الحماية الرقمية للأطفال

يخبرنا تقرير مؤشر حقوق الطفل للعام 2025 عن تلك التحديات التي تواجه الأطفال والناشئة، والتي أصبحت أهم الأخطار التي يجب على الدول مواجهتها وردعها والحد منها، حرصا على الصحة العقلية والنفسية لهذه الفئة العمرية الحساسة؛ حيث يدق التقرير ناقوس الخطر بشأن ولوج الأطفال والناشئة إلى البيئة الرقمية وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، وخطرها الكبير عليهم، وعلى تطلعاتهم المستقبلية.

إذ شمل المؤشِّر أداء (194) دولة في العالم، لتتبع مجموعة من المحاور متعلقة برفاه الأطفال وتمكينهم وحماية حقوقهم؛ حيث عمل على رصد العديد من المتغيرات الخاصة بمعدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة، ومؤشرات التحصين والتطعيم والالتحاق بالمدارس، إضافة إلى تأثيرات التغيُّر المناخي على الأطفال، وجهود الدول في التخفيف من تلك الآثار حماية لهم ولمستقبلهم.

ولقد ركَّز المؤشر على (أزمة الصحة العقلية والنفسية للأطفال)؛ إذ يواجه 14% من الأطفال والمراهقين مخاوف تتعلَّق بالصحة العقلية، وذلك بسبب عدم وجود ضمانات كافية وحماية لهذه الفئة خاصة في البيئة الرقمية، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، ما يعرضهم للكثير من الأخطار الضارة بعقولهم والمؤثرة بشكل مباشر على صحتهم النفسية، ما ستكون له نتائج غير محمودة عليهم وعلى مجتمعاتهم، ولذلك فإن الكثير من الدول اتخذت قرارا بحظر وصول الأطفال والناشئة إلى العديد من تلك المواقع.

وعلى الرغم من تحذيرات تقرير مؤشر حقوق الطفل بشأن ما يواجهه الأطفال والناشئة بسبب البيئة الرقمية، إلاَّ أنه يدعو إلى إيجاد سبل توازن بين سلامتهم في هذه البيئات خاصة مواقع التواصل الاجتماعي وضمان عدم انتهاك حقوقهم في المشاركة والخصوصية، فحظر دخولهم إلى البيئة الرقمية سيحرمهم من الاستفادة من المحتوى التعليمي والترفيهي المفيد والهادف، وسيؤدي إلى عزلتهم الاجتماعية، الأمر الذي يمكن أن يتحوَّل إلى نتائج عكسية على صحتهم النفسية واندماجهم في المجتمع، إضافة إلى عزلهم عن عالم التطورات التقنية التي تشكِّل مستقبل التنمية.

يتعرَّض الأطفال في البيئة الرقمية إلى العديد من المخاطر التي تتعلَّق بـ(العنف، والتنمر، وسوء المعاملة، والاعتداء الإلكتروني، والهجمات الإلكترونية، والاستغلال، وحرب المعلومات وغيرها..)؛ ففي عالم تلك البيئة بمواقعها وبرامجها ، يكون الأطفال والناشئة غالبا غير قادرين وغير مهيئين لتفادي تلك المخاطر، وبالتالي فإن الكثير منهم يجد نفسه ضمن دوائر (الاستخدام القهري والإدمان لوسائل التواصل الاجتماعي) -بتعبير التقرير-، ما يشكِّل خطرا على صحتهم العقلية والنفسية وبالتالي الاجتماعية؛ إذ يواجه 24% من الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 13 عاما خطرا كبيرا من مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يواجه 25% من الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 11 عاما خطرا أكبر من الألعاب الإلكترونية.

ولهذا فإن البيئة الرقمية على أهميتها إلاَّ أنها تمثل خطرا محدقا على الأطفال والناشئة إذا لم تتخذ الدول سياسات تنظيمية توازن بين استفادتهم منها وضمان حمايتهم من تلك المخاطر، ولعل الجهود الكبرى التي تبذلها عُمان في حماية الأطفال من المخاطر التقنية دفعتها إلى إعداد سياسات حازمة بشأن حماية الأطفال من الإنترنت والبيئة الرقمية، سواء على مستوى قانون الطفل، أو دليل سياسة حماية الأطفال على الإنترنت، أو على مستوى التوعية المجتمعية الواسعة، إضافة إلى تلك السياسات التقنية الحازمة التي تحدِّد المستويات العمرية لدخول البرامج والمواقع، وحظر تلك المواقع والبرامج التي تؤثر على الأطفال وتنعكس سلبا على صحتهم النفسية والعقلية والاجتماعية.

فالموازنة بين تلك السياسات وضمان استفادة الأطفال والناشئة من البرامج والتطبيقات في البيئة الرقمية الإيجابية والمفيدة، يضمن الوصول العادل إلى البيانات والخدمات الخاصة بالتعليم والصحة وغيرها، كما أن وجودهم ضمن المنظومة التقنية الهادفة يؤسِّس قدرتهم على بناء هُويتهم الرقمية الخاصة المرتبطة بالهُويات المجتمعية، كما يمكِّنهم من الاندماج والثقة واحترام حقوق الآخر من ناحية، ويدفعهم نحو الإبداع والابتكار في العالم التقني من ناحية أخرى.

ولأن الأطفال والناشئة خلال الإجازات الصيفية بشكل خاص ينشغلون بولوج الفضاءات الإلكترونية خاصة مواقع التواصل الإلكتروني والألعاب الإلكترونية بأنواعها، فإن الدور الأكبر يقع على المجتمع والأسرة سواء فيما يخص التقرُّب من الأبناء ومصادقتهم والحرص على متابعتهم فيما يهتمون به من مواقع وألعاب وبرامج إلكترونية، إضافة إلى إشغالهم بالمناسبات والفعاليات الاجتماعية، ودفعهم نحو المشاركة في المراكز الصيفية والمهرجانات والأنشطة وغيرها مما تنظمه المؤسسات خلال الإجازة الصيفية.

إن أهمية متابعة الأبناء والتقرُّب منهم لا تضمن حمايتهم من مخاطر البيئة الرقمية وحسب، بل أيضا تدعم قدرتهم على التواصل الآمن مع الآخر الافتراضي؛ فما يتعرَّض له الأطفال في هذه البيئة يشكل خطرا كبيرا إذا لم يكونوا قادرين على حماية أنفسهم، ولهذا فإن التربية الرقمية الإيجابية، تجعل الطفل قادرا على الدفاع عن نفسه وحمايتها من ناحية، وتمكِّن قدراته وتعزِّز ثقته من ناحية أخرى، ليكون قادرا على التعبير والتواصل والإبداع عبر المنصات الإلكترونية بشكل ينمي معارفه ويعزِّز مهاراته، الأمر الذي يشكِّل هُويته الرقمية.

ولأننا خلال الإجازات نلاحظ الكثير من أبنائنا خاصة الأطفال ينكبون على الأجهزة الإلكترونية؛ يقلبون المواقع ويجولون بين البرامج ويقضون وقتا طويلا يلعبون مع لاعبين افتراضيين لا يعرفون عنهم شيئا، هكذا نجدهم ينزوون في زوايا الأمكنة، والساحات والمقاهي، مبتعدين عن أسرهم وعن عالمهم الطفولي البريء إلى عوالم افتراضية قد تقودهم إلى المجهول، لذلك فإن إهمالهم أو الانشغال عنهم، قد يكلِّف خسارتهم نفسيا وصحيا واجتماعيا.

إن الأطفال والناشئة جيل رقمي، يعشق التقنية ويلجها باندفاع وحُب للمعرفة والاكتشاف، ولذلك فإن حمايتهم ليست بالحظر والمنع بقدر ما هي بالتوجيه والمشاركة والتقرُّب منهم بل ومصادقتهم ودعمهم، حتى يستطيعوا المضي في تطوير طاقاتهم ومعارفهم، ويتمكنوا من حماية أنفسهم من الوقوع تحت وطأة مخاطر الاستغلال والاحتيال والتنمر وغير ذلك، فأبناؤنا أمانة وعلينا الحفاظ عليهم وحمايتهم من تلك البيئة الرقمية الضارة، ودعم استفادتهم من العالم الرقمي ليكونوا مبدعين قادرين على المضي قدما بثقة، ممثلين لأنفسهم ولوطنهم بإيجابية ورقي.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان