يبدو أن قضية الاعتراف بدولة فلسطينية قد أصبحت بوابة لإبراء الذمم واحتواء الرأي العام الداخلي والتبرؤ من أكبر جريمة إنسانية في العصر الحديث، في قطاع غزة. ويبدو أن هذا الاعتراف يجمع بين الدول العاجزة عن مواجهة أميركا ونفوذها وبين الدول المتواطئة والمشاركة في العدوان عمليا؛ بينما ترفع شعارات إنسانية مخادعة نظريا.


اللافت أن الدول التي تتغنى بحقوق الإنسان ورفض القتل والتهجير، هي من تشارك عمليا في تسليح الكيان؛ وتسهم في إجراءات التهجير، بحسب ما فضح مؤخرا من مشاركة فرنسا في تهجير نخب غزة من الأطباء والمهندسين إلى الأردن وفرنسا.
وقبل الخوض في رصد النفاق الدولي، وخاصة الفرنسي، يجب إلقاء الضوء على أكبر مؤتمر للخداع والنفاق، والمتمثل بــ”مؤتمر التحالف الدولي لإقامة الدولة الفلسطينية”، والذي تقوده فرنسا والسعودية.
هذا التحالف شكلي ودعائي، حيث يعترف بالفعل رسميا نحو 147 دولة من أصل 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، أي ما يعادل نحو 75 %، بدولة فلسطين، بينما ترفض أمريكا وتمارس حق الاعتراض “الفيتو”، وتصف مؤتمر التحالف بأنه غير مثمر. وبالطبع تتحدث “إسرائيل” بلغة حاسمة عن خروج الدولة الفلسطينية من قاموسها، وتصف من سيلحق بقائمة الدول المعترفة بها بمعاداة السامية وتشجيع “إرهاب حماس”.
في هذا الصدد؛ لا بد من وقفة لرصد هذا النفاق السياسي المتمثل بمستويين من الخداع: أولهما؛ يتعلق بالإعلانات السياسية الفارغة، وثانيهما يتعلق بالمساعدات الإنسانية الدعائية، والتي تخفي وراءها إجراءات عملية لدعم العدوان وحرب الإبادة، ومناقشة أسباب هذا النفاق وخلفياته وأبعاده الخارجية والداخلية في هذه الدول؛ وهو يتبدى :
أولاً- الإعلانات السياسية الفارغة
أعلنت فرنسا أنها ستعترف بالدولة الفلسطينية، في سبتمبر/أيلول المقبل، وأصدرت صورة دعائية بأنها على خلاف مع نتنياهو وترامب، وتدين الأوضاع الإنسانية المتدهورة في غزة وتطالب بوقف الحرب فورًا. وما يجعلنا نصفها بالفارغة، هو غياب الالتزامات العملية بتنفيذ هذه الدعايات، حيث لا تعدو كونها استمرارا لبيانات الجامعة العربية أو التكتلات الأوروبية أو حتى بيانات ما يسمى “اليسار الإسرائيلي”، بينما عمليا هناك تعاون مع “إسرائيل” وحماية لها من المحاسبة والعقوبات، والأكثر سوءا هو تسليحها ودعمها بذخائر القتل، وحتى مساعدتها في تهجير سكان غزة. هذا فضلا عن رعايتها للإرهاب في سوريا بعد معاداتها للنظام السابق بسبب موقفه الداعم للمقاومة. ويكفينا هنا استعراض نماذج بسيطة تفضح هذا الدعم العسكري لحرب الإبادة ممن يتغنون زورا بإدانة الوضع الإنساني في غزة:
1 – التواطؤ في التهجير:
كشفت التقارير، وأبرزها تقرير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن فرنسا متورطة في إجراءات تندرج تحت بند “مخطط تهجير”. وقال المرصد إنه حصل على معلومات خطيرة مؤكدة تُثبت تورط السفارة الفرنسية في القدس، بالتنسيق مع جيش الاحتلال، لتنفيذ مخطط لتهجير لكفاءات فلسطينية من غزة”، مؤكدا: “أن عمليات الإجلاء تستهدف حملة الدكتوراه والأطباء والمهندسين والمؤرخين والمتخصصين في الثقافة والآثار”. وقال إنه : “يتم تجميع المُرحّلين فجرًا وسط القطاع، وينقون إلى مطار رامون تحت حماية الطيران الحربي، مع حديث عن نقلهم لاحقًا إلى الأردن عبر جسر الملك حسين”.
2 – تسليح الكيان ودعمه عسكريا
