وتارا وغباغبو.. 30 عاما من الصراع على السلطة بكوت ديفوار
تاريخ النشر: 3rd, July 2025 GMT
على مدى أكثر من 3 عقود، ظلت الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار موسما لكل المخاوف والهواجس من اندلاع العنف والفوضى في البلاد التي حكمها الرئيس فيليكس هوفويت بوانيي منذ الاستقلال عام 1960، ولم تعرف التعددية الحزبية إلا في عام 1990، أي قبل 3 سنوات من رحيله.
ومنذ وفاة بوانيي عام 1993، أصبحت الحياة السياسية في البلد حكرا على 3 شخصيات رئيسية، هي هنري كونان بيديه (توفي عام 2023) ولوران غباغبو، والرئيس الحالي الحسن وتارا، وهم سياسيون فرقتهم أمور كثيرة (الدين والأيديولوجيات والإثنية.
وكان لكل واحد مبرره في ادعاء الجدارة بخلافة هوفويت بوانيي، فالراحل بيديه كان رئيسا للبرلمان وسمح له الدستور بتولي رئاسة البلاد لحين موعد الانتخابات، بينما شغل واتارا منصب رئيس الوزراء في عهده، أما المعارض غباغبو فكان يبرر حلمه بالرئاسة بكونه لعب دورا في إقرار التعددية الحزبية في البلاد وخاض الانتخابات عام 1990 أمام الرئيس الأول بوانيي.
محطات التحالف والتخالففي هذه السياقات، بدأت أولى فصول علاقة طويلة بين وتارا (83 عاما) وغباغبو (80 عاما) حيث اتسمت بالتنسيق والتحالف أحيانا، وبالخلاف والصراع الحاد أحيانا أخرى، إلى أن رست على ما هي عليه الآن من توتر صامت، بينما تستعد البلاد لانتخابات رئاسية في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وبين الرجلين من عوامل الاختلاف أكثر مما بينهما من القواسم المشتركة، فوتارا رجل اقتصاد مشهود له دوليا بالكفاءة إذ اشتغل في البنك الدولي ومؤسسات أخرى، أما غباغبو فهو أستاذ تاريخ ونقابي معارض لحكم الرئيس هوفويت بوانيي.
كما يختلف الرجلان دينيا وجغرافيا، فالحسن وتارا ينحدر من شمال البلاد وهي منطقة تقطنها غالبية مسلمة، نسبة مهمة منها قدمت من دول الجوار (بوركينا فاسو ومالي) للعمل في قطاع البن والكاكاو، أما غباغبو فهو من جنوب البلاد ذي الأغلبية المسيحية.
إعلانوعلى هذه الخلفية المتباينة بين رجل من داخل المنظومة الحاكمة وآخر تكوّن في صفوف المعارضة، حصلت في عام 1992 أول حلقة في مسلسل التصادم بينها عندما تم اعتقال غباغبو خلال مظاهرة سلمية، بموجب قانون "لمكافحة الشغب" وضعته حكومة واتارا، ومكث في السجن 6 أشهر تعرض خلالها للضرب والإذلال.
لكن بعد وفاة هوفويت بوانيي عام 1993، وتولي بيديه الحكم بالوكالة، وفي الطريق إلى انتخابات عام 1995، تحالف وتارا وغباغبو في "جبهة الجمهورية" لمواجهة بيديه، لكنهما أخفقا في الحيلولة دون فوزه في الاقتراع.
ورغم خسارتهما في السباق الانتخابي، واصل وتارا وغباغبو التحالف في جبهة المعارضة ضد الرئيس بيديه إلى أن تمت الإطاحة به عام 1999 في انقلاب عسكري قاده الجنرال روبرت غاي.
رئاسة غباغبو وإقصاء وتاراوفي أجواء انتخابات الرئاسة عام 2000 تحول وتارا وغبابو إلى خصمين لدودين، وتمكن الأخير بالتحالف مع الرئيس السابق بيديه، من الفوز برئاسة البلاد في سياق سياسي اتسم بالتوتر الشديد بعد أن حُرم وتارا من خوض السباق بسبب ما عرف آنذاك بقانون "الهوية الإيفوارية".
