لبنان بين ابتسامة بارّاك وعدوان إسرائيل: قراءة في الرسائل الأمريكية المبطّنة
تاريخ النشر: 9th, July 2025 GMT
لم يكن من السهل على الوفد اللبناني الرسمي أن يقرأ بدقّة ما حمله الموفد الأمريكي توماس بارّاك خلال زيارته الثانية إلى بيروت، لكنّ من تابع تعابير وجه الرجل، وتقلّبات جسده خلال اللقاءات الرسمية، كان بإمكانه أن يدرك أن ابتسامته الدائمة لم تُخفِ حقيقة الرسائل المقلقة التي جاء بها. فقد أطلّ علينا بديبلوماسية هادئة ولطيفة، لكنّها كانت محمّلة بما يكفي من الإشارات "الساخنة" التي لا يمكن إغفالها.
بكلمات قليلة، قالها أمام الرؤساء اللبنانيين: "دبّروا رؤوسكم"، لا قرارات حاسمة من الخارج، ولا جدول زمنيا ملزما من واشنطن، بل "افعلوا ما تقدرون عليه بأنفسكم". وتلك الجملة وحدها تختصر تماما المقاربة الأمريكية الجديدة لملف سلاح "حزب الله": المسؤولية لبنانية أولا، ولا أحد في الخارج مستعدّ لخوض هذه المعركة بالنيابة عنكم.
وبعيدا عن اللهجة التصعيدية التي كانت تتوقّعها بعض الجهات اللبنانية، اختار بارّاك أن يلعب لعبة الرسائل المشفّرة. فبدلا من التصريحات الحادّة والتهديدات المباشرة، عمد إلى تكريس سياسة "الإدارة الهادئة للأزمات" التي تتّبعها إدارة ترامب في المدى الراهن، ريثما تتّضح مسارات الحرب في غزة واليمن وإيران. لكنه، رغم ذلك، أطلق أربع إشارات واضحة:
بعيدا عن اللهجة التصعيدية التي كانت تتوقّعها بعض الجهات اللبنانية، اختار بارّاك أن يلعب لعبة الرسائل المشفّرة. فبدلا من التصريحات الحادّة والتهديدات المباشرة، عمد إلى تكريس سياسة "الإدارة الهادئة للأزمات" التي تتّبعها إدارة ترامب في المدى الراهن، ريثما تتّضح مسارات الحرب في غزة واليمن وإيران
1- شرعنة يد إسرائيل في الجنوب: أقرّ عمليا بحق إسرائيل في أن تفسّر وقف إطلاق النار كما تشاء، في ظل غياب أي لجنة مراقبة فاعلة، وفي ظل استمرار الغارات المحدودة والخرق المنهجي للقرار 1701.
2- تحديد مكان لبنان في الخريطة الإقليمية الجديدة: أوضح بارّاك أن سوريا الجديدة قد حجزت مكانها في التوازنات المقبلة، أما لبنان فهو على حافة الخروج منها ما لم يقدّم تنازلات فعلية، سياسية وأمنية واقتصادية.
3- تبرير الضغط الدولي القادم: أشار إلى أن الحزب والدولة سيتعرّضان لضغط متصاعد، سواء عبر العقوبات أو عبر التضييق على المساعدات أو عبر التحريض الدولي.
4- فتح الباب لصدام داخلي حول السلاح: حملت زيارته بذور الفتنة الوطنية، حين ألقى الكرة مجددا في ملعب اللبنانيين، داعيا إياهم إلى الاتفاق فيما بينهم حول مصير السلاح، وكأن هذا الملف لم يكن جوهر النزاعات السياسية منذ عام 2005.
وكان توقيت زيارة بارّاك متقاطعا مع لقاء نتنياهو- ترامب في واشنطن، ووسط أجواء تفاؤلية غير مسبوقة بعد الضربة التي أصابت إيران في عمق بنيتها النووية والصاروخية. وهذه اللحظة تُعتبر لدى واشنطن وتل أبيب "فرصة ذهبية" يجب استغلالها لتوجيه ضربة استراتيجية إلى "حزب الله"، ضمن ما تصفه إسرائيل بـ"إزالة التهديد شمالا".
لقد فقدت إيران الشريان السوري الذي كان يربطها عسكريا بـ"الحزب"، كما أن تركيزها بات اليوم منصبّا على إعادة بناء دفاعاتها، لا على دعم الحلفاء. أما مفهوم "وحدة الساحات"، فقد تلقّى أكثر من ضربة قاتلة، من بيروت إلى صنعاء. وخاض "الحزب" آخر معاركه، قبل شهور، من دون أن يتلقى دعما مباشرا يُذكر من أي من محوره، ما جعل واقعه القتالي أكثر هشاشة.
وفي ظل ذلك، تدفع إسرائيل، وبدعم أمريكي غير معلن، نحو تغيير قواعد الاشتباك. فبعدما قصفت البنية التحتية لحزب الله في الجنوب والداخل، قد تكون المرحلة المقبلة مخصّصة لضرب الهيكل القيادي والتكتيكي للحزب، بالتوازي مع تسريع الضغط السياسي والاقتصادي على الحكومة اللبنانية، التي باتت أمام معادلة شبه مستحيلة: إرضاء الأمريكيين والإسرائيليين من دون الاصطدام بالحزب.
