وقفة.. الأنظمة المَلَكية العربية بين الأصالة والتحديث
تاريخ النشر: 9th, July 2025 GMT
عبدالنبي الشعلة
في زمنٍ تتكرر فيه دعوات الهدم أكثر من دعوات البناء، ويتسابق فيه كثيرون إلى التغيير دون وعي بنتائجه وبدائله، تبدو الحاجة ماسّة إلى قراءة هادئة ومتأنية لتجاربنا العربية مع أنظمتها السياسية المختلفة، وفي مقدمتها الأنظمة الملكية التي صمدت وقادت وأثبتت في كل الحالات أنها قادرة على الاستقرار والتطوير معًا.
لقد أظهرت لنا التحولات التي عصفت بالمنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، أن إسقاط الأنظمة الملكية في عدد من الدول العربية لم يكن مفتاحًا للحرية ولا جسرًا للتنمية، بل كثيرًا ما أعقبه فشل وفوضى وانهيار لمقومات الدولة، وفي المقابل فإن المَلَكيات العربية أثبتت -في مجملها- قدرة أعلى على الاستقرار، واستيعاب التحولات، وقيادة مشاريع التنمية بمرونة سياسية ومسؤولية تاريخية. من هنا، تأتي أهمية استحضار التجارب التاريخية، واستخلاص الدروس منها، والبناء على الموروث لا هدمه، والاستفادة من النماذج المضيئة في تاريخ المَلَكيات العربية.
إن الدعوة إلى صون الأنظمة الملكية العربية لا تعني الجمود، بل تعني الاحتفاظ بجذور الاستقرار، والسعي إلى تطويرها بما يواكب العصر، ويُبقي على المشروع الوطني حيًا متماسكًا. ولعل من بين أنضج الدروس التي يمكن استحضارها في هذا السياق، ما جسدته مصر في عهد الخديوي إسماعيل، ذلك الطموح الذي جعل من المَلَكية رافعة للتحديث والتطور والنهوض.
لقد راودتني هذه التجليات حين عادت بي الذاكرة إلى شهر مايو من العام 2020، عندما كنت في زيارة لمدينة الإسكندرية، وتزامنت زيارتي تلك مع إعلان افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، حين أطلّ الرئيس عبدالفتاح السيسي من على ظهر اليخت الملكي الشهير (المحروسة) معلنًا تدشين المشروع. وقد لفت انتباهي عرض فيلم وثائقي بعنوان "محروسة عبر الزمن"، استعرض تاريخ هذا اليخت الذي يُعد أقدم يخت من نوعه في العالم لا يزال في الخدمة، حيث نقل ملوكًا ورؤساء، وواكب فصولًا فارقة في تاريخ مصر الحديث، من عهد الخديوي إسماعيل إلى الملك فاروق، الذي غادر على متنه إلى منفاه بعد إجباره على التنازل عن العرش في العام 1952.
أثار الفيلم شغفي لرؤية اليخت عن قرب، وانتظرت ثلاثة أيام في الإسكندرية دون أن أفلح في ذلك. كان راسيًا قبالة قصر "رأس التين" التاريخي، الذي شهد بدوره بدء حكم أسرة محمد علي باشا، ونهايته. قصرٌ مهيب، لا يزال يحمل بين جدرانه عبق الحكم الملكي، وفنونه، وذوقه الرفيع. هناك، يتقابل القصر واليخت كرمزين لعصرٍ ملكيّ لم يكن مجرد سلطة، بل مشروعًا حضاريًا.
كان الخديوي إسماعيل باشا، الذي تولى الحكم عام 1863، أول من حمل لقب (خديوي) في مصر، وهذا اللقب اختص به ولاة مصر دون غيرهم من ولاة الدولة العثمانية، ومعناه "السيد المُطاع"، وهي كلمة مشتقة في الأساس من الكلمة الفارسية "خُدا" أي "الرب" ولكن ليس بمعنى "الإله" ولكن بالمعنى القريب من "رب الأسرة" و"رب العمل" وما شابه، وقد ورث الخديوي إسماعيل من جده، محمد علي باشا، روح النهضة، وأراد أن يجعل من مصر دولة عصرية تضاهي أوروبا، ليس فقط في المظهر، بل في البنية التحتية، والإدارة، والتعليم، والثقافة.
في عهده، وُضعت اللبنات الأساسية للدولة الحديثة؛ إذ أنشئت دار الأوبرا، وشُيد كوبري قصر النيل، وقصر عابدين، وقصر القبة، وقصر رأس التين، وتوسعت شبكة السكك الحديدية، وتم افتتاح قناة السويس بمشاركة ملوك وأمراء أوروبا، الذين دعاهم الخديوي شخصيًا عبر رحلة بحرية على متن (المحروسة). كانت القاهرة في عهده تضاهي باريس في جمالها وتنظيمها، واستُقدمت البعثات والخبرات الأوروبية، وعاشت مصر نهضة عمرانية وثقافية واقتصادية غير مسبوقة.