وتمت صياغة ذلك القانون أيام حكم الرئيس بيديه (1993-1999) ، في خضم التوترات العرقية بين شمال البلاد وجنوبها.
واشترط القانون في المترشح لرئاسة البلاد أن يكون والداه مولودين في كوت ديفوار، وهو ما بدا آنذاك وكأنه مصمم لإجهاض حلم وتارا برئاسة البلاد بحكم أصوله العائلية من بوركينا فاسو.
وأثار ذلك القانون جدلا سياسيا حادا في البلاد تطور في عام 2002 إلى حرب أهلية بدأها متمردون في شمال البلاد، محسوبون سياسيا على وتارا، وزحفوا في اتجاه الجنوب ووصلوا إلى مدينة أبيدجان التي تحولت إلى ساحة مواجهات بين المتمردين وأنصار غباغبو سقط فيها آلاف القتلى.
وعندما حل الموعد الدستوري للانتخابات عام 2005، لم تكن البلاد قد تعافت من آثار الحرب الأهلية، فظل الرئيس غباغبو يرجئ الاقتراع إلى غاية عام 2010، وهو تاريخ المواجهة الحاسمة مع وتارا الذي دخل السباق متحالفا مع بيديه.
ورغم أن نتائج الاقتراع أظهرت تقدم المرشح وتارا واعتراف المجتمع الدولي بذلك، فإن الرئيس المنتهية ولايته غباغبو ظل متمسكا بالسلطة مدعيا أنه الفائز الحقيقي في الاقتراع.
وبقي التوتر سيد الموقف في البلاد، وتطور الأمر إلى مواجهات عنيفة بين أنصار الخصمين راح ضحيتها نحو 3 آلاف قتيل، إلى أن تدخلت قوات خاصة فرنسية واعتقلت غباغبو وسلمته لقوات الرئيس المعترف به دوليا الحسن وتارا.
وتم تقديم غباغبو إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنها برأته عام 2019 وعاد إلى بلاده في 2021 في إطار تسوية مع خصمه وتارا الذي استقبله في القصر الرئاسي، وأعلنا معا طي صفحة الخلافات بينهما.
ورغم ذلك، ما زال غباغبو يواجه عقوبة بالسجن 20 عاما، والحرمان من الحقوق المدنية 10 سنوات، لإدانته عام 2019 بسرقة أموال من بنك أبيدجان المركزي خلال فترة ما بعد انتخابات 2010، وهو ما يضع حاجزا قانونيا أمام طموحاته السياسية.
إعلانومنذ عودته للبلاد، واصل غباغبو نشاطه السياسي وأسس حزبا سياسيا جديدا، ولم يتخل عن حلمه بالعودة إلى كرسي السلطة، لكن اسمه كان خارج اللوائح الانتخابية الأخيرة التي تم إعلانها تمهيدا لانتخابات أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
ورغم ذلك، لم يبق غباغبو مكتوف الأيدي، إذ بادر في هذه الأجواء إلى إطلاق حركة واسعة سماها "كفاية" كمنصة لتوحيد الأصوات المعارضة للرئيس وتارا ومن أبرز أعضائها غيوم سورو، حليف وتارا السابق الذي يوجد خارج البلاد منذ عدة سنوات، وتيجاني تيام، زعيم المعارضة المستبعد بدوره من سباق الرئاسة بقرارات قضائية وسياسية.
ويبدو تحرك غباغبو، – الذي يعتبره كثيرون جزءا من الماضي بحكم تجربته الرئاسية السابقة وما شابها من أعمال عنف- امتدادا لمسلسل الشد والجذب الطويل مع غريمه وتارا.
سياقات مختلفةوقد جاءت الخلافات بين الرئيسين السابق والحالي هذه المرة في سياقات مختلفة، إذ تغيرت فيها أمور كثيرة في البلاد التي غاب عنها عدة سنوات.
وبحكم السلطة فقد تعززت شرعية وتارا تدريجيا منذ عام 2011 وشهدت البلاد في عهده إنجازات اقتصادية كثيرة في ظل حالة من الاستقرار في جوار إقليمي شهد الكثير من الانقلابات العسكرية.
ويحرص أنصاره على التذكير بأن فترة حكمه شهدت فوز المنتخب الوطني لكرم القدم بكأس أفريقيا مرتين، عامي 2015 و2014.
