معاني المصطلحات والمفاهيم محددة في العلوم الطبيعية والعلوم الدقيقة exact sciences، ولكنها في العلوم الإنسانية بمعناها الواسع تظل فضفاضة، بل تفقد أحيانًا دلالاتها الأصلية بما يطرأ عليها بمرور الزمن من تأويلات خاطئة تنأى عن معانيها الحقيقية. ولذلك، فإن إحدى المهام الرئيسة للفلسفة هي تنقيح المصطلحات والمفاهيم وتحديد معانيها، بل إن من مهامها إعادة النظر في المصطلحات والمفاهيم الفلسفية ذاتها التي اغتربت عن أصولها الأولى وتشوهت أو انحرفت معانيها، وتلك هي المهمة التي يقوم بها كبار الفلاسفة العارفين بفقه اللغة، ومنهم هيدجر على سبيل المثال.
ومن المصطلحات الشائعة في العلوم الاجتماعية (خاصة في العلوم السياسية)، وأصبحت متداولة في حياتنا اليومية في الصحف والأخبار: مصطلح «السامية» أو بالأحرى مصطلح «معاداة السامية» antisemitism. فكيف نشأ هذا المصطلح؟ وما أصوله التي يستند إليها؟
أول من استخدم هذا المصطلح هو الباحث الألماني فيلهلم مار سنة 1879 لوصف حالة العداء لليهود التي تفاقمت خلال القرن التاسع عشر، وقد شاع تداول هذا المصطلح بعد ذلك. والواقع أنه كانت موجات من حالات العداء والكراهية لليهود عبر التاريخ، منها: كراهية المسيحيين لليهود باعتبارهم المسؤولين عن صلب المسيح، والطرد من إنجلترا سنة 1290، ومذابح اليهود الإسبان سنة 1391، وملاحقات محاكم التفتيش الإسبانية لليهود وطردهم من إسبانيا سنة 1492، والمجازر التي تعرضوا لها في أوكرانيا في القرن السابع عشر، وفي روسيا في القرن التاسع عشر، والمحارق النازية لهم في القرن العشرين؛ فضلًا عن تهجيرهم من البلاد العربية، فلم يبق منهم سوى جالية بمملكة المغرب، وجماعات ضئيلة في جربا بتونس.
ويحق للمرء التساؤل عن أسباب هذا العداء لليهود عبر التاريخ من جانب دول وشعوب مختلفة، وهي أسباب عديدة بلا شك، ولكننا سوف نحجم عن الخوض فيها هنا. وبعد نشأة الصهيونية، قامت جماعات الضغط اليهودية بترويج مصطلح «معادة السامية» بشكل هائل في نوع من المظلومية، إلى أن تمكنت في النهاية من دفع الحكومات الغربية من إقرار قانون يجرم معاداة السامية باعتبارها جريمة عنصرية بحق اليهود! وهكذا أصبحت «معاداة السامية» تعني «معاداة اليهود»؛ لأن كلمة «سامي» أصبحت مرادفة لكلمة «يهودي»!!
وهنا ينبغي أن نفهم أولًا معنى مصطلح «السامية» كي يمكن أن نقف على معنى «معاداة السامية». إن التوحيد بين السامية أو الساميين وبين اليهود هو تصور مغلوط؛ لأنه- كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية»- ناتج عن جهالة الباحثين الأوربيين في القرن التاسع عشر بالحضارات الشرقية، وبتنوع الانتماءات العرقية والإثنية واللغوية للجماعات اليهودية؛ ثم إنه ناتج عن فهم للمصطلح يضرب بجذوره في الفكر العنصري الغربي الذي يرمي إلى التمييز الحاد بين الحضارات والأعراق (الجزء الأول، ص. 137).
وحتى عندما يميز بعض الباحثين المعاصرين بين «معاداة اليهودية» و«معاداة السامية» على أساس أن الأولى هي عداء ديني للعقيدة اليهودية، بينما الثانية هي عداء لليهود بوصفهم عرقًا؛ فإن هذا التمييز لا يزال غيرَ شافٍ؛ لأنه يظل ناتجًا عن تصور عنصري. فالشعوب السامية هي الشعوب التي تنتمي إلى جنس كان في الأصل ولا يزال يتحدث اللغات السامية: كالعربية والعبرية، أو كان يتحدث اللغات السامية المنقرضة: كالآشورية والآرامية والفينيقية؛ وبالتالي يمكن القول من جانبنا بأن عرب الجزيرة والشام (من المسلمين والمسيحيين) يشكلون الأغلبية العظمى من الساميين، أما اليهود فلا يشكلون أغلبية الساميين، ولا يدخلون في عداد الساميين باعتبارهم جنسًا أو عرقًا بعينه؛ ببساطة لأنه فكرة «نقاء الأجناس البشرية» أصبحت الآن من الخرافات العلمية، ولقد وُصفوا بأنهم ساميون لأنهم كانوا الجنس الوحيد في أوروبا الذي يتحدث لغة سامية.
وفضلًا عن ذلك، فإن اليهود المعاصرين ينتمون إلى أجناس وأعراق متباينة، منهم الأوروبيون والآسيويون والعرب من أصول آسيوية والحاميون من الحبش وغيرهم (والجميع من أبناء نوح).
وعلى هذا فلا يمكن احتكار اليهود للسامية على أساس من العرق أو على أساس من الدين كما أسلفنا؛ لأن مفهوم «العداء للسامية» بهذا المعنى الخاطئ يصبح مفهومًا عنصريًّا، ومع ذلك فإنه هو المفهوم السائد حتى يومنا هذا، وهو السلاح القانوني الذي يتم إشهاره في وجه كل مَن ينتقد اليهود أو يعاديهم باعتباره مرتكبًا لجريمة العداء للسامية.
ولكن كل ما تقدم قد يثير في أذهاننا السؤال التالي: إذا كان أصحاب الأصول العربية ينتمون إلى الجنس السامي، فلماذا لا نعتبر العداء لكثير من العرب المسلمين في الغرب نوعًا من العداء للسامية، وهو ما يتبدى أحيانًا في كراهيتهم والنظر إليهم باعتبارهم جنسًا أدنى أو محتقَرًا؟ ولقد تبدت هذه الكراهية مؤخرًا بوضوح في كراهية إسرائيل لشعب فلسطين باعتباره شعبًا يستحق القتل والإبادة التي تحدث على مرأى ومسمع من العالم مع عجز المنظمات الدولية عن التدخل لإنقاذه، ومن دون اعتبار ذلك نوعًا من معاداة السامية بالمثل. أفلا يدل ذلك على أن هذا المصطلح بشكله العنصري المتداول في عالمنا هو مصطلح مصنوع بفعل جماعات الضغط الصهيونية. خلاصة القول: إن العداء للسامية لا ينبغي النظر إليه باعتباره عداءً لعرق أو جنس بعينه، ولا باعتباره عداءً لليهود حصريًّا، وإنما باعتباره عداءً لأي جنس له أصول سامية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العداء للسامیة معاداة السامیة هذا المصطلح فی العلوم فی القرن
إقرأ أيضاً:
توماس فريدمان: حكومة إسرائيل خطر على اليهود أينما كانوا
قال الكاتب الأميركي توماس فريدمان إن الطريقة التي تخوض بها إسرائيل حربها على قطاع غزة اليوم تنذر بتغيير نظرة العالم لها ولليهود، وإن على مواطنيها ويهود الشتات وأصدقائها في كل مكان أن يدركوا ذلك.
وحذر الكاتب المخضرم بصحيفة نيويورك تايمز من أن تشديد الحراسة على المعابد والمؤسسات اليهودية في الخارج سيكون هو القاعدة، وأن من يسميهم الإسرائيليين العقلاء سيتدافعون للهجرة إلى أستراليا وأميركا بعد أن كانوا يحثون إخوانهم اليهود للقدوم إلى إسرائيل.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا احتضن الغرب سوريا وتخلى عن أفغانستان؟list 2 of 2لكسبريس: تقارب إسرائيل وأقصى اليمين الفرنسي تحالف تكتيكي أم شراكة أيديولوجية؟end of listومع ذلك، فهو يعتقد أن هذا المستقبل الذي يصفه بالبائس لم يحِلَّ بعد، ولكن ملامحه تتجمع، وأن من لا يرى ذلك يخدع نفسه.
وأشار فريدمان إلى أن مزيدا من الطيارين المتقاعدين والاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي، وكذلك ضباط الجيش والأمن المتقاعدين، يرون العاصفة تتراكم غيومها فأعلنوا أنهم لن يصمتوا أو يتواطؤا مع سياسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "القبيحة والعدمية" في غزة.
ووفق المقال، فقد بدأ هؤلاء يحثون اليهود في أميركا على رفع أصواتهم للمطالبة بإنقاذ سفينة إسرائيل من الغرق، وقبل أن تصبح وصمة العار الأخلاقية المرتبطة بالحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة غير قابلة للإصلاح.
إعلانوفي حال مضى نتنياهو بتنفيذ وعيده بإطالة أمد الحرب في غزة إلى أجل غير مسمى، فإن فريدمان ينصح اليهود في جميع أنحاء العالم -في هذه الحالة- أن يعدوا أنفسهم وأبناءهم وأحفادهم لواقع لم يعرفوه من قبل، وهو أن يكونوا يهودا في عالم تكون فيه الدولة اليهودية كيانا منبوذا، ومصدر عار لا موضع فخر، على حد تعبيره.
وقال إنه سيأتي اليوم الذي يُسمح فيه للمصورين والمراسلين الأجانب بالدخول إلى غزة دون حراسة من الجيش الإسرائيلي، وحينها سيتضح للجميع هول الدمار الذي خلّفه الجيش الإسرائيلي هناك، وقد يكون رد الفعل ضد إسرائيل واليهود في كل مكان قويا.
وأضاف: "كوني يهوديا يؤمن بحق الشعب اليهودي في العيش في دولة آمنة في وطنه التوراتي، جنبا إلى جنب مع دولة فلسطينية آمنة، فإنني أركز الآن على قومي"، معربا عن خشيته من أن يدفع اليهود في كل مكان الثمن غاليا إذا لم يقاوموا "اللامبالاة المطلقة" للحكومة الإسرائيلية تجاه المدنيين الذين يُقتلون في غزة اليوم، وكذلك جنوحها نحو الاستبداد في الداخل.
أخشى أن يدفع اليهود في كل مكان الثمن غاليا إذا لم يقاوموا "اللامبالاة المطلقة" للحكومة الإسرائيلية تجاه المدنيين الذين يُقتلون في غزة اليوم، وإذا لم يتصدوا لجنوح هذه الحكومة نحو الاستبداد في الداخل.
وأوضح أنه بات جليا أن الحرب المستمرة في غزة فقدت أهدافها الإستراتيجية والأمنية وأصبحت تخدم في المقام الأول المصالح السياسية والشخصية للحكومة، ومن ثم، أضحت حربا غير أخلاقية بشكل واضح، وبدت على نحو متزايد حربا انتقامية.
وحسب تعبيره، فقد أصبح سلاح الجو أداة في أيدي وزراء في الحكومة وحتى قادة في الجيش، ممن يدَّعون أنه لا يوجد أبرياء في قطاع غزة، لافتا إلى أن أحد أعضاء الكنيست (البرلمان) تبجّح مؤخرا بأن أحد إنجازات الحكومة تكمن في قدرتها على قتل 100 شخص يوميا في غزة دون أن يصدم هذا التصريح أحدا في إسرائيل.
وشدد الكاتب الأميركي على أن الهجوم الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لا يبرر الاستهانة التامة بالاعتبارات الأخلاقية أو الاستخدام غير المتناسب للقوة الفتاكة.
إعلانوزعم أن الأوان لم يفت بعد على إسرائيل، داعيا الطيارين في سلاح الجو الإسرائيلي بأن يواصلوا طرح الأسئلة حول جدوى الحرب، "لأنكم أنتم من سيتعين عليه تحمل العواقب الأخلاقية لأفعالكم لبقية حياتكم".
وقال فريدمان إنه تلقى رسالتين بعثهما إليه نمرود نوفيك، وهو أحد كبار مستشاري السياسة الخارجية لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز.
وكشف أن الرسالتين من منظمة "قادة أمن إسرائيل"، وهي حركة إسرائيلية مكونة من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين تحث يهود الشتات على التحدث ضد الجنون الذي يحدث في غزة قبل أن يلتهمهم هم أيضا.