محمد أنور البلوشي

كان الدخان يحجب شمس الصباح، والرماد يتساقط كأنه ثلج أسود فوق مدينة لم تعد تتكلم إلا بلغة الحطام. غزة، تلك الرقعة من الأرض، لم تعد تنام ولا تصحو، بل بقيت عالقة بين صراخ طفل ونحيب أم، بين جوع وتيه، بين سماء تراقب بصمت وأرض مثقلة بالشهداء.

يتعثر الكاتب بين الركام، معطفه الذي كان بيجًا أصبح رماديًا من الغبار والرماد.

لا يحمل سلاحًا، ولا رغيفًا، فقط دفترًا ممزقًا وقلمًا يحتضر حبره. كان كل ما يملكه: الكلمة.

صوت فجائي شق الصمت:

"توقف!"

استدار. بندقية مصوّبة إلى صدره. جندي شاب، بشرته محروقة بالشمس، وخوذته تلمع ببرود، لا يحمل في وجهه غضبًا… بل برودة مطلقة.

"هل تحمل سلاحًا؟" سأل الجندي.

"فقط الكلمات"، أجاب الكاتب.

ضحك الجندي: "الكلمات أخطر من الرصاص أحيانًا. أنتم الكتّاب، وقود الفتن".

"أنا لا أحمل فتنة، بل شهادة"، قال الكاتب بهدوء.

"شهادة على ماذا؟" تساءل الجندي.

"على جريمة… على زمن يسقط فيه الأطفال كأوراق الخريف، بينما العالم يشرب قهوته بلا مبالاة.

"هل تخاف من الموت؟" قالها الجندي بسخرية.

"لا، لا أخافه. لكنني لا أريده الآن".

"ولماذا تريد أيامًا إضافية للحياة؟".

"لأكتب".

"تكتب ماذا؟" سأل الجندي.

"أكتب كتابًا، عنوانه: الجرائم الإسرائيلية تحت ظلّ السماء".

سادت لحظة صمت، كما لو أن الهواء نفسه توقف ليستمع.

قال الجندي: "وهل تظن أن كتابك سيغيّر شيئًا؟".

"لا أكتب لأغيّر العالم، بل لأحرجه، لأكشف عجزه، لأقول له: كنتَ تعلم… ولم تتحرك".

"كلماتك لن تطعم الجوعى، ولن تعيد الأموات".

"ربما، لكنني سأكتب عنهم حتى لا يُنسَوا. سأكتب عن آمال، سبع سنوات، مبتورة الساقين، تسألني كل صباح: "هل سأمشي في أحلامي؟" قلت لها: نعم… لكني لم أكتب ذلك بعد. إن متّ، مات وعدي معها".

خفض الجندي البندقية قليلاً. غبار الحرب يمرّ بينهما، والأنقاض تتنهد كشيخ عليل.

تابع الكاتب: "أنا لا أعدّ الأرقام. أنا أكتب الأسماء. ياسمين، خمس سنوات، رسمت عصافير على جدران الملجأ. كانت تظن أنها ستطير بها إلى الأمان. ماتت وطبشورتها في يدها".

أشاح الجندي بوجهه.

"رأيت سامر، طفل في التاسعة، يحمل شقيقته الرضيعة من تحت الأنقاض، يسير حافيًا ثلاثة كيلومترات ليصل خيمة الإغاثة. عندما وصل، سقط. كانت الطفلة قد فارقت الحياة".

"هل تظننا وحوشًا؟" سأل الجندي، بصوت خافت.

"الوحوش لا ضمير لها. أنتم، أخشى أن لديكم ضميرًا… لكنكم خنقتموه".

اهتزّ وجه الجندي، كأن شيئًا داخله انكسر.

"هل لديك أطفال؟" سأل الكاتب.

لم يجب الجندي.

"أنا كان لديّ. ابني كان يحبّ النجوم. قبل أن تُقصف مدرسته، سألني: "هل تتألم النجوم عندما تسقط؟" لم أستطع الإجابة، فقد سقطت السماء كلّها فوقنا".

دويّ انفجار قطع الحديث. الغبار ملأ المكان. صرخة بعيدة لامرأة، ثم صمت.

"لست أرجوك أن تعفيني"، قال الكاتب. "بل أرجوك أن تسمح لي بأن أُكمل."".

تردد الجندي. ثم قال بصوت متكسّر: "حتى لو قتلتك، سيكتب غيرك".

"نعم… لكن دعني أكتب قصتي".

مضت لحظات. لم يُطلق الرصاص.

مشى الكاتب مبتعدًا ببطء. لم يكن يعرف: هل كانت رحمة؟ أم ندمًا؟ خلفه، كان الجندي واقفًا وحده، سلاحه منخفض، ويداه ترتجفان… تحت ظلّ السماء.

وفي مكانٍ ما من تحت تلك السماء، كانت طفلة مبتورة القدمين تنتظر وعدًا… وعدًا لم يُكتَب بعد.

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

قبة المعراج في القدس معلم يخلد رحلة النبي ﷺ إلى السماء

قبة المعراج تقع داخل صحن الصخرة في المسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس، إلى الشمال الغربي من قبة الصخرة المشرفة. بنيت في العصر الأموي مع بناء قبة الصخرة، ثم هدمت في الفترة الصليبية، وأعاد بناءها الأمير عز الدين الزنجيلي في فترة توليه على القدس سنة 597 هـ، وتم تشييدها لتخليد ذكرى معراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

الموقع والتسمية

تقع قبة المعراج داخل ساحة المسجد الأقصى المبارك، إلى الشمال الغربي من قبة الصخرة المشرفة، في الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة الفلسطينية المقدسة.

وقد شيدت عام 1200 م بأمر من الأمير عز الدين الزنجيلي، والي القدس في عهد السلطان العادل أبو بكر بن أيوب.

وقد أشار الرحالة ناصر بن خسرو إلى أن هذه القبة بنيت مكان قبة أخرى قديمة تعود إلى عهد عبد الملك بن مروان قبل استيلاء الصليبيين على المدينة وهدمها.

وتسمى كذلك "قبة النبي" وهو اسم أطلق عليها في الفترة الأيوبية، وهناك من يسميها "قبة معراج النبي" للتذكير بحادثة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى من المسجد الأقصى المبارك.

قبة المعراج أعاد بناءها الأمير الزنجيلي عام 597هـ بعد أن هدمها الصليبيون أثناء احتلالهم المدينة المقدسة (إدارة أوقاف القدس)

وتشتهر قبة المعراج بتاج معماري فريد يعلوها، ووصفها فضل الله العمري في كتابه "مسالك الأبصار".

واتخذت القبة اسمها الحالي في العصر المملوكي، كما يشير العمري إلى ذلك عام 746 هـ/1345م، ويقول "بني عليها (أي فوق المصطبة) قبة مثمنة، تسمى قبة المعراج بابها يفتح للشمال، بينما في العصر العثماني وضعت آية الإسراء فوق محرابها تأكيدا لتسمية القبة بِقبة المعراج".

تاريخ البناء

يعود بناء قبة المعراج إلى العهد الأموي، وقد هدمها الصليبيون أثناء احتلالهم القدس، وبعد التحرير الأيوبي أعاد بناءها الأمير عز الدين الزنجيلي، متولي القدس الشريف عام 597 هـ/1201م، أي في العهد الأيوبي.

وأما زخرفة المحراب فكانت سنة 1195هـ الموافق 1781م، ومن المؤكد أن القبة أعيدت عمارتها بالفترة الأيوبية في عهد السلطان سيف الدين أبو بكر، وقد استفيد من النقش الموجود فوق المدخل الرئيسي، وفيما بعد جددها العثمانيون.

ويذكر الدكتور محمود الهواري -في رسالته عن المباني الأيوبية في القدس- أن المنبر الموجود في القبة أيوبي، رغم استخدام بعض العناصر المعمارية التي كانت موجودة بالفترة الصليبية، ويؤكد المبنى والنقش الذي بداخله أن المحراب أصيلٌ في المنبر ولم يضف إليه.

قبة المعراج شُيدت تخليدا لذكرى معراج الرسول محمد ﷺ (إدارة أوقاف القدس)المواصفات الهندسية

قبة المعراج مبنى صغير مثمن الأضلاع مثل قبة الصخرة المجاورة له، طول كل ضلع من أضلاعها 2.6 متر، وفي كل ضلع 4 أعمدة، عدا الضلع الجنوبي فيوجد به عمودان، وهي بذلك تقوم على 30 عمودا.

إعلان

وتحمل الأعمدة 8 عقود مدببة سُدت فتحاتها بالرخام الأبيض، وفي الجهة الجنوبية للقبة يوجد محراب حجري مكسو بالقيشاني الملون في زمن السلطان عبد الحميد الأول عام 1195هـ/1781م.

ويقابله ضلع آخر في الناحية الشمالية فتح به باب الدخول إلى القبة، وتعلو القبة الكبيرة أخرى صغيرة محمولة على 6 أعمدة تشبه "التاج" وهي من بقايا البناء الصليبي الذي أعاد استخدامه الأيوبيون.

وعرفت قبة المعراج الأموية بأنها كانت أعمدة بلا حيطان، بينما القبة الأيوبية أغلقت بالرخام وجعل لها باب يغلق بشكل دائم، واستخدمت القبة في العصر المملوكي لعقد دروس لسماع كتب الحديث النبوي الشريف، وأواخر القرن العشرين بدأت تستخدمها لجنة الإعمار بالمسجد الأقصى المبارك.

ويضم المسجد الأقصى المبارك 13 قبة عدا قبة الصخرة، بني أغلبها في العهدين الأموي والأيوبي، وتختلف في طراز بنائها وارتفاع كل منها.

ومن بين تلك القباب قبة السلسلة وقبة المعراج والقبة النحوية وقبة موسى وقبة سليمان وقبة الأرواح وقبة الخضر وقبة يوسف أغا وقبة عشاق النبي وقبة الشيخ الخليلي وقبة مهد عيسى.

مقالات مشابهة

  • خالد كبّارة يطلع مفتي طرابلس على واقع العمل البلدي
  • التطوير والتأهيل في الأندية واقع مؤلم
  • فيديو الجندي الأسير لدى القسام يثير ضجة في إسرائيل
  • مريم الجندي لـ «الأسبوع»: وافقت على المشاركة فى «فلاش باك» دون تردد.. ودوري مختلف
  • عرض زواج من السماء… ينتهي بسقوط طائرة وكارثة في تركيا!
  • صورة الجندي أفيتار تدفع عائلات الأسرى للمطالبة بوقف ما يحدث بغزة ووصفه بـالجنون
  • الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان: ما يحدث في غزة إبادة جماعية
  • قبة المعراج في القدس معلم يخلد رحلة النبي ﷺ إلى السماء
  • هل كانت ضوابط النشر العلمي خطأً جسيما أم فضيحة مستورة؟