جزء مهم من خطة بارّاك -كما فُهم من ورقته الأولى- يركّز على أسلحة "حزب الله" النوعية: الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة ومصانع التطوير والتصنيع. هذه الأسلحة موجودة بمعظمها في مناطق شمال الليطاني، وتشكّل الخطر الحقيقي على إسرائيل. لكن اللافت أن لا حديث أمريكيا واضحا عن السلاح الفردي والمتوسط في تلك المناطق، ما يثير سؤالا مقلقا: هل تُترك هذه الأسلحة لتتحوّل إلى عنصر تفوّق داخلي يستخدمه الحزب في السياسة؟ أم أن تركها جزء من تفاهم غير معلن لضمان بقاء "الحزب" كقوة سياسية مؤثرة شرط التخلي عن القدرة الهجومية؟
في المقابل، يتهيّأ المشهد السياسي الداخلي لصدام جديد. فبين قوى لبنانية تعتبر أن المرحلة مناسبة لحسم ملف السلاح، وأخرى متمسّكة بالمقاومة كخيار لا بديل له، يصبح من الصعب رسم أي "تفاهم داخلي" قريب. في هذا السياق، لمّح بارّاك إلى أن مسار الدعم المالي الخارجي سيُربط بتنفيذ الإصلاحات، ولكن أيضا بتقديم تنازلات في ملف السلاح، وهو ما قد يفاقم الضغوط على الحكومة ويدفع "الحزب" إلى إعادة تقييم موقعه.
ومع ذلك، لا مؤشرات على قرب تنازل جذري من طرف "حزب الله". بل إن السيناريو الأقرب، وفق التقديرات، هو أن تصعّد إسرائيل عملياتها، وأن تردّ واشنطن بمزيد من الضغوط غير المباشرة، بينما يتمسّك "الحزب" بسلاحه، ولو مقابل خسائر ميدانية كبيرة.
لبنان اليوم أمام لحظة مفصلية: فإما أن يبتكر تسوية سياسية تنقذ ما يمكن إنقاذه، أو يدخل في مسار الفوضى، حيث لا أحد يمكنه التنبؤ بنتائج الانهيار. أما "حزب الله"، فهو أمام خيار وجودي: إما أن يقدّم تنازلات مرحلية تضمن له البقاء في اللعبة، أو يواجه خطر التصفية في لحظة إقليمية متحوّلة لا ترحم أحدا
وكل ما قاله بارّاك في زيارته الأخيرة بدا مهادنا، من دعوته للحوار إلى حديثه عن عدم وجود جدول زمني صارم. لكن خلف هذه اللغة، يمكن رصد استراتيجية واضحة: إفساح المجال للضغط الإسرائيلي، ورفع اليد الأمريكية عن الدولة اللبنانية في حال لم تُنفذ المطلوب.
وفي الكواليس، تحدثت مراجع دبلوماسية أن ما قاله بارّاك عن "عدم وجود مهلة زمنية" هو مجرد ستار دخاني. فخطة نزع السلاح التي عُرضت في حزيران/ يونيو الماضي تضمنت مراحل واضحة، يفترض أن تنتهي في تشرين الأول/ أكتوبر، لذا فإن "كل ما يجري هو محاولة لإبقاء لبنان في حالة ترقّب، بينما تُحضّر إسرائيل لجولة جديدة من التصعيد".
وبارّاك ليس مجرد ديبلوماسي لبق، هو رجل مهمة، ويعرف تماما ما يريد. وقد أكّد بوضوح أنّ بلاده تقف إلى جانب إسرائيل، وأن على اللبنانيين أن "يدبّروا أمورهم" قبل فوات الأوان. وهو قال صراحة إن أمام لبنان ثلاثة أشهر فقط قبل أن تتغيّر المعادلات: إما تقدّم حقيقي في ملف السلاح، أو لا مساعدات ولا إعادة إعمار، بل فوضى قد تقلب المعادلة برمّتها.
وأخطر ما في زيارة بارّاك ليس في مضمون الورقة التي حملها، ولا في مواقفه التي أطلقها، بل في انكشاف حجم التناقض بين الداخل اللبناني والخارج. ففي الوقت الذي تتقدّم فيه تل أبيب نحو "معادلة أمنية جديدة" في الشمال، تتخبّط بيروت في نقاشات دستورية حول صلاحيات الرؤساء، وبينما تستعد واشنطن لجولة مفاوضات جديدة مع طهران، يجهد اللبنانيون لترقيع ردّهم على الورقة الأمريكية.