في غضون ذلك، لا يزال وتارا يلتزم الصمت بشأن الترشح لولاية رابعة في الانتخابات المقبلة، بينما تشير معطيات كثيرة إلى أنه يتجه للبقاء في السلطة ما دام أنه لم يفصح عن دعمه لأي خلف محتمل من كوادر حزبه، وذلك في أجواء يبدو أنها تتجه للقطع مع أشباح الماضي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات هوفویت بوانیی فی البلاد فی عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
لا ثقة في العسكر.. مقاربة في البنية السياسية للعالم العربي
تشترك التجارب السياسية في السودان ومصر والعراق وسوريا واليمن والجزائر وليبيا في خاصية مركزية تكاد تُشكّل سمة بنيوية للدولة العربية الحديثة: هيمنة المؤسسة العسكرية على المجال السياسي، إمّا بصورة مباشرة عبر الانقلابات وتولي السلطة، أو بصورة غير مباشرة من خلال التحكم في مسارات القرار المدني وإعادة تشكيل الحقول السياسية والاقتصادية بما يضمن استمرار النفوذ العسكري. وفي ضوء هذه المعطيات، تبرز إشكالية مركزية: هل يمكن للعسكر، في السياق العربي، أن يكونوا جزءا من الحل، أم أنهم يرسّخون بنية المشكلة ذاتها؟
يستدعي تناول هذه الإشكالية العودة إلى التجارب التاريخية التي أُحيطت، في بداياتها، بخطاب تحرري أو حداثي أو تنموي، لكنها انتهت إلى نماذج سلطوية مغلقة. فقد جاءت الانقلابات العسكرية في منتصف القرن العشرين استجابة – في ظاهرها – لمطالب التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة. غير أن المسار التاريخي سرعان ما كشف تحوّلا جوهريا: انتقال المؤسسة العسكرية من فاعلٍ وطني إلى فاعل سلطوي، يختزل الدولة في بنيته التنظيمية ويُفرغ المؤسسات المدنية من مضمونها.
تبرز تجربة عبد الرحمن سوار الذهب استثناءً تاريخيا؛ فقد تولّى الرجل السلطة في السودان بعد انتفاضة 1985م، والتزم بما وعد به: إدارة مرحلة انتقالية قصيرة تفضي إلى تسليم السلطة للمدنيين. مثال السودان في هذا السياق بالغ الدلالة؛ فقد شكّلت العلاقة بين المدنيين والعسكريين محور التجربة السياسية السودانية منذ الاستقلال، وتكررت خلالها محاولات لترتيب معادلة توازن بين المؤسستين، لكن الغلبة كانت ـ في المحصلة ـ لصالح تدخل الجيش في السياسة. وقد عبّر الدكتور حسن الترابي، وهو أحد أبرز الفاعلين الإسلاميين، عن إدراك متأخر لهذا المأزق عندما قال في برنامج "الإسلاميون" الذي بثّته قناة الجزيرة منذ سنوات: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما تحالفتُ مع العسكر". يمثّل هذا الاعتراف، من زاوية أكاديمية، لحظة نقد ذاتي نادرة، تكشف هشاشة المراهنة على المؤسسة العسكرية بوصفها شريكاً في مشروع التحول السياسي.
ويبدو أن الإشكال ذاته تكرر في بلدان أخرى، حيث صعد قادة مثل جمال عبد الناصر، حافظ الأسد، ومعمّر القذافي من خلفيات عسكرية مغلقة، محمّلين بوعي طبقي وسياسي صدامي، وبنزعة تحديثية ذات طابع فوقي. غير أن مشاريعهم انتهت إلى بناء أنظمة أمنية متصلّبة، ارتبط فيها الجيش وشبكات الاستخبارات والبيروقراطية بنمط من الحكم التسلطي، أسهم في إضعاف البُنى المجتمعية، وتدمير المجال السياسي، وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي خاضع للولاء السياسي. وهنا يطرح سؤال تحليلي نفسه: هل كانت الأزمة نابعة من شخصيات هؤلاء القادة، أم من منطق البنية العسكرية حين تتحول إلى فاعلٍ سياسي مركزي؟
وسط هذه الصورة القاتمة، تبرز تجربة عبد الرحمن سوار الذهب استثناءً تاريخيا؛ فقد تولّى الرجل السلطة في السودان بعد انتفاضة 1985م، والتزم بما وعد به: إدارة مرحلة انتقالية قصيرة تفضي إلى تسليم السلطة للمدنيين. هذه التجربة، برمزيتها الأخلاقية والسياسية، توفر مادة مهمة لدراسة إمكانات التحول المدني في الدول ذات التاريخ العسكري. ومع ذلك، لم تتحول إلى تقليد مؤسسي داخل الجيش السوداني، الذي عاد بعد سنوات قليلة إلى بنية التدخل السياسي، وصولا إلى الحرب الحالية التي تُظهر كيف تنزلق الجيوش، حين تفقد المهنية والاستقلال، إلى أدوار تتجاوز الوظيفة الأمنية إلى صراعات مسلحة معقّدة تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية.
