي كان الدعم الإيراني يمر عبرها للتنظيمات الأخرى الموالية لها، خاصة حزب الله اللبناني، لتتحول إيران إلى موقف دفاعي وإعادة النظر في إستراتيجيتها في الداخل السوري التي قد تسعى للتحالف مع التنظيمات الموالية لها وبقايا نظام الأسد، كمحاولة لإفساد فرصة إعادة بناء الدولة السورية في شكلها الحالي المناهض للنفوذ الإيراني.
غير أن هناك ما يدعم نفوذ تركيا، وهو تبلور اتجاه أخر داخل إيران يرى سقوط نظام الأسد لم يكن مفاجئة لطهران، بل كان حتميًا في ظل حالة الضعف التي بدت عليها المليشيات الموالية لها داخل سوريا، والتي نجحت هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة –بمساعدة تركيا- في استغلالها لاجتياح المحافظات السورية الرئيسية والوصول إلى العاصمة دمشق ومن ثم إسقاط النظام.
ويستند هذا الاتجاه الإيراني الذي رحب بسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في وقف استنزاف الموارد الإيرانية، وعدم تحقق الهدف من تقديم الدعم العسكري والاقتصادي، وسعي واشنطن وتل أبيب إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بالتوازي مع عودة ترامب مجددًا إلى البيت الأبيض، ومنع انخراط إيران في حرب مباشرة، والاهتمام بمعالجة الأزمات الداخلية لمواجهة التهديدات المحتملة، في إطار شعار “إيران أولاً”.
ثامنًا: تقاسم ضمني للنفوذ مع إسرائيل في سوريا
على الرغم من الضربات العسكرية المتتابعة التي تُوجه لمناطق محددة في سوريا خلال حكم الإدارة الانتقالية السورية، والتي تستهدف القضاء على القدرات العسكرية والدفاعية للجيش السوري الذي لا يزال في طور التشكل، إلا أن هناك رسالة أخرى جوهرية توجه من تل أبيب لأنقرة التي صارت متواجدة على حدودها الإستراتيجية المباشرة بأنها مستعدة لدرء أي تهديدات مباشرة لأمنها الوطني، سواء كانوا جيوش وطنية لدول أو جيوش موازية جوالة (فاعلون عنيفون ما دون الدولة).
ويمكن القول أن ثمة تفاهم ضمني تركي إسرائيلي لإنشاء مناطق آمنة للسيطرة على تهديدات الحدود مع الإبقاء على المناطق الشمالية تحت النفوذ التركي مع إمكانية تعزيز نفوذها بشن هجمات على وحدات حماية الشعب الكردي في حال فشل مسار دمج قواتها ضمن الجيش الجديد، بالتوازي مع مواصلة الضغط والتوغل العسكري الإسرائيلي في الجنوب ودعم تشكيل إدارة ذاتية للدروز وجعل منطقة الجنوب منزوعة السلاح وضمان عدم وصول السلاح لـ”حزب الله” وتجنب الاحتكاك المباشر بين الجانبين داخل سوريا.
تاسعًا: المساهمة في جهود إعادة إعمار سوريا
تُعد إعادة بناء سوريا التي مزقتها الحرب على مدى ما يقرب من عقد ونصف فرصة مربحة قد تصبح تركيا لاعبًا مركزيًا فيها بفضل قربها الجغرافي وخبرتها الفنية ونفوذها السياسي على الحكومة السورية الجديدة، على نحو يمثل تعزيزًا للمصالح التركية من خلال المشاركة في مشروعات إعادة الإعمار، وتأمين الحصول على أكبر قدر من كعكة إعمار سوريا وبناء مؤسسات الدولة الحديثة (سواء الإدارية أو الخدمية أو السيادية)، والتي تشير بعض التقديرات بأن تكلفتها تتراوح ما بين 250 إلى 400 مليار دولار، وقد تصل إلى تريليون دولار وفقا لتقديرات أخرى.