لذا، فإن لبنان اليوم أمام لحظة مفصلية: فإما أن يبتكر تسوية سياسية تنقذ ما يمكن إنقاذه، أو يدخل في مسار الفوضى، حيث لا أحد يمكنه التنبؤ بنتائج الانهيار. أما "حزب الله"، فهو أمام خيار وجودي: إما أن يقدّم تنازلات مرحلية تضمن له البقاء في اللعبة، أو يواجه خطر التصفية في لحظة إقليمية متحوّلة لا ترحم أحدا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء اللبناني الأمريكي حزب الله إسرائيل سوريا سوريا لبنان إسرائيل حزب الله أمريكي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات تكنولوجيا مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة م تنازلات حزب الله
إقرأ أيضاً:
مقاتلو العمال الكردستاني يبدأون تسليم أسلحتهم في العراق
بدأ عناصر من حزب العمال الكردستاني اليوم الجمعة إلقاء أسلحتهم، في مراسم تُقام قرب السليمانية بإقليم كردستان العراق بعد شهرين من إعلان المقاتلين الأكراد إنهاء أربعة عقود من النزاع المسلّح ضد الدولة التركية.
وتمثّل مراسم نزع السلاح نقطة تحول في انتقال حزب العمال الكردستاني من التمرد المسلح إلى السياسة الديموقراطية، في إطار جهود أوسع لإنهاء أحد أطول الصراعات في المنطقة وقد خلّف أكثر من 40 ألف قتيل منذ 1984.
وكان الحزب الذي أسسه عبدالله أوجلان في نهاية سبعينات القرن المنصرم، أعلن في 12 مايو/ مايو حل نفسه وإلقاء السلاح، منهيا بذلك نزاعا تسبب لفترة طويلة في توتر علاقات السلطات التركية مع الأقلية الكردية والدول المجاورة.
وجاء ذلك تلبية لدعوة أطلقها أوجلان في 27 فبراير/ شباط من سجنه في جزيرة إيمرالي قبالة اسطنبول.
وفي الأول من مارس/ مارس، أعلن الحزب الذي تصنّفه أنقرة وحلفاؤها الغربيون منظمة "إرهابية"، وقف إطلاق النار.
ولجأ معظم مقاتلي الحزب في السنوات العشر الماضية إلى مناطق جبلية في شمال العراق، حيث تقيم تركيا منذ 25 عاما قواعد عسكرية لمواجهتهم، وشنّت بانتظام عمليات برية وجوية ضدّهم.
بداية رمزيةوقال مسؤول في حزب العمال الكردستاني مطلع يوليو/ تموز إن حوالي 30 مقاتلا سيدمرون أسلحتهم ثم يعودون إلى الجبال.وأوضح المسؤول الذي طلب عدم كشف هويته "بهدف إظهار حسن النية، سيقوم عدد من مقاتلي الحزب الذين شاركوا في القتال في السنوات الماضية ضد القوات التركية، بكسر أو حرق أسلحتهم في مراسم خاصة في الأيام المقبلة".
وتمثل هذه الخطوة محطة رئيسية في المفاوضات غير المباشرة المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول بين أوجلان وأنقرة برعاية الرئيس رجب طيب إردوغان.
واضطلع حزب المساواة وديموقراطية الشعوب، هو ثالث أكبر فصيل سياسي في تركيا، بدور رئيسي في الوساطة بين أنقرة وأوجلان الذي يمضي عقوبة بالحبس مدى الحياة منذ 1999.
إعلانومن المتوقع أن يحضر مراسم الجمعة عدد من نواب هذا الحزب وصلوا الخميس إلى السليمانية، بالإضافة إلى عدد من الصحافيين.
وفي مقطع مصوّر مؤرخ في 19 يونيو/حزيران لكن بُثّ الأربعاء، قال أوجلان "في إطار الإيفاء بالوعود التي التزمنا بها، ينبغي … إنشاء آلية لإلقاء السلاح تُسهم في تحقيق تقدم في العملية، وانتهاء الكفاح المسلح بشكل طوعي والانتقال إلى المرحلة القانونية والسياسة الديمقراطية".
وأضاف الزعيم الكردي البالغ 76 عاما "بخصوص إلقاء السلاح سيتم تحديد الطرق المناسبة والقيام بخطوات عملية سريعة".
عملية طويلةمن جهته، قال إردوغان السبت للصحافيين في طريق عودته من قمة اقتصادية في أذربيجان إنّ جهود السلام مع الأكراد "ستتسارع قليلا عندما تبدأ المنظمة الإرهابية تنفيذ قرارها بإلقاء السلاح".
وفي تصريح آخر، قال أمام أعضاء في حزبه الحاكم الأربعاء "ندخل مرحلة جديدة سنتلقى فيها أخبارا إيجابية في الأيام المقبلة"، مضيفا "نأمل بأن تنتهي هذه العملية بنجاح في أسرع وقت، من دون أي حوادث أو محاولات تخريب".
وقال مصدر أمني عراقي إن عملية نزع السلاح "يُتوقّع أن تنتهي في العام 2026، على أن يتشكّل بذلك حزب سياسي جديد في تركيا".
ويأمل الأكراد في تركيا بأن يمهّد قرار الحزب الطريق أمام تسوية سياسية مع أنقرة، تفتح الباب أمام انفتاح جديد تجاه هذه الأقلية التي تُشكل نحو 20% من سكان البلد البالغ عددهم 85 مليون نسمة.