يخت المحروسة، الذي بُني في أحواض "سامودا" البريطانية عام 1865، كان تحفة بحرية نادرة تمثل ذوق إسماعيل وفهمه لأهمية الرمز في بناء الدولة الحديثة. في داخله، لوحات زيتية، وسجاد فاخر، وزخارف فرعونية وإسلامية، وتحف فنية من أوروبا وآسيا، تجعل من المحروسة متحفًا عائمًا، لا مجرد وسيلة تنقل.
غير أن طموح واندفاع الخديوي إسماعيل، الذي تجاوز إمكانات الدولة، قاده إلى الاستدانة من المصارف الأوروبية، بشروط ثقيلة، ما تسبب في تضخم الديون، وتدخل الأوروبيين في شؤون مصر المالية، ثم السياسية. وتحت ضغط مباشر من بريطانيا وفرنسا، أُجبر السلطان عبدالحميد الثاني على إصدار مرسوم بعزل الخديوي إسماعيل عام 1879، وتعيين ابنه توفيق بدلًا منه.
وإذا كان الخديوي إسماعيل قد سقط، فإن رؤيته وطموحه ظلا ثابتين تَحمَّل مسؤولية تحقيقهما خَلَفه من الأولاد والأحفاد حتى شهر يوليو 1952 عندما تغيرت أولويات وأهداف وطموحات النظام الجمهوري الجديد.
كانت نهاية الخديوي إسماعيل مأساوية لرجلٍ أحب بلاده، إلا أن استعجاله عجّل بتعثره وسقوطه؛ فقد حلم بالخروج من الهيمنة العثمانية، وتأسيس دولة ذات شأن بين الأمم، فدفع ثمن حلمه. ومع ذلك، فإن تاريخه لا يُقرأ من زاوية نهايته فقط، بل من مشاريعه، وآثاره، وبصمته التي ما تزال شاهدة حتى اليوم.
وليس الهدف من هذا المقال مجرد إحياء ذكرى الخديوي إسماعيل، أو التغني بالقصور والصروح التي شيدها وبناها، ولا بـ"المحروسة" كتحفة بحرية مميزة، بل التذكير بأن الملكية، حين تكون صاحبة مشروع، تُحدث فرقًا. إن الاستقرار الذي تنعم به معظم الأنظمة الملكية العربية اليوم لم يكن صدفة، بل نتيجة لرؤية مرنة، وقدرة على التكيف، وحكمة في ضبط إيقاع التغيير.
وإذا كنا ننتقد أي تكلس أو بطء في بعض المسارات الملكية، فإن العلاج ليس في إسقاط أو عرقلة هذه الأنظمة أو إرباكها، بل في دعمها والمساهمة في ترسيخها وتطويرها من الداخل، وتجديد شرعيتها عبر تعزيز المشاركة، وتوسيع الحريات، وضمان العدالة. فالملكية، بطابعها الرمزي، وقدرتها على توحيد المكونات المجتمعية، تظل قادرة -إذا شاءت- على أن تكون صمام أمان لا عبئًا، وأن تتحول من "نظام موروث" إلى "مشروع متجدد".
إن دعوتنا لحماية الملكيات العربية لا تنطلق من حنينٍ إلى الماضي، ولا من تمجيد لشكل الحكم، بل من قراءة واقعية لتجربة القرن العشرين في منطقتنا. لقد أطاحت الانقلابات بالملكيات في عدد من الدول العربية، لكن شعوب تلك الدول لم تجنِ غير القمع أو الفوضى. ومن لم يتعلم من التاريخ، قد يكرّر أسوأ فصوله.
إننا حين نتمسك بالملكية، فإنما نتمسك بما يضمن التوازن، والهوية، والاستمرارية، شرط أن تتطور هي أيضًا، وتنفتح، وتلتحم بالشعوب. الخديوي إسماعيل لم يكن مثاليًا، لكنه كان صاحب رؤيا وطموح، وكان سابقًا لعصره. ويخت "المحروسة" لم يكن مجرد سفينة، بل رمزًا لتلك اللحظة التي حلمت فيها المَلَكية العربية بالتقدم، لا بالتسلط.
لقد أثبتت التجربة أن الأنظمة الملكية، حين تقترن برؤية تحديثية وشعور بالمسؤولية التاريخية، يمكن أن تكون ضمانة للاستقرار، وجسرًا للتنمية، وعاملاً رئيسًا في تحقيق النهضة والتماسك الاجتماعي. من هنا تأتي أهمية صون هذه الأنظمة، والعمل على تطويرها وتجديد مشروعيتها بالتحديث المستمر، والالتصاق بالمجتمع، وتوسيع المشاركة، واحترام الهوية الوطنية.
إن ما نحتاج إليه اليوم هو الاستمرار في تطوير الأداء وتجديد المشروع. فالأمة التي تتعلم من تاريخها، وتحفظ ركائز استقرارها، وتكرّم رموزها الذين بنوا، لا تهدم حاضرها بيدها، ولا تُسلم مستقبلها لمجهول الغوغاء أو للتيه السياسي. لقد أنعم الله علينا في دول مجلس التعاون الخليجي بثروة نفطية وافرة نجحت قياداتنا الواعية وأنظمتنا الملكية الحاكمة في المحافظة عليها واستغلالها واستثمارها في أنجع وأفضل السبل والأوجه، في حين أن دولا عربية أخرى أنعم الله عليها أيضًا بالثروة ذاتها، إلى جانب غيرها من الثروات، إلا أن قياداتها وأنظمتها الحاكمة، أضاعت كل تلك الثروات وبددتها ولم تتمكن من تحقيق ما حققناه من اختراقات وإنجازات.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
غارديان: دونالد ترامب يسعى إلى تغيير الأنظمة في أوروبا
يرى الكاتب الصحفي جوناثان فريدلاند أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب لم تعد مجرد شريك متردد لأوروبا، بل تحولت إلى طرف معادٍ يسعى صراحة إلى التأثير في مستقبلها السياسي.
وقال الكاتب -في عموده بصحيفة غارديان- إن الأمر وصل إلى العمل على تغيير الأنظمة داخل القارة، استنادا إلى ما ورد في إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة التي تقول إن "تنامي نفوذ الأحزاب الأوروبية الوطنية" مدعاة لتفاؤل كبير، وإن الولايات المتحدة ستفعل ما بوسعها لمساعدة أوروبا على "تصحيح مسارها الحالي".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست: "الدعم السريع" تحتجز آلاف الرهائن وتقتل مَن لا يدفع فديةlist 2 of 2نيوزويك: 3 مؤشرات على حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وفنزويلاend of listوقد وجهت إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة انتقادات حادة إلى أوروبا، واعتبرتها مهددة بالاندثار الحضاري بسبب الهجرة وتراجع المواليد وما تصفه بقمع حرية التعبير.
وأكد الكاتب أن هذا الخطاب الذي يعكس رؤية ثقافية وعنصرية ترى أن أوروبا تفقد هويتها البيضاء والمسيحية لا يقتصر على لغة أيديولوجية أو مزايدات إعلامية، بل يمثل خطة سياسية واضحة تعلن واشنطن بموجبها نيتها دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة واليمين المتشدد في دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبي.
ويربط فريدلاند هذا التوجه بالمصالح الروسية، معتبرا أن تقويض الاتحاد الأوروبي هدف إستراتيجي قديم بالنسبة لموسكو، وهو ما يفسر الترحيب الروسي بالسياسة الأميركية الجديدة، في تقاطع غير مسبوق بين موقفي واشنطن والكرملين.
لحظة مفصليةويتناول المقال أسباب العداء الأميركي للاتحاد الأوروبي، مرجحا أن جزءا منه يعود إلى قدرة الاتحاد على فرض قيود وتنظيمات تحد من نفوذ شركات أميركية وشخصيات نافذة مثل إيلون ماسك، إضافة إلى رغبة ترامب في التعامل مع دول أوروبية متفرقة يسهل الضغط عليها بدل تكتل قوي موحد.
إعلانوبغض النظر عن الدوافع يؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة باتت ترى الاتحاد الأوروبي خصما لا حليفا، وهو واقع لم يعد قابلا للإنكار، وبالفعل حاول المدافعون عن ترامب القول إن الإدارة لا تعادي أوروبا بحد ذاتها، بل الاتحاد الأوروبي تحديدا.
أوروبا تواجه لحظة مفصلية تتطلب شجاعة سياسية للاعتراف بأن التحالف الأطلسي يمر بأزمة عميقة، وأن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا
وعلى الصعيد الأمني، ينتقد فريدلاند الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا، معتبرا أن واشنطن تمارس ضغوطا على كييف للقبول بشروط تصب في مصلحة روسيا، في وقت يتجاهل فيه قادة أوروبيون -بمن فيهم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته– حقيقة أن أقوى دولة في الحلف باتت أقرب إلى موسكو منها إلى حلفائها التقليديين.
من جهة أخرى، يسلط الكاتب الضوء على التناقض في الموقف البريطاني، حيث يعلن رئيس الوزراء كير ستارمر دعمه لأوكرانيا، لكنه يواصل إعطاء الأولوية للعلاقة مع واشنطن على حساب التعاون الأوروبي، سواء في ملفات الدفاع أو التجارة.
ويخلص المقال إلى أن أوروبا تواجه لحظة مفصلية تتطلب شجاعة سياسية للاعتراف بأن التحالف الأطلسي يمر بأزمة عميقة، وأن الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا.
وفي ظل هذا الواقع، يدعو الكاتب القادة الأوروبيين إلى مواجهة الحقيقة وبناء موقف أوروبي أكثر استقلالية وتماسكا بدل التمسك بعلاقات لم تعد متبادلة ولا قائمة على الثقة القديمة.