ما الذي يدفع بعض الأبناء لرفض المراكز الصيفية، حتى عندما يحرص الأهل على اختيار برامج نافعة ومناسبة لهم؟ وهل من الخطأ أن يُفرض عليهم ذلك (من باب المصلحة)؟ هل تقاس التجربة التربوية بنجاح التنفيذ أم بمدى القناعة والمشاركة الفعلية؟

هذه الأسئلة تطرح كل صيف داخل كثير من البيوت، حين تتقاطع رغبة الأهل في الاستفادة من الإجازة، مع فتور أو رفض من الأبناء.

في هذا المقال، نفتح الملف التربوي الذي يعاد طرحه سنويًا:

هل مشاركة الأبناء في المراكز الصيفية تحتاج إلى موافقتهم أم أن القرار يتخذ لمصلحتهم حتى إن لم يقتنعوا به؟ وما الطريقة المثلى لجعل التجربة التربوية فعالة لا شكلية؟

مع نهاية العام الدراسي، يبدأ أولياء الأمور بالبحث عن مراكز صيفية تحتضن أبناءهم خلال الإجازة الطويلة، في محاولة لاستثمار أوقاتهم بما هو نافع ومفيد. لكن خلف هذا الحرص يكمن قلق حقيقي من أن تمضي الإجازة سدى: ساعات طويلة أمام الشاشات، نوم مضطرب، انشغال مفرط بتطبيقات ترفيهية، وتراجع في المسؤولية والانضباط. وهذا القلق مشروع ومفهوم، بل يعكس وعيًا بأهمية استثمار الوقت.

لكن المشكلة لا تكمن في الحرص، بل في طريقة ترجمته إلى قرار؛ فحين يُدار هذا الخوف بالإجبار بدل الحوار، يتحول من دافع تربوي إلى ضغط يولد رفضًا أو جمودًا من الطرف الآخر.

ومع إدراك ولي الأمر لأهمية البرامج الصيفية وما تحققه من تهذيب وصقل وتوجيه، إلا أن الواقع قد يفاجئه أحيانًا برفض من قبل أحد الأبناء، وفتور في الحماس، أو مقاومة صريحة، مما يضع الأسرة في موقف حرج بين القناعة بأهمية التجربة، وغياب استعداد الابن للانخراط فيها.

وهنا يُطرح السؤال التربوي الجوهري:

هل موافقة الابن أمر ضروري فعلا؟

تجمع الدراسات الحديثة في علم النفس التربوي على أن الدافعية الذاتية هي المحرك الأهم للتعلم الفعال والتطور السلوكي. بمعنى آخر، لا يكفي أن يكون البرنامج جيدًا أو أن تكون النية صادقة، بل يجب أن يكون الابن مقتنعًا ومندمجًا ليحقق الأثر المرجو.

عندما يُلحق الابن بمركز صيفي دون اقتناع، غالبًا ما يظهر أحد نمطين سلوكيين:

إما الحضور الجسدي مع غياب ذهني ووجداني، أو اتخاذ موقف الرفض والمقاومة، من خلال التذمر المستمر أو افتعال المشكلات. وفي كلا الحالين، تفرغ التجربة من مضمونها التربوي. ومن هنا نحتاج أن ندرك أن رفض الابن لا يعني بالضرورة تمردًا. فقد يكون بسبب تجربة سابقة سلبية، أو شعور بالملل من البرامج التقليدية، أو خوف من البيئة الجديدة، أو ببساطة: غياب التوضيح، أو اختلاف في الميول. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير أننا في زمن تنوعت فيه البدائل بشكل غير مسبوق، فالمراكز الصيفية لم تعد نمطًا واحدًا. هناك مراكز لتحفيظ القرآن الكريم وتدبره، إلى جانب مراكز للفنون، وللتقنية، وورش لتنمية المهارات القيادية، بالإضافة إلى دورات رقمية مرنة تناسب ميول الأبناء المختلفة، وهذا يعني أن فرض خيار وحيد لم يعد مبررًا، بل قد يكون نتيجة تقصير في البحث أو ضعف في الحوار. لكن من المهم أيضًا الإشارة إلى أن هذا التنوع لا يعني أن جميع البدائل مكلفة أو نخبوية، فحتى التجارب البسيطة إن صُممت بحب وتوجيه فإنها قادرة على إحداث فرق في شخصية الابن.