في فرنسا، كشفت 10 منظمات غير حكومية، بينها حركة “أوقفوا تسليح إسرائيل” وحركة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”، أن فرنسا ترسل أسلحة بشكل منتظم إلى “إسرائيل” منذ بداية الإبادة الجماعية في غزة. وذكر التقرير أن فرنسا ترسل أسلحة إلى “إسرائيل” عن طريق البحر والجو بشكل منتظم ومستمر. وبحسب التقرير، المعدات العسكرية صُدّرت من فرنسا إلى الكيان ضمن فئتين منفصلتين، تضمنت: قنابل وقنابل يدوية وطوربيدات وصواريخ وذخائر وقاذفات صواريخ وقاذفات لهب ومدفعية وقطع غيار وملحقات بنادق وبنادق صيد عسكرية.
كما تم توثيق إرسال الولايات المتحدة الأميركية أجزاء من طائرة مقاتلة من طراز “إف-35” إلى “إسرائيل”، عبر مطار شارل ديغول في باريس. ومؤخرا، رفض عمال في ميناء مرسيليا-فوس في خليج فوس في جنوب فرنسا تحميل قطع غيار لرشاشات على متن سفينة متجهة إلى “إسرائيل”.
أما ماكرون، والذي يصنّف ليبراليًا اجتماعيًا، يرفع رايات حقوقية ويتغنى بفرنسا رائدة العدالة وحقوق الانسان، يحاول التبرؤ النظري من جريمة القرن في غزة. كما يحاول احتواء الوضع الداخلي الشعبي الذي بدأ يتململ من المساعدات الفرنسية للإرهاب الصهيوني، والذي بدأ يدخل إلى نطاقات عملية مثل تمرد عمال الميناء وريما يفتح الباب لتصعيد شعبي مع زيادة الجرم وتطوراته بالتهجير القسري الذي تلوح نذره في الأفق.
هذا الوضع الدعائي والمخاوف موجودة عند بريطانيا، والتي لوحت بأنها ستحذو حذو فرنسا في الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الرغم من استمرارها في تسليح الكيان ورفض المحكمة العليا للدعوى المقامة بوقف تصدير الأسلحة التي تستخدم في العدوان والقتل في غزة. وهو أيضا نوع من النفاق لحل التناقض بين دعم الجريمة الصهيونية وبين اللافتة اليسارية لحزب العمال الحاكم حاليا، والذي عرف بدعمه التاريخي للفلسطينيين.
ثانيا- المساعدات الإنسانية الدعائية
كما ينافق العالم سياسيا، لا يقل النفاق الإنساني خسة عنه؛ فقد تتظاهر الدول بالمساعدات الإنسانية وإنزالها جويًا، وهو أمر يفضحه استعراض صغير وملخص للمساعدات المطلوبة لتلبية الاحتياجات الرئيسية لغزة:
وبشكل مختصر، يحتاج القطاع إلى 600 شاحنة يوميا على الأقل، ومتوسط حمولة الشاحنة نحو 20 طنا، أي تحتاج غزة إلى 12,000 طن مساعدات يوميًا لتلبية الاحتياجات الغذائية والدوائية واللوجستية الأساسية.
عند استعراض المساعدات التي تتغنى بها الدول، نجد هذه لأارقام المضحكة:
1. بلغت مساعدات بريطانيا منذ بدء الحرب نحو 110 أطنان، بما يعادل نحو خمس شاحنات.
2. بلغت مساعدات التحالف الدولي نحو1,500 طنا، أي أقل من مائة شاحنة.
3. بلغت مساعدات الولايات المتحدة في 4 إسقاطات جوية نحو 80 طنا، أي 4 شاحنات.
4. مساعدات الأردن والإمارات الأخيرة بلغت نحو 25 طنا، أي ما يعادل شاحنة واحدة من 600 شاحنة على الأقل مطلوبة في اليوم الواحد.
المضحك أيضا أن وزير الخارجية الفرنسي قال إن باريس ستلقي ابتداء من الأسبوع القادم 40 طنا من المساعدات فوق قطاع غزة، “وهو ما يعادل شاحنتين”. كما ذكر بأن هناك 52 طنا محجوزة على المعابر، وهو ما يعادل أقل من “3 شاحنات”، وهذه الأرقام تكشف بجلاء حقيقة الاستهزاء بالرأي العام وتصدير أرقام تفترض جهل الرأي العام بالمساعدات المطلوبة.
الخلاصة:
إننا نشهد وضعًا للنظام العالمي فيه افتضاح واضح للافتات الحقوقية والديمقراطية الكاذبة التي تتواطأ فيها دول الغرب “التقدمي” مع الكيان المجرم، وتتواطأ فيها دول “عربية وإسلامية” مع الكيان، إما خوفًا من المواجهة أو حقدًا على المقاومة.. إأننا نمر بلحظة توتر مع هذا الغرب المتوحش، وهذا الشرق الجبان، والذي بدأ يخشى غضب الرأي العام وافتضاح حقيقة هذه الأنظمة الغربية والشرقية، وهو ما يجبره على إجراءات شكلية وإعلانات سياسية فارغة، ولكنها لن تنطلي على الجماهير.
*كاتب مصري

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

الأرقام الجديدة تفضح أسطورة الانتعاش الاقتصادي في عهد ترامب

نشرت مجلة "ذا أتلانتيك" تقريرًا كشفت فيه عن ضعف الاقتصاد الأمريكي وخسارة وظائف رغم تصريحات الرئيس دونالد ترامب، مع تركز التوظيف في قطاع الرعاية الصحية فقط.

وأفادت المجلة أن بيانات جديدة من مكتب إحصاءات العمل أظهرت أن سوق العمل الأمريكي مرّ بأسوأ ربع له منذ سنة 2010، باستثناء جائحة كورونا، وذلك بعد مراجعة الأرقام السابقة. وجاءت هذه الأرقام في وقت غير مناسب، إذ أعلن ترامب فرض رسوم جمركية جديدة مدفوعًا باعتقاد خاطئ بقوة الاقتصاد، الذي اتضح أنه لم يكن قويًا كما ظن.

وأوضحت المجلة أنه بعد أن أعلن ترامب في نيسان/ أبريل عن أول حزمة شاملة من رسوم "يوم التحرير"، بدا أن البلاد على شفا كارثة اقتصادية. فقد انهارت سوق الأسهم، وكادت سوق السندات تنهار بالكامل، وارتفعت توقعات التضخم المستقبلي بشكل حاد، وتوقع الخبراء حدوث ركود اقتصادي.


وأضافت المجلة أنه رغم توقعات بحدوث كارثة اقتصادية بعد إعلان ترامب رسوم "يوم التحرير"، لكن الأزمة لم تقع؛ إذ خفّف ترامب من تهديداته، ولم تُظهر البيانات أضرارًا كبيرة؛ فالتضخم بقي مستقرًا، ونمو الوظائف والأسواق استمر.

وأشارت المجلة إلى أن إدارة ترامب اختفت بنتائج سياساتها الجمركية، إذ صرّح ستيفن ميران بأن التوقعات الكارثية لم تتحقق، فالوظائف تنمو والتضخم مستقر، والإيرادات الجمركية تتزايد. وأكد بيان للبيت الأبيض أن "ترامب كان محقًا مرة أخرى"، مشيرًا إلى ازدهار اقتصادي جديد.

وقد أثارت البيانات الاقتصادية القوية ظاهريًا حالة من التأمل الذاتي بين الصحفيين والاقتصاديين، وتساءلت نيويورك تايمز: "هل كانت التحذيرات من الرسوم الجمركية مبالغًا فيها؟".  حاول المعلقون تفسير الخطأ في التقديرات: هل لأن الشركات خزّنت البضائع قبل تطبيق الرسوم؟ أم لأن الاقتصاد كان قويًا بما يكفي لمقاومة سياسات ترامب؟ أم أن الخبراء تأثروا بما يشبه "متلازمة الرسوم الجمركية"؟ في كل الأحوال، أصبح من الضروري أخذ احتمال أن يكون ترامب محقًا والاقتصاديون مخطئين على محمل الجد.

وذكرت المجلة أن غياب الانهيار الاقتصادي المتوقع شجع إدارة ترامب على توسيع سياسة الرسوم الجمركية، ففرض رسومًا جديدة بنسبة 25 بالمائة على قطع السيارات، و50 بالمائة على المعادن، وهدّد بأخرى على الأدوية. كما أعلن عن اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية لقبول رسوم 15 بالمائة، وكشف عن حزمة جديدة تشمل 39 بالمائة على سويسرا و25 بالمائة على الهند و20 بالمائة على فيتنام، تبدأ في 7 آب/ أغسطس ما لم يتم التوصل لاتفاق.

وقد أظهر تقرير الوظائف أن الاقتصاد الأمريكي أضاف 73,000 وظيفة فقط الشهر الماضي، مع ارتفاع البطالة إلى 4.2 بالمائة. كما تم تعديل أرقام الشهرين السابقين بشكل حاد من 291,000 إلى 33,000 وظيفة فقط، ما يكشف أن ما بدا كطفرة توظيف كان في الواقع ربعًا ضعيفًا تاريخيًا.

وأوضحت المجلة أن جميع المكاسب الوظيفية في الأشهر الثلاثة الماضية جاءت من قطاع الرعاية الصحية، ما يشير إلى ضعف في بقية الاقتصاد، خاصة أن التصنيع خسر وظائف بشكل متتالٍ رغم فرض الرسوم الجمركية. ويُعدّ ذلك مقلقًا لأن الرعاية الصحية عادة ما تكون معزولة عن تقلبات السوق.


إلى جانب ذلك، أظهر تقرير التضخم الأخير ارتفاعًا في الأسعار، وتراجعًا في النمو والاستهلاك مقارنة بالنصف الأول من 2024. وهذه المؤشرات مجتمعة تعزز المخاوف من دخول الاقتصاد الأميركي في مرحلة ركود تضخمي تتسم بنمو ضعيف، وسوق عمل متدهور، وأسعار متصاعدة.

وقالت المجلة إن اللافت في هذه الاتجاهات هو مدى تباعدها الكبير عن التوقعات الاقتصادية قبل تولي ترامب منصبه. كما أشار الاقتصادي جايسون فورمان مؤخرًا، فإن معدل النمو الفعلي في النصف الأول من عام 2025 لم يتجاوز سوى نصف ما كانت تتوقعه هيئة التحليل الاقتصادي في نوفمبر 2024، في حين جاءت نسبة التضخم الأساسي أعلى بنحو الثلث من التقديرات السابقة.

وقد يكون الأسوأ لم يأتِ بعد؛ حيث قامت العديد من الشركات فعلًا بتخزين البضائع المستوردة قبل دخول الرسوم الجمركية حيّز التنفيذ، بينما امتصّت شركات أخرى تكاليف هذه الرسوم لتجنّب رفع الأسعار، على أمل أن تُلغى قريبًا. ولكن مع ترسّخ واقع استمرار الرسوم، من المرجح أن تُجبر المزيد من الشركات على رفع الأسعار أو خفض التكاليف، بما في ذلك تكاليف العمالة. ومع هذه التطورات، تبدو احتمالية العودة إلى مزيج التضخم والبطالة على النمط الذي شهدته السبعينيات أكثر واقعية من أي وقت مضى.

وتابعت المجلة أن إدارة ترامب تواجه تناقضًا في التعامل مع الأرقام الاقتصادية الضعيفة، بين إنكارها وتحميل الآخرين المسؤولية، فقد وصف ترامب تقرير الوظائف بأنه "غير مثالي" وعلله بعوامل شاذة، منها تراجع الهجرة. ولاحقًا، اتهم ترامب مفوضة الإحصاءات بتزوير البيانات، ووجه بطردها، كما جدّد مطالبته بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بسبب رفع الفائدة، رغم أن هذه التبريرات تتعارض: فإما أن الأرقام مزيفة، أو أن باول مسؤول عنها.

واختتمت المجلة التقرير بالإشارة إلى أن حالة الارتباك والتبريرات المتضاربة الصادرة عن إدارة ترامب تعكس قدرًا من اليأس في مواجهة الأرقام الاقتصادية المتدهورة. وبينما لا يزال احتمال تحسّن الاقتصاد قائمًا، فإن الرهانات على انتعاش قوي في النصف الثاني من العام باتت أضعف بكثير مما كانت عليه قبل 24 ساعة فقط.

مقالات مشابهة

  • سفير فرنسا في إسرائيل يعقب على نية احتلال غزة
  • كفوا عن النفاق..
  • حرب الإبادة تدفع نحو تحول تدريجي في سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل
  • المؤتمر: تصريحات الرئيس السيسي تفضح محاولات الابتزاز السياسي ضد مصر
  • عملية جديدة في عمق الكيان وبيان مهم 9 صباحا
  • ملابس شتوية تفضح مجرم قبل تنفيذ جريمته
  • مشروع قانون فرنسي لتسريع إعادة منهوبات الحقبة الاستعمارية
  • من فرنسا إلى السويداء.. كيف تحوّلت زيارة عائلية إلى مأساة؟
  • الأرقام الجديدة تفضح أسطورة الانتعاش الاقتصادي في عهد ترامب