جامعات الغرب بعد حرب غزة.. تحولات عميقة في الموقف الأكاديمي
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
منذ اندلاع حرب الإبادة ضد غزة في أكتوبر 2023، تحولت الجامعات الغربية إلى ساحات مواجهة سياسية وقانونية وأخلاقية. لم تعد القضية مجرد تضامن رمزي مع الفلسطينيين، بل أصبحت اختبارًا لبنية الحوكمة الجامعية: كيف توازن بين حرية التعبير، والنظام العام، وضغوط المموّلين؟ الأرقام والوقائع خلال 2024 و2025 تشير إلى أن الأمر تجاوز الاحتجاجات العابرة، ودخل مرحلة إعادة صياغة القواعد.
الولايات المتحدة.. بين الاحتواء التفاوضي والتشدد الأمني
في الولايات المتحدة، كان المشهد أكثر حدة وتنوعًا، بين مواجهات أمنية مباشرة واتفاقات تفاوضية مبتكرة. شهد ربيع 2024 ذروة الحراك الطلابي، مع أكثر من 3,000 حالة اعتقال في أكثر من 60 جامعة. جامعات كولومبيا وتكساس وكاليفورنيا كانت بؤرًا رئيسية، حيث فُضّت مخيمات بالقوة وسط تغطية إعلامية واسعة. لكن جامعات أخرى، مثل براون ونورث وسترن، اختارت التفاوض بدل الصدام. ففي براون، أنهى الطلاب اعتصامهم بعد تعهد الإدارة بعرض مقترح الانسحاب من استثمارات مرتبطة بإسرائيل على التصويت المؤسسي، بينما أبرمت نورث وسترن “اتفاق ديرينغ ميدو” الذي حدّد قواعد الاحتجاج وفتح ملفات الشفافية الاستثمارية.
ما جرى في جامعات الغرب منذ بداية الحرب على غزة ليس مجرد رد فعل ظرفي، بل إعادة تشكيل للعقد الاجتماعي الأكاديمي، مع انعكاسات عميقة على السياسة الدولية. خلال العامين المقبلين، سيتحدد ما إذا كانت الجامعات ستحتوي السياسة عبر مأسستها وتنظيمها، أم ستدفعها خارج أسوارها عبر الأمن والتشريعات، أو ستجد صيغة هجينة توازن بين الإثنين.فرنسا.. حسم سريع وصراع على الرمزية
في فرنسا، كانت استجابة الدولة والجامعات أكثر حزمًا وسرعة، لكن رمزية مواقع الاحتجاج جعلت أثرها السياسي كبيرًا. اعتصامات السوربون وSciences Po في مايو 2024 انتهت بسرعة بتدخل الشرطة وتوقيف نحو 88 طالبًا، إضافة إلى إخلاء محتجين في 23 مؤسسة تعليمية في يوم واحد. هذا النمط حافظ على انتظام الدراسة، لكنه نقل المعركة من الحرم الجامعي إلى الساحة السياسية والإعلامية.
ألمانيا.. سقف منخفض لحرية التعبير وتأثير التجميد
في ألمانيا، تداخل القانون مع الأمن لتقليص مساحة الاحتجاج إلى الحد الأدنى. في مايو 2024، فضّت الشرطة اعتصام جامعة برلين الحرة واعتقلت 79 شخصًا خلال ساعات، وفتحت أكثر من 150 تحقيقًا لاحقًا، كما أنهت اعتصام جامعة هومبولت باحتجاز نحو 130 شخصًا. البيئة القانونية، خاصة تعريفات معاداة السامية، جعلت الجامعات تميل إلى التدخل الشرطي السريع، ما خلق ما يُمكن تسميته بـ "تأثير التجميد" على الحرية الأكاديمية، حيث يتجنب الأساتذة والطلاب الفعاليات خشية المساءلة.
إيطاليا.. من الشارع إلى القرارات المؤسسية
في إيطاليا، انتقل الحراك الطلابي خطوة أبعد، فحوّل الضغط الميداني إلى قرارات رسمية داخل الجامعات. شهدت مدن جامعية كبرى مثل تورينو وبولونيا وفلورنسا موجة اعتصامات في النصف الأول من 2024. لكن الأبرز كان ما حدث في مجلس جامعة تورينو في مارس، حين صوّت على إنهاء اتفاقية بحثية مع مؤسسات إسرائيلية، وفي يونيو، علّقت جامعة باليرمو برامج إيراسموس مع جامعات إسرائيلية.
مقارنة عبر الأطلسي.. نمطان مختلفان للشرعية وحدود السلطة
حين نقارن بين التجربتين الأمريكية والأوروبية، نكتشف أن الخلاف لا يقتصر على درجة التسامح، بل يمتد إلى فلسفة إدارة الجامعات نفسها. في الولايات المتحدة، الشرعية تُبنى على حرية التعبير والحوكمة المالية مع قابلية التفاوض، أما في فرنسا وألمانيا فالشرعية تقوم على حفظ النظام العام حتى لو قلص ذلك من مساحة الاحتجاج. أما إيطاليا فتمثل حالة وسطية حيث يُسمح بالضغط الميداني إذا كان يفضي إلى قرارات مؤسسية قابلة للتنفيذ.
هذا التباين قد يؤثر على حركة الطلاب الدولية نفسها، حيث قد يختار الطلاب الوجهات الأكاديمية بناءً على مساحة الحرية والقدرة على التأثير في القرارات.
الأحداث الأخيرة ترسم أمام الجامعات ـ في تقديري ـ أربعة مسارات محتملة، قد يتداخل أكثر من واحد منها في الواقع:
1 ـ التطبيع المؤسسي: قد تختار الجامعات دمج الاحتجاجات ضمن قنوات رسمية مثل الندوات أو المجالس الطلابية، بحيث يتم التعبير عن المواقف بشكل منظم وقانوني، مما يقلل احتمالات المواجهة مع السلطات الأمنية.
إذا اتسع النمط الأمريكي القائم على التفاوض والشفافية ليصبح قاعدة عامة، فقد نشهد نشوء "الجامعة كفاعل دولي" يتبنى مواقف استثمارية وأكاديمية مرتبطة بحقوق الإنسان، على غرار تجربة الانسحاب الأكاديمي من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال الثمانينيات..2 ـ التشدد الأمني: قد تتجه السلطات أو إدارات الجامعات إلى تشديد المراقبة وفرض قيود أكبر على الأنشطة الطلابية، بحجة الحفاظ على الأمن والنظام، وهو ما قد يحدّ من حرية التعبير داخل الحرم الجامعي.
3 ـ التدويل البديل: في حال تعثر العلاقات الأكاديمية مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، قد تبحث الجامعات عن بناء شراكات مع مؤسسات في آسيا، إفريقيا، أو أمريكا اللاتينية، لتوسيع خياراتها وتخفيف الاعتماد على الغرب.
4 ـ الإنهاك والركود: مع مرور الوقت، قد يفتر الحماس ويقل النشاط، لكن البنية التنظيمية للحراك تبقى قائمة، ما يعني أنه يمكن إعادة تفعيلها بسرعة إذا حدثت أزمة أو قضية جديدة تثير الجدل.
ختاما
ما جرى في جامعات الغرب منذ بداية الحرب على غزة ليس مجرد رد فعل ظرفي، بل إعادة تشكيل للعقد الاجتماعي الأكاديمي، مع انعكاسات عميقة على السياسة الدولية. خلال العامين المقبلين، سيتحدد ما إذا كانت الجامعات ستحتوي السياسة عبر مأسستها وتنظيمها، أم ستدفعها خارج أسوارها عبر الأمن والتشريعات، أو ستجد صيغة هجينة توازن بين الإثنين.
إذا اتسع النمط الأمريكي القائم على التفاوض والشفافية ليصبح قاعدة عامة، فقد نشهد نشوء "الجامعة كفاعل دولي" يتبنى مواقف استثمارية وأكاديمية مرتبطة بحقوق الإنسان، على غرار تجربة الانسحاب الأكاديمي من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال الثمانينيات..
أما إذا تغلّب النمط الأوروبي المركزي، القائم على الأمن والرقابة، فقد تتحول الجامعات إلى فضاءات محايدة قسرًا، مما يحدّ من دورها كمختبر للأفكار.
على المدى الأبعد، قد تفرز هذه المرحلة جيلًا جديدًا من الأكاديميين والطلاب يرى أن الجامعة ليست فقط مؤسسة للتعليم، بل منصة تتقاطع فيها المعرفة والموقف الأخلاقي والضغط السياسي، مما يجعلها جزءًا مباشرًا من النقاشات العالمية الكبرى.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء حرب غزة الفلسطينيين المواقف احتلال فلسطين غزة مواقف حرب قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة أکثر من
إقرأ أيضاً:
مجلس الوزراء يتعهد بتنفيذ إصلاحات عميقة في المجالات الاقتصادية وترجمتها لخفض حقيقي في الأسعار
تعهد مجلس الوزراء اليمني، الأربعاء، بتنفيذ إصلاحات شاملة وعميقة في المجالات الاقتصادية والمالية، وترجمتها لواقع يعود بالنفع على المواطنين من خلال تخفيض حقيقي في الأسعار، في ظل تحسن قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية.
جاء ذلك خلال اجتماع دوري لمجلس الوزراء في العاصمة المؤقتة عدن برئاسة رئيس الوزراء سالم صالح بن بريك، أجرى خلاله تقييماً شاملاً للإجراءات التي اتخذتها الوزارات والجهات الحكومية للرقابة على أسعار السلع والخدمات وتخفيضها بما يتناسب مع التحسن الإيجابي الملموس في سعر صرف العملة الوطنية.
وذكرت وكالة سبأ الحكومية، أن المجلس اطلع على إيضاحات تفصيلية من الوزارات المعنية حول مستوى الالتزام بتنفيذ التوجيهات الحكومية، والتي شملت تكثيف حملات الرقابة الميدانية على الأسواق وملاحقة المخالفين، ومنع أي ممارسات احتكارية أو تلاعب بالأسعار، مؤكداً أن هذه الإجراءات تمثل جزءاً من سياسة اقتصادية متكاملة، هدفها كسر حلقات المضاربة والفوضى التي وظفتها جماعة الحوثي في إطار حربها الاقتصادية الممنهجة على الشعب اليمني.
وشدد مجلس الوزراء على مواصلة العمل الميداني والرقابة الصارمة على الأسواق، وعدم التهاون مع أي مخالفات، والعمل بخطط متكاملة لتأمين احتياجات المواطنين الأساسية، ومواكبة المتغيرات الاقتصادية الإيجابية بما ينعكس مباشرة على تحسين الوضع المعيشي للمواطنين، موجهاً الالتزام بالإجراءات القانونية والمعايير المهنية في تنفيذ حملات التفتيش والرقابة على الأسعار، بما يضمن حماية المستهلك والحفاظ على استقرار الأسواق، ومنع أي ممارسات أو تجاوزات تعسفية بحق التجار أو المنشآت التجارية.
وألزم المجلس السلطات المحلية في عدن والمحافظات المحررة بتحمل مسؤولياتها في المتابعة والتنفيذ لعمل المكاتب المختصة بالرقابة على أسعار السلع والخدمات، والتطبيق الكامل لقرار مجلس الوزراء بحظر استخدام العملات الأجنبية بديلاً عن العملة الوطنية في المعاملات التجارية والخدمية والتعاقدات المالية.
ولفت المجلس، إلى أهمية استيعاب انخفاض أسعار المشتقات النفطية خاصة البنزين والديزل وعكسها على أسعار المنتجات الزراعية والأسماك وخدمات النقل وغيرها.
وأكد رئيس الوزراء أن الحكومة تمضي في تنفيذ إصلاحات شاملة وعميقة في المجالات الاقتصادية والمالية والإدارية وفق خطة واضحة المعالم، لضمان استدامة استقرار سعر الصرف، ورفع كفاءة مؤسسات الدولة في الرقابة ومكافحة الفساد والتوظيف الأمثل للموارد المتاحة بما يعود بالنفع على حياة ومعيشة المواطنين.
وجدد التأكيد على أن تحسن سعر صرف العملة الوطنية ليس مجرد رقم اقتصادي، بل يجب أن يترجم فوراً إلى انخفاض حقيقي في أسعار السلع والخدمات، وقال "إن الحكومة لن تتهاون مع أي جهة أو شخص يحاول الالتفاف على القرارات، أو استغلال التحسن الاقتصادي لتحقيق مكاسب غير مشروعة على حساب معيشة المواطنين".
ولفت رئيس الوزراء إلى حرص الحكومة على الشراكة مع القطاع الخاص الوطني واعتماد نهج تشاركي يحفظ حقوقه المشروعة في الحصول على هوامش ربح معقولة وعادلة، مشددًا على أن هذه الشراكة لا تنفصل عن مسؤولية الجميع تجاه المواطنين من خلال خفض أسعار السلع والخدمات بما يتناسب مع التحسن الملحوظ في سعر صرف العملة الوطنية، وعدم السماح بأي ممارسات احتكارية أو تلاعب بالأسعار، واستمرار العمل في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتخفيض الخدمات وبينها رسوم المدارس الخاصة والجامعات والمستشفيات وتكثيف الرقابة على أسعار الأدوية لتخفيضها بشكل فعلي.
ودعا مجلس الوزراء، السعودية والإمارات والدول الصديقة إلى تقديم إسناد عاجل ودعم مباشر للحفاظ على ما تحقق من استقرار في سعر الصرف، مؤكداً أن دعم شركاء اليمن من الدول والمنظمات المانحة في هذه الظروف يمثل عاملاً حاسماً في تثبيت الثقة بين المواطن والحكومة، وتعزيز فرص التعافي الاقتصادي، وتخفيف حدة الأزمة الإنسانية التي صنعتها مليشيا الحوثي بسياساتها التدميرية.