ولا يُغفل أن تقبل الأبناء للمراكز الصيفية يبدأ من البيت، فكلما غُرست فيهم قيمة الوقت، والفضول المعرفي، واحترام الخبرات، كانوا أكثر استعدادًا لتجارب تربوية جديدة. فالرفض أحيانًا لا يعود للبرنامج بحد ذاته، بل لسياق التكوين المعرفي والمزاجي الذي سبق التجربة.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المشاركة لا تعني التنازل عن دور ولي الأمر، بل تعني ممارسته بأسلوب ناضج. فالتربية الرشيدة تجمع بين الحزم واللين، وتربي على المسؤولية من خلال الاحترام. وموافقة الابن لا تعني أننا نخضع لرغباته دائمًا، بل إننا نشعره بأنه شريك، وأن رأيه معتبر ضمن نطاق الرعاية والتوجيه. وإشراك الابن في القرار لا يعني أننا نساويه بولي أمره في السلطة التربوية، بل نعلّمه كيف يبدي رأيه ضمن إطار المسؤولية، ونشعره أن الحوار لا يُلغي التوجيه، بل يعمقه.

ويجب أيضًا أن نفرق في التعامل حسب العمر، فالابن في المرحلة الابتدائية يحتاج إلى توجيه واضح وإطار محدد، بينما في مرحلة المراهقة يحتاج إلى مساحة من الاستقلال التدريجي، تناسب متطلبات مرحلته العمرية وتطلعه للنضج وبناء الذات، لذا فإن إدارة المرحلة العمرية بوعي تجنب الكثير من التصادم التربوي. فإذا رفض الابن الالتحاق بالمركز، فإن الحل لا يكون بالضغط المباشر، بل بالإنصات أولًا، وتقديم بدائل، ومراعاة اهتماماته، وربما اقتراح تجربة قصيرة (للاختبار) لا للإلزام.

كذلك من المهم استبدال التهديد بالتحفيز، واستخدام لغة تظهر الثقة لا الخوف. وفي حال استنفدت الوسائل، يبقى من حق ولي الأمر أن يوجه القرار، ولكن بروح راقية تحترم كرامة الابن، وتُشعره بأن القرار لرعايته لا لكسر إرادته.

وقد يقول البعض: «دع الابن يذهب ولو مكرهًا.. فربما يندمج مع الأيام ويتأقلم»، وهذا احتمال وارد فعلا، لكنه ليس قاعدة تربوية يمكن التعويل عليها. فبعض الأبناء ينسجمون لاحقًا، لكن البعض الآخر ينغلق أكثر، أو يخرج بانطباع سلبي يزيد نفوره من أي تجربة مستقبلية مشابهة.

لذا فإن فرض المشاركة دون تمهيد أو إشراك في القرار، قد ينجح أحيانًا، لكنه ليس بالضرورة نجاحًا تربويًا ناضجًا.

التربية الرشيدة تحسن قراءة شخصية الابن، وتختار له ما يناسبه، لا ما يناسب افتراضاتنا العامة.

فالمراكز الصيفية لا تصنع التحول حين تكون مفروضة، بل حين تُدار بحوار، وتُخاض بقناعة.

عندها فقط، يكون الصيف وقتًا للنضج لا للاستهلاك.

د. صابرة بنت سيف الحراصية أكاديمية تربوية عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مونيكا وليم تكتب: تحليل النهج السياسي الخارجي في ضوء النظرية السياسية.. مقاربة مصر ما بعد 30 يونيو نموذجًا

حتى لو اختلف البعض أو أبدى عدم رضا إزاء بعض الملفات الداخلية، فلا جدال في حقيقة متفق عليها تقريبًا بين قطاع واسع من المصريين، لولا 30 يونيو، لكان وضع مصر اليوم مختلفًا تمامًا، بل وربما كارثيًا بالنظر إلى الانهيارات والصراعات التي اجتاحت الإقليم، وإلى مشروعات إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط التي بدأت خططها بالفعل تحت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، واستُكملت لاحقًا بأدوات متعددة وبآليات تنفيذ في الفترة الثانية من إدارة الرئيس دونالد ترامب.

وبالتالي حين نتأمل السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو 2013 في ضوء مدارس الفكر السياسي والنظريات المفسرة للعلاقات الدولية، نجد أنفسنا أمام حالة ثرية لتحليل كيف تقاطع الإدراك الوطني لمفهوم الأمن القومي مع ضرورات تكييف السياسات الخارجية وفق بيئة دولية وإقليمية متغيرة بشكل متسارع وتفرض موائمات وتفاعلات متباينة .
إن النظريات الكبرى للعلاقات الدولية  الواقعية، والليبرالية، والبنائية تقدم أطرًا لفهم نهج ومقاربة الدول في سياستها الخارجية، وفي حالة مصر، يمكننا أن نرصد مزيجًا دقيقًا بين منطق الواقعية السياسية (Realpolitik)، حيث الأولوية القصوى لحماية الدولة وبنيتها، وبين توظيف أدوات الانفتاح والتعاون الاقتصادي المتنوع على نحو أقرب إلى الطروحات الليبرالية التي ترى أن تشابك المصالح الاقتصادية يُقلّل من فرص النزاعات.

وعليه ، برزت عدة مسارات للتحرك مثلت أولويات الدولة المصررية، منها  أولوية بقاء الدولة (State Survival)فوفق المنظور الواقعي، تعتبر الدولة الوحدة المركزية للنظام الدولي، وتتمثل غايتها العليا في ضمان بقائها وصيانة سيادتها؛ وهو ما انعكس جليًا في مقاربة مصر بعد 30 يونيو، حيث أعادت ترتيب أولوياتها الخارجية لتجعل من دعم استقرار الدولة الوطنية في الإقليم حجر الزاوية في سياستها. فتدخلت دبلوماسيًا، بل أحيانًا أمنيًا غير مباشر، لدعم الجيوش الوطنية في ليبيا، والسودان، واليمن، مع إصرارها على رفض سيناريوهات التقسيم أو الانهيار التي تهدد وحدة تلك الدول، إدراكًا لما يمثله ذلك من امتداد مباشر لمخاطر أمنية على الداخل المصري.
إلي جانب نهج تنويع الشراكات كأداة لموازنة القوة (Balancing) فمن منظور الواقعية الكلاسيكية الجديدة (Neoclassical Realism)، تلجأ الدول متوسطة القوة إلى تنويع شراكاتها الدولية لتفادي التبعية وللحد من ضغوط القوى الكبرى، وهو ما فعلته مصر عبر الانفتاح على روسيا والصين وعقد صفقات عسكرية وتنموية واسعة، إلى جانب المحافظة على مواطن التعاون التقليدية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وقد منحت هذه السياسة قدرة مناورة أكبر واتخاذ موقف حاسم وحازم  في ملفات حيوية مثل القضية الفلسطينية وفلسفة التهجير ، سد النهضة، وصفقات التسليح، وتوازنات شرق المتوسط، وعلي الجانب الأخر بناء الهوية والمكانة في النظام الإقليمي.  

وبالنظر إلي أن مصالح الدول لا تحدد فقط عبر التوازنات المادية، بل كذلك عبر الهويات والادراك. وقد سعت مصر في العقد الأخير إلى استعادة مكانتها بوصفها الدولة المركز عربياً وإفريقياً، بدا ذلك في تصدّرها جهود الوساطة في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي قيادة مبادرات داخل الاتحاد الإفريقي، أذ أعادت مصر بعد 30 يونيو دائرة الاتصال مع إفريقيا بقوة، بعد غياب طويل انعكس في خسارة مصالح استراتيجية، فقد قام السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بسلسلة زيارات مكثفة تجاوزت 35 زيارة ولقاء مع قادة الدول الإفريقية منذ عام 2014، مما أعاد مصر لاعبًا مهمًا في ملفات القارة، خاصة في مجالات الأمن المائي ومشروعات البنية التحتية والطاقة، خاصة ان هذه السياسات لم تخدم مصالح مادية آنية فقط ، بل تعزز صورة مصر كفاعل إقليمي لا غنى عنه.

فضلا عن ذلك، اتسم النهج المصري بعد 30 يونيو بقدر عالي من البراغماتية قائم على تنوع الدوائر ، وعدم الامتثال  لتحالفات تقليدية فقط مع القوى الغربية متجنبًا الانخراط في محاور صدامية قد تستنزف قدرات الدولة، فحتى مع تطوير علاقات وثيقة مع الشرق كتحالف روسيا والصين، فلم يتم انتهاج ساسة صدامية فيما يخص علاقاتها المؤسسية بالولايات المتحدة أو بالاتحاد الأوروبي، بل استمرت في شراكات اقتصادية وأمنية واسعة وانخرطت مصر في تكتلات إقليمية ودولية جديدة مثل “بريكس+”، في سياق عالم متعدد الأقطاب،  في الحقيقة تعكس هذه السياسة فهمًا دقيقًا لديناميات القوة في النظام الدولي، حيث تجنب الانحياز الأحادي يمنح الدول متوسطة الحجم هامشًا أوسع لحماية مصالحها.

ختاما ما بين النظرية والتطبيق ،فإن تحليل النهج السياسي الخارجي المصري بعد 30 يونيو يكشف عن مقاربة متوازنة تمزج بين هاجس حماية الدولة ، وبين توظيف الأدوات الاقتصادية والتحالفات المتعددة مع بُعد هوياتي ودورٍ إقليمي تسعى الدولة المصرية إلى إعادة ترسيخه 
ويمكن القول ، إن السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو تقدم نموذجًا لكيفية تكييف الاستراتيجيات الوطنية مع التحولات الكبرى في بنية النظام الدولي، بما يضمن استقرار الدولة ومصالحها في بيئة إقليمية شديدة السيولة وقد ظهر انعكاس هذه السياسة الجديدة في عدد من الأزمات الخارجية الأخيرة، حيث حاولت بعض الأطراف فرض أوراق ضغط على مصر أو ابتزازها سياسيًا،  إلا أن هذه السياسة الخارجية التي حرصت على تنويع الشراكات والاعتماد على منطلقات مصرية خالصة، ساعدت الدولة على امتلاك أوراق مناورة مهمة، جعلت قرارها وتحركها السياسي الخارجي نابعًا من معتقداتها ومصالحها القومية، لا مجرد استجابة لضغوط أو إملاءات.

طباعة شارك 30 يونيو خريطة الشرق الأوسط دونالد ترامب

مقالات مشابهة

  • محمود الهواري: الضغوط الحياتيَّة لا تبرِّر التخلِّي عن واجب تربية الأبناء.. صور
  • حكم التوسعة على الأهل يوم عاشوراء.. الإفتاء تجيب
  • مسفر الهزاع يوضح: أفضل طرق استثمار وقت الأبناء في الصيف.. فيديو
  • قبل امتحان الجغرافيا.. خبير تربوي يوجه نصائح تربوية لطلاب الثانوية لحل المادة
  • مونيكا وليم تكتب: تحليل النهج السياسي الخارجي في ضوء النظرية السياسية.. مقاربة مصر ما بعد 30 يونيو نموذجًا
  • زد يطلب استعارة ثنائي الأهلي.. وموافقة ريبيرو تحسم الصفقة
  • مصر والنمسا تتفقان على مقاربة شاملة للهجرة وتعميق التعاون الثنائي
  • تشييع جثمان التربوي عبده الصراري في مديرية خدير
  • لقاءات لوزيرة التربية للبحث في شؤون القطاع التربوي