على أنقاض القاعات التي كانت تفيض بالحياة، تجلس هبة العطار (19 عامًا) فوق كرسي محترق، بين جدران الجامعة الإسلامية بغزة التي طالما حلمت أن تكون طالبة فيها. تتأمل المكان بعينين مغرورقتين، تتخيل صفوف الطلبة والضحكات المتناثرة بين المقاعد، لكن الدمار سرق منها الحلم وحوّله إلى مأوى للنازحين.

كانت هبة تمني نفسها بيوم ترتدي فيه ثوب التخرج، تصافح أساتذتها وتحتفل مع أسرتها.

قبل الحرب بأسبوع واحد، أنهت شقيقتها الكبرى مسيرتها الدراسية، ووقفت بين أروقة الجامعة ذاتها، تحمل شهادتها بفخر.

تقول هبة لـ«عُمان»: «كنت أتمنى أن يحين دوري قريبًا، أن ينادوا اسمي في الحفل، أن أكتب أولى خطواتي نحو المستقبل». لكن الحرب جاءت لتسرق الأمل، وتترك قلبها مثقلاً بالخيبات.

اليوم، دخلت هبة الجامعة لا كطالبة، بل كنازحة تبحث عن مكان يؤويها مع عائلتها. القاعات التي حلمت أن تتلقى فيها العلم تحولت إلى خيام متلاصقة، وحبال غسيل، وأصوات أطفال يبحثون عن الدفء. لم يعد في المكان إلا الصدى، صدى الحلم الذي تلاشى.

في الليل، تستعيد ذكرياتها مع صديقاتها اللاتي كنّ يخططن للتقديم إلى الجامعة ذاتها: «كنا نرى فيها مستقبلنا، مكانًا نبني فيه أحلامنا؛ نتخيل في قاعات الدراسة، والجميع يصفق لنا. واليوم صارت مقبرة لهذه الأحلام».

تغالب دموعها، وتتمسك ببصيص أمل أن تعود الجامعة يومًا كما كانت، مكانًا يُصنع فيه المستقبل، لا أن يصبح شاهدًا على خراب العمران والإنسان.

منارة العلم المدمرة

تحولت جامعات غزة، وفي مقدمتها الجامعة الإسلامية، من مراكز إشعاع علمي إلى أطلال صامتة. الحرب قلبت المعادلة، فجعلت من الصروح الأكاديمية ملاجئ مؤقتة، ومن القاعات الدراسية أماكن نوم للعائلات المشرّدة.

كانت هذه الجامعات حاضنة لأحلام آلاف الطلبة والباحثين: تضم مختبرات حديثة، وفيها تُقام المؤتمرات العلمية، وتتخرج فيها دفعات من الخريجين الذين صنعوا بصمة في كل المجالات. لكن الاحتلال دمّر البنى التحتية، وأحال القاعات إلى ركام، والمكتبات إلى رماد.

هذا التحول لم يكن مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل ضربة موجهة للعقل الفلسطيني، لحرمان جيل كامل من المعرفة، وقطع الطريق أمام مستقبل آمن يعتمد على العلم والبناء الفكري.

في كل ركن من هذه الجامعات، حكاية طموح مهدور. في كل لبنة مهدمة، جرح مفتوح لا يندمل بسهولة، جرح لشعب حُرم من أبسط حقوقه: التعليم والأمل.

انقراض أكاديمي

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وثّق أن ست جامعات في قطاع غزة تعرضت للتدمير الكامل أو الجزئي، بينها ثلاث جامعات مُسحت عن الوجود تمامًا. هذا الاستهداف المتعمد أصاب قلب العملية التعليمية بالشلل.

انقطع أكثر من 88 ألف طالب وطالبة عن مقاعد الدراسة الجامعية، وحُرم 555 آخرون من الالتحاق بمنحهم الدراسية في الخارج. ثلاثة رؤساء جامعات قتلوا في غارات إسرائيلية، ومعهم عشرات الأكاديميين الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للحياة العلمية في القطاع.

لم تقتصر الخسائر على الأرواح، بل طالت المكان والمعنى. رُدمت مكتبات، وتحولت مختبرات إلى أنقاض، وضاعت سنوات من الجهد الأكاديمي في لحظة واحدة. تجاوزت الخسائر المادية حاجز 200 مليون يورو، في جريمة لم تُحاسب حتى الآن.

