هندسة التهجير القسري.. من النكبة إلى حرب الإبادة
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
لم يكن تهجير الفلسطينيين من أرضهم في قطاع غزة مرتبطا فقط بتطورات الهجوم العسكري الإسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما يدعي قادة ومتحدثو حكومة وجيش الاحتلال ووسائل إعلامهم، بل كان جزءا من سياسة ممنهجة وخطة واضحة تهدف إلى إجبار الناس على النزوح من بيوتهم، ثم تهجيرهم قسرا، بدأت منذ الاحتلال 1948.
ما يعزز هذا الاستنتاج هو سلسلة من الإجراءات الإسرائيلية المتلاحقة والخطوات التنفيذية على الأرض، التي سنعرضها وفق تسلسلها الزمني كما نفذها الاحتلال.
بدأت الخطة الإسرائيلية عام 2023 بعمليات قصف مكثفة استهدفت المناطق السكنية، وهدمت المباني فوق رؤوس ساكنيها، وارتكبت مجازر يومية أنهت ما تبقى من خطوط حمراء، إذ قصفت كل شيء: المستشفيات، والعيادات، والمنازل، والمؤسسات، والشوارع، وحتى سيارات المدنيين.
بالتزامن مع هذه المجازر، أصدرت سلطات الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب أوامر إخلاء جماعية لسكان شمال قطاع غزة، مطالبة إياهم بالنزوح إلى مناطق وسط وجنوب القطاع عبر ما سمته "ممرات آمنة" لم تكن في الواقع سوى مصائد للقتل والاعتقال، بعد أن فصلت الشمال عن الوسط والجنوب.
هُدد السكان عبر منشورات ورسائل هاتفية ووسائل إعلام إسرائيلية، كما اقترن ذلك بالفعل الإجرامي على الأرض، في مقدمة لسياسة تفريغ جغرافي مدروسة.
وبعد خروج معظم السكان وصمود من تبقى، واصل جيش الاحتلال التدمير الشامل للمناطق المُخلاة، عبر غارات متتالية وتسوية أحياء بأكملها بالأرض، مما جعل العودة إليها مستحيلة، حتى بعد انتهاء القتال.
النزوح الداخليمع تصاعد التهجير، لجأ أكثر من 1.9 مليون فلسطيني إلى الجنوب، فتكدسوا في مناطق مثل رفح وخان يونس في ظروف إنسانية كارثية.
شُيدت آلاف الخيام العشوائية في أراضٍ قاحلة، من دون بنية تحتية أو مصادر مياه وكهرباء. وارتفعت معدلات انتشار الأمراض، وسجلت منظمات أممية مئات الوفيات نتيجة البرد أو نقص الغذاء أو غياب الرعاية الطبية.
إعلانهذا الواقع لا يمثل مجرد أزمة إنسانية طارئة، بل يعكس سياسة ممنهجة تهدف إلى تجريد السكان من حقوقهم في السكن والعودة، ودفعهم نفسيا وجسديا نحو الهجرة خارج القطاع.
حتى بعد وقف إطلاق النار في مارس/آذار 2025، ورغم السماح بعودة السكان إلى شمال القطاع، لم يتمكن معظمهم من العودة، إذ لم يجدوا مساكن يعودون إليها، بعد تدمير مساحات واسعة في جباليا وبيت حانون والشجاعية والزيتون، وهو ما يُعد جزءا من المخطط الإسرائيلي لقطع أي إمكانية للعودة.
دعوات رسمية للتهجيرمنذ بداية العدوان، برزت دعوات علنية من مسؤولين سياسيين وعسكريين في إسرائيل تطالب بتهجير سكان غزة إلى الخارج.
فقد صرح وزراء ونواب في حكومة الاحتلال بضرورة "إعادة توطين سكان غزة في دول أخرى"، و"تفكيك القطاع"، كما قُدمت دراسات واقتراحات رسمية لترحيل مئات الآلاف إلى دول أفريقية أو أميركا الجنوبية.
ولم تكن هذه الدعوات مجرد تصريحات إعلامية، بل جرى نقلها رسميا إلى بعض الدول المجاورة، وفتحت الحكومة الإسرائيلية قنوات دبلوماسية مع دول مثل قبرص، والكونغو، وأوغندا، لبحث استقبال السكان المهجرين، لكن معظم تلك الدول رفضت المشاركة في مشروع يحمل مخاطر سياسية وقانونية جسيمة.
قال يسرائيل كاتس، وزير الدفاع، صراحة: "كل السكان المدنيين في غزة مأمورون بالمغادرة فورا. لن تتسلموا قطرة ماء أو بطارية حتى تغادروا العالم".
وفي مارس/آذار 2025، أصدر توجيها بإعداد خطة تتيح "الخروج الطوعي" من غزة، واقترح إنشاء "مدينة إنسانية" على أنقاض رفح لإيواء النازحين، لكنه أشار لاحقا إلى أن "المغادرة لن تكون ممكنة"، وأن الهدف هو تجميع سكان القطاع في تلك المنطقة.
أما وزير الدفاع السابق يوآف غالانت فقال: "أمرتُ بفرض حصار كامل على غزة. لا كهرباء، لا ماء، لا طعام، لا وقود. كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتعامل على هذا الأساس".
في السياق ذاته، دعا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى "تشجيع الهجرة الطوعية"، واعتبرها "الحل الإنساني الصحيح"، بل صرح في مايو/أيار 2025 بأن تدمير المنازل كفيل بدفع الفلسطينيين إلى الهجرة.
الوزير المتطرف إيتمار بن غفير كرر ذات الدعوة، واعتبر التهجير "الحل المشروع"، فيما استخدم قادة آخرون مثل آفي ديختر، وأرييل كالينر، وغاليت ديستل أتباريان، لغة تُذكر بنكبة 1948، ودعوا إلى "نكبة جديدة" لتهجير الفلسطينيين.
الوجه الآخر للترحيل القسري
سعت بعض الدوائر الإسرائيلية إلى الترويج لما سُمي "الهجرة الطوعية"، من خلال تقديم "حوافز" مالية أو فرص عمل في الخارج مقابل مغادرة غزة.
في الظاهر، يبدو الطرح إنسانيا، لكنه في الواقع وجه آخر للتهجير القسري المقنَع، إذ يُعرض على من فقد كل شيء، من مسكن وأهل وموارد، أن يغادر، في ظل غياب أي خيار آخر للبقاء.
هذه "الطوعية تحت الإكراه" تُصنف قانونيا على أنها ترحيل قسري، وتنتهك اتفاقيات جنيف، ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
حين يُجبر الفلسطيني على النزوح من بيته ومنطقته تحت نيران الطائرات والدبابات، دون ضمانات للعودة، فهذا ليس "نزوحا مؤقتا" ولا خيارا شخصيا، بل هو تهجير قسري بموجب القانون الدولي الإنساني.
إعلانفمنذ بداية الحرب، أُجبر أكثر من 1.9 مليون فلسطيني، أي نحو 85% من سكان القطاع، على ترك منازلهم قسرا، والنزوح إلى جنوب القطاع في ظروف إنسانية قاسية. كثيرون منهم نزحوا أكثر من مرة، وبعضهم فقد حياته قبل أن يجد مأوى.
الاحتلال يدعي أن هذه "هجرة طوعية"، لكن الحقيقة أن الناس يُطردون من بيوتهم عبر القصف والتجويع والحصار، ولا يُمنحون فرصة للبقاء أو العودة. هذا النوع من النزوح الداخلي ليس إلا مقدمة لتهجير خارجي دائم، وهو ما تثبته العقود السابقة.
رفض عربي للتهجيركان لموقف مصر والأردن وعدد من الدول العربية دور حاسم في التصدي لهذا المشروع.
فقد أعلنت مصر رفضها القاطع أي تهجير للفلسطينيين إلى سيناء، معتبرة ذلك "خطا أحمر" وتهديدا للأمن القومي. وكذلك أكد الأردن ودول أخرى رفضها المشاركة في أي مشروع يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال تفريغ غزة من سكانها.
سلاح التجويعاعتمد الاحتلال سياسة التجويع منذ الساعات الأولى للعدوان، كأداة لإخضاع السكان، ودفعهم لاتخاذ قرارات لا إنسانية.
فأُغلقت المعابر، ومُنع دخول الغذاء والماء والدواء، واستُهدفت شاحنات المساعدات، وسُيطر على قنوات التوزيع، حتى باتت المجاعة واقعا يوميا في القطاع، لا سيما في شماله.
تقارير الأمم المتحدة أكدت أن مئات الآلاف يواجهون مستويات "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي، فيما توفي أكثر من 550 شخصا أثناء انتظار المساعدات، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
يندرج هذا الاستخدام للتجويع ضمن تعريف "سلاح الحرب"، وفق اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 54)، ويُعد من جرائم الحرب.
منذ أكثر من سبعة عقود، كان مخطط التهجير وما يزال أداة ممنهجة في مشروع استعماري إسرائيلي يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وإحلال مجموعات مستوردة مكانهم.
التهجير القسري لم يبدأ في غزة، بل هو حجر الزاوية في المشروع الصهيوني منذ بداياته. فقبل إعلان قيام "إسرائيل" 1948، نفذت المليشيات الصهيونية خطة منظمة لطرد السكان الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وارتكبت عشرات المجازر لبث الرعب ودفع الأهالي إلى الفرار.
ووفق الأرقام الموثقة، فقد دمرت المليشيات أكثر من 500 بلدة وقرية فلسطينية عام 1948، وطُرد أكثر من 750 ألف فلسطيني إلى خارج حدود ما أصبح لاحقا "إسرائيل"، ولم يُسمح لهم بالعودة رغم قرار الأمم المتحدة 194 الذي يضمن هذا الحق.
أما من بقي داخل حدود الدولة الجديدة، فتم تهجير عشرات الآلاف منهم من قراهم إلى مناطق أخرى، وحُرموا من العودة إلى بيوتهم.
قطاع غزة ذاته أصبح ملاذا مؤقتا لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين طُردوا من مدنهم وقراهم في الجنوب والوسط (مثل بئر السبع، المجدل، الفالوجة، يافا، عسقلان… إلخ). هؤلاء لم يُسمح لهم يوما بالعودة إلى أرضهم، وعاشوا كلاجئين داخل وطنهم، محرومين من أبسط حقوقهم.
ملايين في الشتاتاليوم، هناك أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني خارج فلسطين، يعيشون في الأردن، وسوريا، ولبنان ومناطق أخرى من الشتات، محرومين من حق العودة. هؤلاء لا تذكرهم إسرائيل إلا كـ"عقبة" في وجه "السلام"، بل وتسعى إلى محو وجودهم نهائيا، خاصة مع استهداف وكالة الأونروا، الشاهد القانوني والسياسي على وجودهم كلاجئين.
الاتهامات الأخيرة للأونروا بـ"الإرهاب"، ومحاولات تفكيكها أو استبدالها بمؤسسات جديدة، ليست بريئة، فالأونروا ليست مجرد مؤسسة إغاثة، بل هي رمز لحق العودة واعتراف دولي بأن وجود الفلسطيني في المخيم هو حالة مؤقتة، إلى حين عودته إلى بيته الأصلي. وتفكيكها يعني محاولة فرض النسيان على هذا الحق.
استقدام مهاجرينالهدف النهائي للاحتلال لم يتغير، وهو السيطرة الكاملة على الأرض، وتفريغها من سكانها الفلسطينيين، وإحلال مستوطنين مكانهم. حتى اليوم، تستقدم إسرائيل مهاجرين من دول لا تربطهم أي صلة بهذه الأرض، بينما تمنع الفلسطيني المولود في يافا أو المجدل أو القدس من العودة إلى بيته.
إعلانالتهجير القسري ليس مجرد حالة إنسانية مؤلمة، بل هو جريمة مستمرة يجب أن تُواجه دوليا. وكل خطوة نحو نزوح جديد، سواء داخل البلاد أو خارجها، هي جريمة تُضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات التي تستهدف اقتلاع الفلسطيني من جذوره.