وتشير العديد من الكتابات إلى سعي أنقرة لإعادة تأسيس البنية التحتية من خلال الحصول على عقود البناء والمشاريع الكهربائية وغيرها من البنية التحتية لصالح العديد من الشركات التركية، وقد انعكست التوقعات على سوق الأسهم التركية. وشهدت شركات البناء والصناعات المرتبطة بالبناء والصلب والخرسانة مكاسب فورية بعد رحيل الأسد، وتعتبر العديد من هذه الشركات مقربة من إدارة الرئيس أردوغان. وقد تسهم إعادة إعمار سوريا في تعزيز فرص حزب أردوغان وتحالفه الحاكم سياسيًا وانتخابيًا بحكم الموارد المالية التي تدخل إلى البلاد وفرص العمل التي يتم توليدها.
عاشرًا: الانخراط في صناعة الطاقة السورية
تسعى تركيا بشتى الطرق إلى الإمساك مبكرًا بقطاع الطاقة السوري خلال المرحلة المقبلة، وتتمثل أبرز تحركاتها في مرحلة ما بعد سقوط الأسد في إعلان وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار في 27 ديسمبر 2024 عن استعداد بلاده لتعيين الحدود البحرية مع سوريا بعد تشكيل حكومة دائمة في دمشق. علاوة على إعلان بيرقدار عن حرص بلاده على إنشاء خط لأنابيب النفط من سوريا إلى تركيا ودمجه مع خط الأنابيب بين العراق وتركيا. بالإضافة إلى فتح الباب أمام عودة مشاريع الطاقة المشتركة مع سوريا، وكذلك إبداء تركيا حرصًا لافتًا على إعادة إصلاح البنية التحتية لقطاع الكهرباء السورية.
وتستهدف تركيا من وراء الانخراط في صناعة الطاقة السورية تحقيق جملة من الأهداف، يتمثل أبرزها في تعظيم التأثير على مقاربات الخصوم في شرق المتوسط، والاستفادة من الإمكانات الواعدة لقطاع الطاقة السوري، وتعزيز دور تركيا كناقل للطاقة، وإنعاش الاقتصاد التركي. بالإضافة إلى تقليل فاتورة استيراد الطاقة، وكذلك فتح مجال جديد لشركات الطاقة التركية، وتحييد مشروع الإدارة الذاتية الكردية.
ومن ثم فإن التحركات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا ضد وحدات حماية الشعب الكردية لا تنفصل عن رغبتها في تأمين السيطرة على منابع النفط في سوريا؛ حيث تسيطر الإدارة الذاتية الكردية التي تصنفها أنقرة كيان إرهابي، على غالبية حقول نفط الشمال السوري، وأهمها حقول، السويدية، ورميلان، والعمر، إضافة إلى حقول أخرى تتوزع بين محافظتَي الحسكة ودير الزور.
ختامًا، يمكن القول إن تركيا تبدو وكأنها الدولة الوحيدة التي اتبعت إستراتيجية رابحة تجاه سوريا بعد سقوط خصمها وصعود حليفها إلى الحكم. ومن ثم، فمن المرجح أن تحظي تركيا بنفوذ اقتصادي وسياسي وعسكري غير مسبوق في سوريا، مدعومة بقبول من شريحة كبيرة من الشعب السوري. هذا النفوذ لن يمنحها الأولوية فقط في عملية إعادة الاستقرار وتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، بل سيعزز أيضًا مكانتها في النظام الإقليمي وفي علاقاتها مع الأطراف الدولية الأخرى المعنية بالملف السوري والمنطقة بشكل عام؛ لأن أي تفاهمات مع الإدارة الانتقالية السورية سيكون عبر أنقرة التي صارت حارس البوابة لما يجري في سوريا.
د. محمد عز العرب – رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
بوابة الأهرام
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: اللاجئین السوریین هیئة تحریر الشام سقوط نظام الأسد شمال شرق سوریا الطاقة السوری بعد سقوط نظام الشرق الأوسط بالإضافة إلى إعمار سوریا حمایة الشعب سقوط الأسد الترکیة فی تنظیم داعش العدید من فی سوریا مرة أخرى من سوریا ترکیا من أن هناک وهو ما غیر أن ومن ثم
إقرأ أيضاً:
سوريا التي أربكت إسرائيل
لعب الواقع الجيوسياسي السوري وما يزال دورا مهما في علاقات سوريا الإقليمية والدولية بقطع النظر عن نظام الحكم، وقد أفاد النظام السابق من تلك الميزة في نسج علاقات مختلفة بين الأضداد، وإن كان يُحسب حتى سقوط الشيوعية على المنظومة الاشتراكية.
فقد كان على علاقة جيدة- حسب الحاجة- مع الولايات المتحدة الأميركية، وتجلّى ذلك في حدثين:
الأول: السماح له بوضع لبنان- في الحرب الأهلية- تحت سيطرته العسكرية والتفاهم مع المنظمات هناك، مع إبقاء بعضها أو إبعاد من يخالفه. والثاني: في وقوفه مع التحالف بعد غزو الكويت.ومع بدء الألفية الجديدة انضم إلى ما يُطلق عليه محور المقاومة والممانعة، أو إحدى ركائز ذلك المحور!
زيارة تاريخية أم مقايضة سياسية؟شكّلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة الأميركية ولقاء الرئيس ترامب علامة فارقة عند المهتمين بالشأن السوري، وفتحت عهدا جديدا بين البلدين، فهي أول زيارة لرئيس سوري للولايات المتحدة.
وتأتي بعد رفع اسم الرئيس الشرع من قوائم الإرهاب، وفي ظل وضع اقتصادي خانق تعيشه سوريا؛ بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على البلد زمن النظام السابق "قانون قيصر"، وتموضع قوات قسد المدعومة أميركيا في مناطق الثروة السورية، واختراقات إسرائيلية متكررة للأراضي السورية بعد استيلائها على مرتفعات جبل الشيخ الإستراتيجية عقب سقوط النظام السابق.
رغم التفاؤل الذي ساد الشارع السوري بأن العقوبات في طريقها للزوال، فإن ثمّة حقيقة واضحة في استخدام هذا القانون ورقة ضغط على دمشق، فرغم أن قانون قيصر فُرض على النظام السابق نصرة للشعب السوري- وهذا يقتضي زواله عن الشعب السوري وبقاء مفاعيله على الذين ارتكبوا تلك المجازر- فإن القانون ظل سيفا مُصْلَتا على الشعب السوري، وعائقا أمام إعادة الإعمار، واستُخدم ورقة ابتزاز سياسي للنظام الحالي.
إعلانأكثر الأسئلة التي طُرحت بعد دخول قوات الثورة دمشق، وقيام إسرائيل بتدمير السلاح السوري الثقيل والنوعي: كيف ستكون العلاقة بين دمشق وتل أبيب؟ نزاع أم سلام؟ وقبل هذا السؤال: ما موقف إسرائيل من سقوط نظام بشار الأسد؟
الثورة السورية وموقف تل أبيب منهامنذ أن بدأت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، وقفت إسرائيل منها موقفا مختلفا عن بقية الثورات العربية؛ موقفا أقرب إلى العداء، فسوريا الجزء الأكبر من بلاد الشام، وقد ظلّت الحدود معها هادئة طيلة حكم النظام السابق، رغم رفعه شعارات الصمود والتصدي والتوازن الإستراتيجي والمقاومة والممانعة، فقد كانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 آخر الحروب.
ومع سقوط النظام وغياب الدولة العميقة التي يمكن أن تقود ثورة مضادة، دفع ذلك إسرائيل لتقديم نفسها حامية للأقليات، فالنظام السابق كان يقوم على حكم طائفي، مستندا إلى قوة عسكرية وأمنية تقود المراكزَ الحسّاسة والمؤثرة فيها قيادات علوية، مع تحالفات داخلية تقوم على مبدأ المنفعة، وأخرى خارجية كتحالفه مع إيران، وهذا يعني حكما التحالف مع أذرعها في لبنان، والعراق، واليمن.
أصبحت إسرائيل بذلك بين خيارين: إما الموافقة على سحق الثورة وإبقاء النظام، أو سحق الدولة في حال الفشل في إنهاء الثورة، وتحويلها إلى دولة ضعيفة، وبدل أن تكون دولة تحكمها أقلية، تنتهي إلى دولة تسيطر عليها الأقليات في كيانات مجتمعية تكون الأطراف فيها أقوى من المركز، ولا تسيطر على حدودها ولا ثرواتها. وحتى يتحقق ذلك، كانت عمليات التهجير للكتلة الصلبة، مع تغيير ديمغرافي وعقدي.
وقد كان واضحا منذ البداية أن إسرائيل ستكون صاحبة الكلمة العليا في بقاء النظام والتغطية على جرائمه، فقد توقّف المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، عند ما أسماه بموجة التظاهرات التي حدثت في سوريا، معتبرا أن هذه التظاهرات تقرّب الثورة العربية من الحدود الإسرائيلية، بحكم الموقع الجغرافي لمدينة درعا، وتطرق إلى إمكانية فشل الحكم في سوريا في وضع حدّ للتظاهرات، وأن سقوط نظام بشار الأسد سيدخل إسرائيل في حال من الغموض وعدم اليقين.
وردّ رامي مخلوف مختصرا الوضع مخاطبا إسرائيل: أمنكم من أمننا. وقد رُفعت لافتات في إسرائيل تصف بشار الأسد بأنه ملك ملوك بني إسرائيل، ونقلت صحيفة التايم البريطانية في 30 مايو/أيار 2013، عن إسرائيل قولها: الأسد يجب أن يبقى.
وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة جارٍ يحكمه الأكثرية، ونظام قادم من ثورة شعبية
وقد اتضح فيما بعد أن كل التدخلات التي جرت في سوريا لمقاتلة الثورة السورية، تمت برضا إسرائيل، وذلك من خلال الصمت، أو الموافقة الأميركية.
فقد ذكر بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي زمن أوباما، في كتابه؛ "العالم كما هو"، أن أوباما كان معجبا بإيران، محتقرا للعرب، وكان يهمّه توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ولم تكن الثورة السورية في اهتماماته.
وكذلك كان التدخل الروسي، حيث تمّ بطلب من نتنياهو، بعد أن تقهقر النظام السوري ومن معه في مواجهة الثورة السورية. ففي مقال له في "يديعوت أحرونوت" في 17 سبتمبر/أيلول 2015، قبيل الغزو الروسي بأسبوعين، كتب ألون بن ديفيد: "لا يسافر نتنياهو إلى موسكو كي يوقف انتشار قوات الجيش الروسي في سوريا، بل يسافر كي ينسق فقط".
إعلانولا يختلف الموقف الأميركي في الموافقة على ذلك، فقد ذكر أندرو أكسوم، نائب مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط، في شهادته أمام الكونغرس الأميركي عام 2017، أن أميركا سمحت لروسيا بالدخول إلى سوريا ودعم نظام بشار الأسد، بعد أن وصل المتمردون- حسب وصفه- إلى مسافة قريبة من قصر المهاجرين، وأن بشار الأسد كافح طويلا من أجل بقاء الدولة الوطنية العلمانية التي بنيناها في المنطقة!
السقوط المفاجئ والتوغل الإسرائيلي في جنوب سورياكانت كل المعطيات تشير إلى أن النظام السوري باقٍ، فقد تم له، بمساعدة حلفائه، استعادة كل الأراضي التي كانت تحت سيطرة الثوار، وبقيت منطقة إدلب وأقصى الشمال الشرقي بيد الثوار، في حين يسيطر تنظيم "بي كا كا" الإرهابي، المتخفي باسم "قسد"، بدعم أميركي وغربي، على 40% من مساحة سوريا التي تحوي مناطق الثروة السورية من نفط وغاز وزراعات إستراتيجية.
وهو لا يشكل تهديدا للنظام، فقد نشأ على عينه وتعاون معه منذ بداية الثورة السورية، وأصبح خوف السوريين على المناطق المحررة، فقد تمت إعادة تأهيل بشار الأسد عربيا، وكانت ثمّة دول تسعى لإعادة تأهيله دوليا، وبدا أنه المنتصر على المؤامرة الكونية كما كان يصف الثورة، بل يُجهز نفسه لأبعد من ذلك باستعادة مناطق المحرر السوري.
لكن ثمّة تغييرات في المنطقة والعالم كانت تفتّ في عضد النظام وحلفائه، فقد غرقت روسيا في حرب أوكرانيا، وتلقّت هزائم متكررة، ما دعاها لسحب جلّ طائراتها من قاعدة حميميم، ولم يبقَ لديها ما يمكن أن يشكّل خطرا حقيقيا على الثوار السوريين.
كذلك حزب الله الذي فقد خيرة مقاتليه في عملية "البيجر"، ومن ثم الضربات الساحقة التي تلقّاها من إسرائيل، وهي الغارقة في حرب غزة وتبحث عن نصر معنوي. ظروف كثيرة لعبت دورا مهما في استغلال الثوار السوريين تلك الظروف، مع حنق تركي من أسلوب بشار الأسد في الردّ على دعوة الرئيس التركي للاجتماع معه.
لقد أدّى الانتصار الساحق للثورة السورية في إطلاقها عملية "ردع العدوان"، وإسقاط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى صدمة ليست في المحيط العربي فحسب، بل إلى زلزال حقيقي عند قادة إسرائيل.
وقد صرّح نتنياهو بأن إسقاط النظام السوري كان خطأ جسيما، لذلك سارعت إسرائيل إلى تدمير السلاح النوعي السوري؛ حتى لا يقع بيد الثوار ويشكّل خطرا عليها. ولم تكتفِ بهذا، بل استمرت غاراتها بشكل شبه يومي بتدمير المقرات العسكرية، ووصل الأمر بها إلى تدمير مراكز مدنية، والتقدم في جنوب سوريا، مع محاولة خلق واقع جديد بعد أن أعلنت تخلّيها عن اتفاقية فك الاشتباك الموقّعة مع الجانب السوري عام 1974.
معوقات صناعة منطقة عازلة في الجنوبوجدت إسرائيل نفسها في مواجهة جارٍ يحكمه الأكثرية، ونظام قادم من ثورة شعبية قدّمت أكثر من مليون شهيد، وملايين المهجّرين، وبلد مدمّر، مع رغبة عارمة ببناء بلد مستقر مزدهر.
يتنافى هذا الأمر مع الإستراتيجية الصهيونية في أن تكون دول الجوار حامية لحدودها، فإمّا أن تملك جيوشا تقوم بحماية الحدود، أو مناطق عازلة تحت قيادة عملاء تابعين لها. لذلك فقد أغرت الأقليات بعدم التعاون مع النظام الجديد، وأنها ستكون حامية للدروز والأكراد، ودعت لتعاون وثيق بين العلويين والدروز والأكراد إبّان أحداث الساحل، وهددت بالتدخل العسكري في حال فكّرت الدولة السورية ببسط نفوذها على السويداء، وقصفت مراكز سيادية في دمشق في أحداث السويداء.
واتضح دور الهجري ومجلسه العسكري في العمل على استفزاز الدولة السورية وعدم التعاون معها بدعم إسرائيلي، وهذا يعني أن غياب الدولة العميقة التي قضت عليها الثورة يستوجب التنسيق مع الأقليات، ولا سيما الجيب الكردي والجيب الدرزي.
لكن المشكلة التي تواجه إسرائيل في ذلك، رغم إعلان الهجري رغبته بانفصال السويداء وصناعة "باشان"، تكمن في أمرين:
إعلان الأول: لا توجد حدود للسويداء مع إسرائيل، وهذا يعني احتلال مناطق الجنوب السوري للوصول إلى السويداء. الثاني: أن موقف الهجري لا يُمثّل موقف الدروز بشكل عام، فهناك قوى مختلفة لديها موقف وطني رافض موقف الهجري.وما الأحداث الأخيرة إلا دليل على أن إسرائيل تضغط على دمشق من خلال ورقة السويداء، والتهديد بصناعة قوس درزي يكون فاصلا بينها وبين نظام دمشق، في الوقت الذي صرّحت فيه القيادة السورية بأنّها لا ترغب في الحرب ولا تريدها، بل تريد أن تنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عقب سقوط النظام، وأن تعود إلى اتفاقية 1974 المعروفة بفضّ الاشتباك، والتفرّغ لبناء سوريا المدمّرة.
أما ما يُشاع عن التطبيع مع إسرائيل، فقد كان ردّ الرئيس الشرع واضحا: ليس مطروحا في الوقت الحالي، وإسرائيل تحتل جزءا مهما من سوريا "الجولان" منذ عام 1967.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline