الآلة وخوارزمياتها بين الذكاء والحكمة
تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT
ينبثقُ سؤالٌ جوهريٌّ يلامسُ أعماقَ الفلسفة والعلوم معا: هل يكفي الذكاءُ الخوارزمي وحده أن يؤسس مستقبلا أخلاقيًا آمنا، أم أنّ على البشرية أن تخطو نحو «رقمنة الحكمة»؛ لتُضْفِي على الآلةِ بُعدًا قيميًّا يوجّهُ قدرتها الهائلة في الحوسبة نحو غاياتٍ إنسانيّة سامية؟ لعلّ أذهاننا في وهلة أولى لا تعي الهوةَ التي بين «ذكاء الآلة» و»حكمة الآلة» إلا عبر مسافاتها اللغويّة ومحسناتها اللفظية، ولكنّ هذه المسافة تتمدد إلى ماهية الوعي، وبنية الإرادة، ومآلات الفعل والغائية.
ذكاء الخوارزميات وتساؤلات الفلسفة
فاقت الخوارزمياتُ الحديثة بقدراتها تصوراتنا؛ فنجدها في هيئة شبكاتٍ عميقة يتجاوز عددُ وَصْلاتها «البارامترية» تريليون عقدةٍ حسابيّة، وتتبختر عبر نماذجها التوليدية القادرة على صياغة نصوصٍ بحجم مكتبةٍ كاملة في دقائق معدودة، ونشهد تفوقها على الإنسان في مهامّ محدَّدة مثل التعرّف على الأنماط، واسترجاع البيانات، وحَلّ مسائل رياضية في غاية التعقيد، ولنا في اختبار لعبة «جو» الشهيرة عام 2016 مثالٌ حيٌّ؛ إذ تغلّبت خوارزميةُ DeepMind التي عُرفت ب»ألفا جو» على بطل العالَم الكوري «لى سيدول» بعد أربعة عقودٍ من اعتقاد الخبراء أنّ هذه اللّعبة عصيّةٌ على التشفير الكامل لِما تحويه من تعقيدٍ مذهل يزيد على عدد الذرّات في الكون المنظور، ومع ذلك، فإن هذا النصر على ما يحملُه من دلالاتٍ رياضيةٍ مبهرة، فإنه بالنسبة للخوارزمية فاقدٌ للإحساسٍ بمعنى الفوز أو بوقع نشوته النفسية؛ فيبدو ذكاء يحلّ المشكلةَ ضمن ضوابطَ رياضية صريحةٍ جدا، ولكنه لا يتلمّسُ «أفق القيم» التي يمكن أن تجعل من الفيلسوف الأخلاقي يتساءل: لِمَ نلعب؟ وما مغزى الربح والخسارة والمشاعر المصاحبة لهما؟
الفرق بين الذكاء والحكمة
بمثل المشهد الذي سقناه آنفا، يبرز الفرقُ الجوهري بين الذكاء والحكمة؛ فالذكاء، بمفهومه المعرفي، يُعرَّفُ بوصفه القدرةَ على تمثيل المعرفة ومعالجتها والوصول إلى هدفٍ مُعيَّن بأقلِّ كلفةٍ زمنيّة أو حسابيّة، وأما الحكمة، وفق التراث الفلسفي من أرسطو إلى كانط؛ فإنها أقربُ وصفا إلى «ملكة التبصّر» التي تُشرفُ على شبكة العِلل والغايات؛ فتوازنُ بين القريب والبعيد، وتربطُ المتغيّرات الظاهرة بالقيم العليا المتوارثة أو المُستحدَثة، وباستطاعتنا أن نقول إن الحكيم لا يبحثُ عن جوابٍ صحيحٍ فحسب، وإنما يسعى إلى جوابٍ عادلٍ وأمينٍ على تعدّد سياقات الواقع وتعقيدات البشر.
تحديات رقمنة الحكمة
تكمنُ المعضلةُ الأولى في محاولتنا «رقمنة» الحكمة في كونها تأبى الاختزالَ إلى قواعدَ صارمة أو معادلاتٍ مغلقة الشكل؛ فالحكمةُ نتاجُ تفاعُلٍ طويلٍ بين التجربة الفرديّة والتقاليد الجمعيّة والإدراك الحدسي لما يمكن أن ينجُم عن أفعالنا بعد عقودٍ أو قرون من التجربة الإنسانية. كشفت دراساتُ علم النفس العصبي أنّ قشرة الفص الجبهي «Prefrontal cortex»، المسؤولة عن التقويم الأخلاقي طويل الأمد، تتفاعلُ مع نظامِ الثواب الآني في الدماغ؛ لتوازن بين لذةٍ عاجلة ومكسبٍ مستقبلي ليس بالضرورة أن نستمتع به نحن، وإنما من يأتي بعدنا من الأجيال؛ لنتساءل: كيف للآلة وخوارزمياتها الرياضية التي تَحُدُّها منظومة إلكترونيّةٌ جامدةٌ -لا تعرفُ موتًا بيولوجيًّا ولا إرثًا جينيًّا- أن تعي مغزى الاختيارات التي تمتدّ تأثيراتها إلى ما بعد عمرها الافتراضي؟ يُجادلُ أنصارُ «الذكاء الاصطناعي المُوَجَّه قيميًّا» -أو ما يُعرف بــ Value Alignment- أنّ الحلَّ ممكنٌ عن طريق مزاوجة الخوارزميات بنماذج تعلّمٍ تعزيزي تدمجُ في دوالِّ «Functions» المكافأة متغيّراتٍ أخلاقيةً متعدّدة الأبعاد، ويمكن أن يُضاف مع هذه الدوالّ مُعامِلاتٍ «Weightings» تُسقِطُ الكمّيَّ على النوعي؛ فتمنحُ العقوبةَ وزنًا أكبر إذا مسّت بكرامة إنسان، أو أدرجت «مَعْلَم الحياد بين الأجيال» الذي يُضاعِف كلفةَ السياسات الملوِّثة بيئيًّا، لكن مثل هذا الافتراض، يصطدم بثلاث مشكلات: أولها مشكلة معرفيّة؛ فيجب على المصمّم أن يُحدِّدَ مسبّقًا قائمةَ القيم التي ينبغي للنظامِ مراعاتُها، وفي حين أننا نلحظ أن التاريخ الإنساني ذاته لم يصل إلى إجماع مطلق معني بسلّم أولوياتٍ أخلاقي واحد؛ فيبقى السؤال: هل تُعطَى الأولويّةُ للحرية الفرديّة أم للعدل الاجتماعي؟ وللمنفعة الأعظم أم للحقوق اللصيقة بالشخص؟ وما وزنُ الجمال والسمو الروحي في معادلاتٍ تتعقّبُ المتغيرات في وجودنا المادي؟
تأتي المشكلة الثانية في جانب تقنّي؛ حيث تتطلّبُ رقمنة الحكمة قدرةً على إدراك العواقب غير المباشرة وغير المتوقّعة التي تفترض تحقيق محاكاةٍ للوجود -العالم والكون- بقدرٍ من الدقّة لم يحققه أقوى حاسوب في عصرنا الحالي -بما في ذلك الحوسبة الكوانتميّة-؛ فالنماذج التنبؤية الحاليّة، على ضخامتها، تتقهقر حين تدخلُ عواملُ اجتماعيّة ونفسيّة واقتصاديّة يتعذّر اختزالُها إلى بياناتٍ صلبة.
يمكن أن نقول إن المشكلة الثالثة «معرفيّة» «إبستيمولوجيّة» التي تتعلق بـ«ثقة المستخدم»؛ فحال افترضنا أنّنا نجحنا في توليد خوارزميةٍ «حكيمة»؛ فسؤالنا: كيف سنُقنِع الإنسانَ العادي بقبولِ توصياتها إذا خالفت حدسه الجمعي أو مصالحه الآنيّة؟ إذ يتطلب التحكّم الخوارزمي بمصائر البشر شفافيّةً تامّة في الآلية التفسيرية (Explainability) التي تجعل قرارات النظام مفهومةً لا لخبراء العلم وحسب، وإنما للعامة الذين سيجدون آثارها.
هل رقمنة الوعي وتحقق حكمة الخوارزمية ممكن علميا؟
في خضّم هذه الجدليات المتأرجحة بين العلم والفلسفة، تتدافع الأسئلة؛ فنطرح منها: هل الحكمةُ جوهرٌ يُمكن نقله رقميًّا أم أنها تجربةٌ حَيَّةٌ تستلزمُ وعيًا شعوريًّا لا تمّحِصُه رقمنة مهما بلغت دقتها؟ حيث يقترح بعضُ فلاسفةِ الوعي مثل «توماس نيجل» و«جون سيرل» أنّ الوعي الذاتي (Subjective Consciousness) يتجاوزُ الحَصْرَ في البِنى الحاسوبيّة؛ فيحملُ لونًا كيفيًّا لا يُختَزَل إلى حسابٍ رياضي، وإن افترضنا بصحة هذا الادّعاء؛ فلا يمكن أن نقيس الحكمةُ بالكفاءةِ وحدها، ولكن بوجود «ذوق أخلاقي» يُشبه تذوّقَ الفن ونشوةَ الشعر، وحينها؛ فإنّ سَعْيَنَا لرقمنة الحكمة يكون ضربًا من الاستحالة إلا إذا تحقّق للآلة شكلٌ من الوعي الذاتي يجعلها تختبرُ تبعات أفعالها شعوريًّا كما يفعل البشرُ. في نطاق علمي مدهش، تثير فكرةُ رقمنة الوعي التي يمكن لبعض المذاهب العلمية الحديثة أن تسمّيها بـ(Mind Uploading) سؤالا عن إمكانية نقل الشيفرة العصبية إلى وسيطٍ رقمي؛ إذ تعتمد نظريات مثل تكامل المعلومات (IIT) على أن الوعي ناتجٌ عن تكاملٍ فيزيائي معقَّدٍ للمعلومات -وفقَ ما أشارت إليه دراسةٌ بعنوان «Integrated information theory: from consciousness to its physical substrate» «نظرية المعلومات المتكاملة: من الوعي إلى ركائزها الفيزيائية» المنشورة في مجلة «Nature» عام 2016-، ونحتاج أن نقرَّ أن قدراتنا التقنية ما زالت على عتباتها الأولى ومتواضعة أمام القدرات البيولوجية خصوصا عند الإنسان؛ فنكتفي ما استطاع العلمُ أن يقدّره من عدد الخلايا العصبية في الدماغ البشري بحوالي 8.6×10¹ خلية عصبية و10¹ تَشابُكٍ، وثمة ما يخفى عن العلم فيما يتعلق بالقدرات الخفية للدماغ البشري وامتداده العقلي الواسع الذي بدأ للعلم -عبر فيزياء الكوانتم- كشف أسراره، وحينها؛ فإننا أمام تحديات تقنية جذرية تجعل من إمكانية تحقق «رقمنة الوعي والحكمة» أمرا في غاية التعقيد إن لم يكن في غاية الاستحالة.
لعلّ السبيل الأيسر إلى ردْم الفجوة يمكن أن ينطلق من بروز للتواضعٍ المعرفي الذي يقرّ بحدود ما تستطيع الآلة فعله وحدها؛ فيُدخِلُ الإنسان شريكًا دائمًا في هذه العملية، ويُمكن بناءُ أنظمة قرارٍ هجينةٍ (Human-in-the-Loop) تجعلُ الحكم البشرىّ نهائيًّا في المسائل ذات التأثير الممتدّ عبر الأجيال؛ ونضرب مثلا باستطاعة نظام مُدرَّب على بياناتٍ تاريخيّة ومدعوم بمُحاكياتٍ مناخيّة أن يقترح خططًا للاستثمار في الطاقة المتجدّدة بوجود برلماناتٍ مُنتخَبةً أو مجالسَ وطنية -حكومية- تشاركيّة تملك حق حسم نسبة المخاطرة المقبولة.
للحديث شجون وسطور كثيرة، ولكن نختم مقالنا بقولنا إن الهوةَ بين الذكاء والحكمة انعكاس لصراعٍ أقدمَ داخل المنظومة الإنسانيّة نفسها -فردا ومجتمعا-؛ فنراها بين عقل الأداة والعقل المعياري؛ فإذا كانت الآلةُ -في زمننا الحالي- تجسيدًا مُكثَّفًا لعقل الأداة؛ فإنّ مسؤوليتنا الأخلاقيّة تقتضي أن نمنحها شيئا من العقل المعياري أو نُبقِي إنسانًا يقظًا على سدّة القيادة، وحتى موعد حسم السؤال الوجودي الأكبر المتعلق بتحقق «وعي السيليكون»؛ سيبقى الحُكمُ الأخير على سُلّم القيم للإنسان الحكيم، لا في خوارزمية تتحرك وفقَ قوانين رياضية متجردة من الحكمة، وسيبقى مشروعُ رقمنة الحكمة حلمًا يقظًا يذكّرنا بأنّ التفوّق الرياضي ليس مدخلًا كافيًا إلى جنّة الأخلاق الفاضلة.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الحوثيون يستهدفون صناع الوعي.. حملات اختطاف وقمع ممنهجة للمعلمين في تعز وإب
في سياق يتجاوز حدود الانتهاكات الفردية، ويكشف عن ملامح النظام القمعي الخبيث، تواصل ميليشيا الحوثي الإيرانية في اليمن تنفيذ سياسة تكميم الأفواه وإسكات العقول، متخذة من المعلمين هدفًا رئيسيًا في حربها ضد الوعي المجتمعي والاستقلال الفكري.
وتحوّلت المدارس من مؤسسات تعليمية في مناطق سيطرة الميليشيات إلى ساحات مواجهة فكرية، بات فيها المعلمون مهددين ليس فقط بالفصل والحرمان من الرواتب، بل بالاعتقال والاختفاء القسري أيضًا.
مديرية ماوية بمحافظة تعز تمثل اليوم واحدة من أبرز بؤر التصعيد الحوثي ضد المعلمين والشخصيات المجتمعية. حيث وثقت الحقوقية وعضو اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، إشراق المقطري، تنفيذ المليشيا حملة اعتقالات تعسفية طالت تسعة مواطنين، بينهم معلمون وأئمة وخطباء مساجد.
وأكدت أن عمليات الخطف تمت دون أي مسوغ قانوني أو توجيه تهم رسمية، بل رافقتها مداهمات مسلحة للمنازل، وإرهاب لعائلات المختطفين، ما يعكس سياسة قمع ممنهجة تستهدف النسيج المجتمعي المقاوم للهيمنة الطائفية.
هذه الممارسات ليست جديدة، بل تأتي في سياق تصعيدي بدأ منذ سنوات، وتزايدت وتيرته عقب مقتل الشيخ حنتوس في محافظة ريمة، حيث لجأت الجماعة إلى إجراءات عقابية في المناطق المتبقية تحت سيطرتها، لتصفية ما تصفه بـ"النشاط المعادي"، والذي يشمل في حقيقته أي شكل من أشكال الرفض أو الاستقلال الفكري.
بالتوازي مع تعز، شهدت محافظة إب حملة مشابهة، حيث داهمت ميليشيا الحوثي منازل المعلمين عباس حميد الوشاح وعبده صالح الخياني في مديرية القفر، واعتقلتهما دون إذن قضائي.
وبحسب مصادر محلية، فإن الاعتقالات جاءت على خلفية بلاغات كيدية قدّمها مشرفون حوثيون، تتهم المعلمين بعدم تنفيذ برامج طائفية في المدارس أو التأثير "السلبي" على معنويات الطلاب المجندين.
اللافت في الحالتين – ماوية وإب – أن الاستهداف الحوثي لا يقتصر على الآراء أو الأنشطة العلنية، بل يشمل الحياد المهني ذاته، إذ بات يُنظر إلى أي معلم لا يردد سردية الجماعة كخصم محتمل. وهو ما دفع ميليشيا الحوثي لتكثيف أدوات السيطرة على المدارس، من خلال تعيين مشرفين طائفيين بلا مؤهلات، وتغيير المناهج، وتحويل العملية التعليمية إلى أداة تعبئة عقائدية تخدم المشروع الإيراني في اليمن.
ولا تكتفي ميليشيا الحوثي بالترهيب الجسدي والمطاردة الفكرية، بل تمارس تجويعًا ممنهجًا بحق الكوادر التربوية، من خلال قطع رواتب المعلمين منذ سنوات، في محاولة لتركيعهم وإجبارهم على الخضوع الكامل لسلطتها. ورغم الوعود المتكررة، لم تصرف المليشيا سوى مبالغ رمزية على هيئة مساعدات موسمية، بينما تُخصص الموارد المستولى عليها لصالح آلة الحرب والدعاية الطائفية.
هذا الحرمان المتعمد من أبسط حقوقهم المعيشية يجعل المعلمين الحلقة الأضعف، لكنه أيضًا يكشف عن إدراك الجماعة لحجم تأثير هذه الشريحة، وسعيها المحموم لشلّها تمامًا.
ورغم تصاعد الانتهاكات الموثقة، تلتزم معظم المنظمات الدولية المعنية بالتعليم وحقوق الإنسان الصمت، الأمر الذي يمنح الحوثيين ضوءًا أخضر للاستمرار في جرائمهم. وقد حذرت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات، إلى جانب عدد من الناشطين، من أن هذا الاستهداف الممنهج قد يؤدي إلى كارثة تربوية وإنسانية، تُفرغ البلاد من معلميها وكوادرها المؤهلة، وتترك جيلاً كاملاً عرضة للتجهيل والتجنيد الإجباري.
شخصيات تربوية ومجتمعية من إب وتعز طالبت بوقف هذه الحملات، والإفراج الفوري عن المختطفين، وضمان حق المعلمين في الأمن والتعبير والعيش الكريم. وشددت على ضرورة تحييد قطاع التعليم عن الصراعات، مؤكدة أن ما يجري ليس استهدافًا لأشخاص، بل لمستقبل وطن بأكمله.
وأصبح المعلمون في مناطق سيطرة الحوثي في خط المواجهة الأول مع واحدة من أشد أدوات القمع فتكًا: سلطة ترى في المعرفة تهديدًا، وفي الوعي خطرًا يجب محوه. وما بين الخطف والتجويع والتضليل، تُخاض معركة بقاء صامتة، ينتصر فيها من يصمد لأجل الحقيقة، ومن يُدرّس الأمل وسط الظلام، ولو كان مهددًا بالاعتقال في أي لحظة.