لا يمكن أن يكون من يُجبر على الهروب من تحت القصف مهاجرا "طوعيا".
تُستخدم أدوات عسكرية، وإنسانية، ونفسية، وقانونية، وسياسية، لخلق بيئة طاردة تدفع السكان للمغادرة، وتحولهم إلى لاجئين جدد في الشتات.
ورغم فشل هذا المشروع حتى الآن بفضل صمود الشعب الفلسطيني ورفض الدول المجاورة، فإنه لا يزال قائما ويتحرك بأشكال مختلفة.
وهو ما يستدعي تحركا دوليا عاجلا، قانونيا وسياسيا، لوضع حد لهذا الانتهاك الفاضح للقانون الدولي، وضمان حق الفلسطينيين في البقاء والعودة والعيش بحرية وكرامة في وطنهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات أکثر من من سکان
إقرأ أيضاً:
نقابة مصرية تمنح جائزة حرية الصحافة لضحايا المهنة الفلسطينيين
القاهرة - صفا
قررت نقابة الصحفيين المصرية منح جائزة حرية الصحافة لعام 2025 للصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم "إسرائيل" منذ بدء حرب الإبادة على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وقالت النقابة، في بيان الأربعاء، إن مجلسها قرر خلال اجتماعه، الثلاثاء، برئاسة النقيب خالد البلشي "منح شهداء الصحافة الفلسطينية جائزة حرية الصحافة لهذا العام، وإطلاق أسماء عدد منهم على بعض جوائز الصحافة المصرية، التي تقدمها النقابة".
وأضاف أن مجلس النقابة "افتتح اجتماعه بالوقوف دقيقة حداداً على أرواح 238 صحفياً وصحفية، استشهدوا خلال العدوان الصهيوني الممتد منذ عامين على غزة وآخرهم الزملاء: أنس الشريف ومحمد قريطم، وإبراهيم طاهر، ومحمد نوفل، ومؤمن عليوة، ومحمد الخالدي".
وفي خطوة تضامنية، أعلن مجلس النقابة عن تنظيم يوم تضامني مع الصحافة الفلسطينية السبت المقبل، على أن تُعلن فعالياته خلال اليومين القادمين.
وفي يوليو/تموز 2024 منحت النقابة الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح جائزة حرية الصحافة ممثلًا عن الصحفيين الفلسطينيين.
وأشار البيان إلى أن مجلس النقابة قرر توجيه دعوة للاتحادين العربي والدولي للصحفيين، وجميع النقابات العربية والدولية لتقديم مذكرة مشتركة رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية "ضد مجرمي الحرب الصهاينة"، بهدف مساءلتهم عن الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، والصحافة الفلسطينية.
وتابع: "تعد الجرائم البشعة بحق الصحفيين الفلسطينيين حلقة جديدة في سلسلة وحشية من الإبادة الإعلامية، وهي جريمة تُعتبر الأكبر من نوعها في التاريخ الحديث، حيث تجاوز عدد الشهداء من الصحفيين 238 صحفياً وصحفية".
ووفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة بلغت حصيلة الإعلاميين الذين قتلتهم "إسرائيل" منذ بداية إبادتها الجماعية بقطاع غزة 238.
وكانت نقابة الصحفيين المصرية طالبت، الاثنين، بمحاكمة "إسرائيل" على اغتيال 6 صحفيين فلسطينيين بغزة، بينهم مراسلا قناة "الجزيرة" أنس الشريف ومحمد قريقع.
وقالت النقابة إنها "تدين بأشد العبارات الجريمة البشعة، التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني باغتيال 6 من الزملاء الصحفيين، هم أنس الشريف، ومحمد قريقع، وإبراهيم ظافر، ومحمد نوفل، ومؤمن عليوة، ومحمد الخالدي، عبر استهداف مباشر لخيمة للصحفيين في محيط مستشفى الشفاء".
ومساء الأحد، قتلت "إسرائيل" بغارة جوية على خيمة بمحيط "مستشفى الشفاء" غرب مدينة غزة الصحفيين الستة، ما يرفع عدد ضحايا المهنة إلى 238 منذ بداية حرب الإبادة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.