إنّ خلاصة التجربة التاريخية تشير إلى أن الرهان على العسكر لإنتاج انتقال سياسي ديمقراطي لا يزال رهانا ضعيف الأساس، لأن منطق المؤسسة العسكرية ـ كما تشكّل في السياقات العربية ـ يقوم على مركزة السلطة لا على توزيعها. و إنّ الإشكال البنيوي الأهم يتمثل في أن الجيوش العربية، في أغلبها، نشأت في سياقات دولة ما بعد الاستعمار، حيث كانت المؤسسة العسكرية إحدى دعائم بناء الدولة الجديدة، ولم تُبنَ مؤسسات مدنية قوية قادرة على أن تشكّل رادعاً ضد عسكرة السياسة. وبفعل هذا التاريخ، أصبح الجيش ـ في كثير من الدول ـ المؤسسة الأكثر تنظيما وتمويلا وهيكلة، ما جعله قادرا على ملء الفراغ السياسي عند كل أزمة. وهنا يبرز سؤال منهجي يحتاج إلى مزيد من التفكيك: هل تتدخل الجيوش لأنها راغبة في السلطة، أم لأنها تجد المجال المدني هشّا إلى درجة تجعل تدخلها يبدو، ظاهرياً على الأقل، ضرورة وطنية؟
وتزداد الإشكالية تعقيدا حين نأخذ في الاعتبار أن العديد من الأنظمة العسكرية لم تكن تعمل بمعزل عن القوى الدولية، التي وجدت في هذه الأنظمة شريكا أكثر قابلية للضبط من الحكومات المدنية المنتخبة. وهذا ما يعيد طرح سؤال آخر: إلى أي مدى يمكن فصل مسؤولية العسكر عن دور القوى الخارجية التي عزّزت حضورهم واستثمرت في بقائهم؟
من منظور بحثي صرف، يبدو أننا أمام بنية سياسية تتكرر فيها العناصر نفسها: هشاشة مدنية، صعود عسكري، شرعية أيديولوجية عابرة، ثم استبداد طويل، وانهيار مؤسساتي، وأزمات اجتماعية واقتصادية ممتدة. وفي كل مرة تتكرر التجربة، تُطرح الأسئلة ذاتها دون جواب نهائي: هل يمكن للجيش العربي أن يتحوّل إلى مؤسسة مهنية محايدة؟ هل يمكن لمشروع ديمقراطي أن ينجح في بيئة بنيته التكوينية مشدودة إلى نموذج "المنقذ العسكري"؟ وهل يمكن تفكيك الإرث التاريخي للعسكرة من دون عملية إعادة تأسيس شاملة لمفهوم الدولة ودورها وحدود سلطتها؟
إنّ خلاصة التجربة التاريخية تشير إلى أن الرهان على العسكر لإنتاج انتقال سياسي ديمقراطي لا يزال رهانا ضعيف الأساس، لأن منطق المؤسسة العسكرية ـ كما تشكّل في السياقات العربية ـ يقوم على مركزة السلطة لا على توزيعها. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحا: هل يمكن بناء مشروع "دولة مدنية" مستقرة من دون إعادة تعريفٍ جذري لعلاقة الجيش بالسياسة؟ وهل تكفي الإرادة الداخلية لتحقيق ذلك، أم أن توازنات الإقليم والعالم تجعل هذه المهمة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه؟
*باحث من المغرب