يؤكد المرصد أن هذه الأرقام مجرد بداية لقصة أكبر، فهناك عشرات الأساتذة الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا، ومئات المشاريع البحثية التي تبعثرت مع النزوح والدمار، ليبقى المشهد الأكاديمي في غزة مهددًا بالانقراض.

وعي مستهدف

الباحث الأكاديمي وسام أبو زيد يؤكد أن استهداف الجامعات كان قرارًا مقصودًا منذ الساعات الأولى للحرب. يقول: «الاحتلال لم يميز بين مقرات أكاديمية أو مدنية. كان واضحًا أن هناك قرارًا بإبادة البنية الفكرية في القطاع».

يشير أبو زيد إلى أن القصف أودى بحياة أكثر من 130 عالمًا وأكاديميًّا وخبيرًا، وأن دمار الجامعات ترك أكثر من 88 ألف طالب في فراغ تعليمي قاتل، بلا بدائل ولا خطط إنقاذ.

يضيف لـ«عُمان»: «الجامعات لم تكن هدفًا عسكريًّا. لم تشكل خطرًا على أمن إسرائيل، لكنها كانت تهديدًا لهيمنة الاحتلال على الفكر الفلسطيني. لذلك كان القضاء عليها محاولة لطمس الوعي وقطع الطريق أمام أجيال من المثقفين والباحثين».

ويختم بقوله: «هذا التدمير ليس حدثًا طارئًا، بل جزء من سياسة ممنهجة لإبادة الذاكرة الثقافية والمعرفية للشعب الفلسطيني».

حلم مؤجل

دانا محمد، طالبة في جامعة الأزهر، تروي مأساتها بوجه شاحب وصوت متقطع: «كنت أستعد لاجتياز امتحاناتي النهائية في كلية الطب، حلمي أن أصبح طبيبة أعالج مرضى غزة. حملت دفاتري معي حين نزحنا، معتقدة أن العودة قريبة، لكن القاعة التي درست فيها لسنوات صارت حفرة سوداء، يعلوها الغبار والدخان».

تصف دانا حياتها في مخيم خان يونس، التي اقتربت من عامين، بقولها: «أحاول أن أذاكر في الخيمة، على ضوء مصباح صغير يترنح مع الريح، وسط ضجيج النازحين وغياب الإنترنت. لكن الكتب تلطخت بالطين وغمرها التراب، فهي الأخرى لم تقدر حياة النزوح».

تضيف خلال حديثها لـ«عُمان» وهي تمسح دموعها: «الألم لا يوصف، ليس لأن المباني دُمرت فحسب، بل لأن الحلم أصبح بعيدًا جدًا. الجامعة ليست مجرد مكان للدراسة، بل حياة كاملة انكسرت، صداقات، طموحات، ومستقبل كان ينتظرنا».

ورغم قسوة الواقع، تصر دانا على التمسك بأملها: «لن أسمح للحرب أن تقتل حلمي، سأتابع دراستي مهما طال الزمن، وسأكون طبيبة تعيد البسمة لأطفال غزة. أؤمن أن العلم سينتصر يومًا على الحرب، وأن مدينتنا ستنهض من جديد لتعيد بناء ما تهدم».

إبادة معرفية

يتحدث الخبير الفلسطيني في القانون الدولي عصام يونس، بصوت يحمل مرارة الفقدان والغضب العادل، قائلاً: «استهداف الجامعات وتحويلها إلى أنقاض وملاجئ ليس مجرد أضرار جانبية للحرب، بل سياسة ممنهجة لإبادة العقل الفلسطيني».

ويضيف مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان، الذي فقد منزله والعديد من أفراد عائلته في غارة إسرائيلية على قطاع غزة، في تصريح لـ«عُمان»: «الجامعات ليست أبنية أسمنتية فحسب، بل هي حاضنة الوعي، والاعتداء عليها جريمة حرب مكتملة الأركان تخالف نصوص القانون الدولي واتفاقيات جنيف التي تجرّم استهداف المؤسسات التعليمية».

ويؤكد يونس أن ما يجري هو «إبادة معرفية وثقافية»، تستهدف الطلاب والأساتذة والذاكرة الفكرية للشعب الفلسطيني، وحرمانه من أبسط حقوقه في التعليم والبحث العلمي.

ويتابع قائلاً: «إفلات الاحتلال من العقاب يفتح الباب واسعًا أمام تكرار هذه الجرائم، لذلك لا بد من تحرك دولي حقيقي، وتحقيق عاجل من المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات».

ويختم تصريحه بعبارة مؤثرة: «الجامعات يمكن أن تُبنى من جديد، لكن العقول التي استُهدفت والأحلام التي قُتلت لن تُعوّض أبدًا، وهذه هي الجريمة الكبرى التي سيحاكم عليها التاريخ قبل أي محكمة».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لـ ع مان

إقرأ أيضاً:

مجلس الوزراء يوافق على قرار بإنشاء مؤسسة جامعية باسم الجامعات الكندية في مصر

وافق مجلس الوزراء في اجتماعه اليوم الأربعاء برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي، على مشروع قرار رئيس الجمهورية بتعديل بعض أحكام قرار رئيس الجمهورية رقم 9 لسنة 2019 بإنشاء مؤسسة جامعية باسم الجامعات الكندية في مصر لاستضافة فرع لجامعة جزيرة الأمير إدوارد، داخل مصر، وذلك بإضافة عددٍ من البرامج والتخُصصات الجديدة بفرع الجامعة.

ووفق مشروع القرار، يُضاف إلى برامج كلية التعليم بفرع جامعة جزيرة الأمير إدوارد بمصر، درجتي الماجستير في التعليم، والدكتوراة في الدراسات التعليمية.

ويُضاف إلى برامج كلية الآداب بفرع الجامعة، درجة ليسانس الآداب في تخصصات برامج الاقتصاد، والعلوم السياسية، وعلم النفس، والتواصل التطبيقي والقيادة الثقافية، واللغة الإنجليزية، والموسيقى، والفلسفة، وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا، بالإضافة إلى درجة الدكتوراة في علم النفس.

ويضاف إلى برامج كلية العلوم بفرع الجامعة، درجة بكالوريوس العلوم في تخصصات برامج العلوم الاكتوارية، والرياضيات المالية، والإحصاء، وعلم الحركة، والتصوير الإشعاعي، والغذاء والتغذية، والدراسات البيئية، وعلم النفس، بالإضافة إلى كل من درجات ماجستير العلوم في الرياضيات والعلوم الحسابية، وماجستير العلوم، والماجستير في بحوث خدمات الصحة التطبيقية، والدكتوراة في العلوم البيئية.

وتضاف إلى برامج كلية هندسة التصميم المُستدامة، درجتا ماجستير العلوم في هندسة التصميم المُستدامة، والدكتوراة في هندسة التصميم المُستدامة.

اقرأ أيضاًرئيس الوزراء يبحث مع رئيس جمهورية فيتنام إنشاء مجلس أعمال مشترك

اليوم.. رئيس الوزراء يترأس اجتماع الحكومة في العاصمة الإدارية الجديدة

رئيس الوزراء يرأس اجتماع الحكومة الأسبوعي اليوم من مقر العاصمة الإدارية

مقالات مشابهة

  • استهداف عناصر تأمين المساعدات.. سياسة الاحتلال لهندسة التجويع و"شيطنة" أي جهد مجتمعي
  • استهداف عناصر تأمين المساعدات.. سياسة إسرائيلية لتجويع الغزيين و"شيطنة" أي جهد مجتمعي
  • استهداف عناصر تأمين المساعدات.. سياسة إسرائيلية مركّبة لتجويع الغزيين و"شيطنة" أي جهد مجتمعي
  • مجلس الوزراء يوافق على قرار بإنشاء مؤسسة جامعية باسم الجامعات الكندية في مصر
  • جامعات سوريا تحت الضغط بعد عودة الطلبة المنقطعين منذ الثورة
  • بمشاركة 14 جامعة حكومية وخاصة.. جامعة حلوان تتألق في بطولة العلمين الأولى للجامعات
  • جلسة لمجلس التعليم العالي لتحديد مصير رؤساء الجامعات
  • "الإعلامي الحكومي": الاحتلال يمارس سياسة تجويع ممنهجة ضد غزة
  • لطلاب الثانوية العامة.. كليات تتصدر تنسيق جامعات 2025