الاحتفالات الصاخبة والمبالغ فيها كثيرا هذا العام (2025) بمولد السيد البدوي، أحد أقطاب الصوفية في مصر، هي جزء من سياق عام لتوظيف التصوف الشعبي سياسيا كبديل، أو كقوة شعبية لمواجهة تيار الإسلام السياسي بشقيه الإخواني والسلفي الحركي.
رفعت السلطة الحاكمة في مصر بقيادة السيسي شعار تجديد الخطاب الديني؛ بما يعني عمليا نزع كل ما من شأنه الحث على الإصلاح، وتغيير "المنكر" السياسي، وأبشع هذا المنكر هو اغتصاب الإرادة الشعبية، وحكم الشعب قهرا، وفرض سياسات القمع والتجويع والصمت عليه، مع مطالبته بقبول هذه السياسات، واعتبارها أفضل الخيارات تجنبا لفوضى متوهمة!
تجديد الخطاب الديني تضمن أيضا بعض القضايا الفقهية التي تبنى فيها النظام رؤى علمانية أراد إلباسها ثوب الدين، لكن الأزهر بقيادة الشيخ أحمد الطيب تصدى لها، وهو ما أحدث جفوة بين الطرفين دفعت السيسي للشكوى علنا "تعبتني يا فضيلة الإمام"، وفضيلة الإمام نفسه ينتمي للمدرسة الصوفية، وشقيقه شيخ لإحدى طرقها، وهذا يعني أن السلطة تتبنى خطابا مزدوجا تجاه الخطاب الديني، فهي تسعى لتجديده وتحديثه بما يقربه من الرؤى العلمانية، وفي الوقت نفسه تشجع انتشار التصوف الشعبي بكل ما يحمله من دروشة، وتغييب للعقل، وتبني للخرافات التي يأباها التصوف القويم، المهم بالنسبة للسلطة الحاكمة هو إلهاء الشعب عن ممارساتها، وجرائمها بحقه، وبحق الوطن عموما.
دفعت السلطة بوزير أوقافها وكثير من رجالها الرسميين وغير الرسميين للمشاركة في احتفالات مولد السيد البدوي، ودخلت دار الإفتاء على الخط لتبرير ما يفعله العامة من تمسح بأضرحة الأولياء، والتوسل بهم لقضاء حاجاتهم، بدلا من تنبيه الناس إلى اللجوء إلى الله وحده لا شريك له، ونقلت القنوات والصحف الرسمية وشبه الرسمية جوانب من الحفل، وحين انتقد أحد البرامج تلك المظاهر في مولد البدوي تصاعدت على الفور دعوات لمقاضاة البرنامج وصاحبه والضيف المتحدث فيه!
المعركة بين الإسلام السياسي والنظم الاستبدادية في مصر ممتدة منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي عقب تولي الضباط الأحرار للحكم، وتحويل النظام من ملكي إلى جمهوري؛ قبل تلك الفترة لم تكن هناك مشاكل تذكر بين الإخوان باعتبارهم قلب الإسلام السياسي وبين الطرق الصوفية المنصرفة بطبيعتها عن معارك السياسة، فقد كان مؤسس جماعة الإخوان نفسه (حسن البنا) عضوا في الطريقة الحصافية الصوفية، وقد جعل ضمن تعريف الإخوان أنها "حقيقة صوفية". وبعد 1952 لم تكن هناك حياة سياسية، أو منافسة للضباط على سلطتهم بعد أن قضوا على كل المنافسين من يسار ويمين وإخوان، لكن مع عودة الحياة السياسية نسبيا منذ النصف الثاني للسبعينات بدأت السلطة تنتبه لأهمية كسب الطرق الصوفية، فأسست مجلسا أعلى للطرق الصوفية بالقانون 118 لسنة 1976، وحجزت مقعدا دائما في البرلمان لشيخ شيوخها، مع مقاعد متغيرة لشيوخ أو رموز صوفية أخرى؛ من خلال هذا المجلس استطاعت السلطة تحريك هذه الطرق وفقا لتوجهاتها، ودعما لسياساتها، مقابل توفير الحماية لهم في أضرحتهم، وموالدهم، ومناسباتهم المختلفة. (يتكون المجلس من عشرة أعضاء منتخبين من مشايخ الطرق الصوفية، وخمسه أعضاء مِن الأزهر والأوقاف والحكم المحلي والداخلية والثقافة معينين بحكم وظائفهم).
لا يمكننا التعميم على كل الطرق الصوفية، فمن بينها من اتخذت خطا محايدا، أو حتى ناقدا للسلطة في عهد الرئيس مبارك، ومن أمثلة الحياد العشيرة المحمدية التي كان شيخها محمد زكي إبراهيم، ومن أمثلة الانتقاد للسلطة الطريقة العزمية، وشيوخها من آل أبو العزايم، كما أن بعض الطرق الصوفية حاولت تأسيس أحزاب سياسية بعد ثورة يناير، لكن تجاربها لم تكتمل. كما أن بعض الطرق الصوفية كان لها دور في مواجهة الاستعمار على خلاف غالبية الطرق التي مالأته، ودعت الناس لعدم مواجهته باعتباره قضاء وقدرا..
في أزمة نظام السيسي مع الإخوان عقب انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 استخدم طرقا مختلفة للمواجهة؛ بدأها بالقمع الشديد، والتصفية الجسدية، سواء خلال فض الاعتصامات، أو في الشوارع، وحتى المنازل، وإصدار أحكام إعدام بالجملة، وأحكام حبس مؤبد، ومطاردة، ونفي، إلى جانب ذلك خاض ضدهم مواجهة إعلامية جنّد خلالها كل ما امتلك من منابر إعلامية، بل أسس المزيد منها، وأنتج عشرات المسلسلات والأفلام لتشويههم، ثم لجأ أخيرا لاستخدام ورقة الصوفية، ومحاولة صناعة ظهير شعبي له. وهنا يكمن سر اهتمامه بالموالد الصوفية الكبرى، وتسخير إمكانيات الدولة لصالحها، بل والسماح بالحضور الشعبي الضخم فيها (مليونا زائر في الليلة الكبيرة للسيد البدوي في طنطا) في وقت منع تماما أي تجمعات شعبية حاشدة أخرى، سواء للتعبير عن رأيها في سياسات داخلية، أو خارجية مثل مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة.
رغم أن الطرق الصوفية تنتشر غالبا في صفوف الطبقات الشعبية، وهذا ما يظهر في مناسباتهم وموالدهم، ولكنها تضم أيضا شخصيات مثقفة من إعلاميين وفنانين، كما تضم عسكريين حاليين أو سابقين ورجال قضاء، وعلماء أزهريين، ومن واجب المثقفين الواعين في تلك الطرق توعية قادتها بمحاولات توظيفهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل ربما يكون دورهم الأصيل فيها عكس ما يُطلب منهم؛ مثل معركة تجديد الخطاب الديني التي يتبناها السيسي، وتحذيرهم أيضا من استخدامهم كأدوات في معارك سياسية للنظام ضد خصومه من قوى التغيير المختلفة، فالصوفية الحقة ضد الظلم والاستبداد والفساد، والمتصوف الحقيقي عليه مواجهة كل هذه الخطايا.
x.com/kotbelaraby
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الصوفية مصر السيسي مصر السيسي اخوان صوفية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخطاب الدینی الطرق الصوفیة فی مصر
إقرأ أيضاً:
ترامب.. بين وقاحة الخطاب وامتداد الفكرة
خالد بن سالم الغساني
منذ وُجد الاستعمار، تشكّلت عقيدته التي تقوم على مركزية الرجل الأبيض وتفوّقه، وعلى حقه المزعوم في الهيمنة على الشعوب “الأدنى مرتبةً” في سلّم الحضارة.
هكذا جعلوا منبع الحضارة من دولهم التي ماكانت يوماً سوى سارقة وناهبة لإمكانيات وحضارات الشعوب التي جعلوها اقل شأناً ومنزلة.
وكانت تلك العقيدة المظلة الفكرية التي برّرت الغزو، وسرقة الثروات، وطمس الثقافات، وتدمير الهويات الوطنية، تحت شعارات مضللة كـ“تمدين الشعوب” و“نشر التقدم”. لكن الاستعمار، وإن تبدلت أدواته، لم يمت؛ بل غيّر لغته ووسائله، فصار يُمارَس اليوم بوسائل سياسية واقتصادية وإعلامية، وبلسانٍ لا يقل عن سيوف الأمس حِدّة. وما تصريحات دونالد ترامب سوى النموذج الأوضح لاستمرار تلك العقيدة الاستعلائية في عصرنا الراهن، بثوبها الأمريكي الجديد.
حين قال ترامب عن منافسه جو بايدن: “لقد أصبح مثل فلسطيني، لكنهم لا يحبونه لأنه فلسطيني سيّئ جداً”، لم يكن يعبر عن موقف انتخابي عابر، بل كان يعيد إنتاج فكرة التفوق العرقي التي كانت أساس المشروع الاستعماري. ففي نظره، الفلسطيني ليس هوية وطنية أو قضية سياسية، بل رمزٌ للضعف والرفض والاحتقار. أن يُشبَّه بايدن بالفلسطيني يعني، في منطق ترامب، أنه فقد صفات “القوة والسيطرة”، وهي ذات النظرة التي جعلت المستعمر قديماً يستهزئ بالمقهور، فيسلبه كرامته قبل أن يسلبه أرضه.
ولم يتوقف الأمر عند التحقير الرمزي، بل تجاوزه إلى التخطيط العملي للإبادة والاقتلاع. ففي حديثه عن إعادة إعمار غزة بعد الحرب، قال ترامب: “أريد أن تأخذ مصر الناس، وأريد أن يأخذ الأردن الناس… سنقوم بتنظيف ذلك الشيء بالكامل.” هذه العبارة تحمل كل معاني الاستعمار الكلاسيكي: الطرد، التهجير، وإعادة توزيع السكان كما تُعاد ترتيب القطع في رقعة الشطرنج. يرى الفلسطينيين مجرد “ناس” بلا أرض، بلا ذاكرة، بلا حق، ويقترح تهجيرهم إلى الدول المجاورة لتبقى الأرض خالية “نظيفة”، تماماً كما وصف المستعمرون الأوائل قاراتٍ بأكملها بأنها “أرض فارغة تنتظر الحضارة”.
ثم بأتي تصريحه الثالث في ذروة الصفاقة، حين قال في مؤتمر صحفي مع نتنياهو: “سنقوم بالاستيلاء على غزة وامتلاكها… سننقل الفلسطينيين إلى دول أخرى ذات قلوب إنسانية، وسنحوّلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط… أتمنى أن نفعل شيئاً حتى لا يريدون العودة.” هذه الكلمات لا تحتاج إلى تفسيرٍ سياسي؛ إنها تعبير صريح عن جوهر العقيدة الاستعمارية: الأرض للمستعمر، والإنسان الأصلي يُمحى من الوجود. في هذه الرؤية، يُختزل الفلسطيني في مشكلة يجب التخلص منها، وتُحوَّل غزة — بعد اقتلاع أهلها — إلى مشروعٍ سياحي فاخر، كما لو أن الدماء والركام يمكن تغطيتهما برمال المنتجعات.
وحتى في حديثه عن دعم إسرائيل بالسلاح، قال ترامب مفتخراً: “ [نتنياهو] اتصل بي وقال نحتاج أسلحة… أسلحة لم أسمع بها من قبل… لكنكم استخدمتموها جيداً جداً.” هنا يتجلى الاستعمار في صورته العسكرية الحديثة، حيث يتباهى زعيم دولة عظمى بتزويد آلة قتل تُبيد المدنيين في غزة، ويمدح “حُسن استخدامها”، أي فاعليتها في التدمير والقتل. هذه ليست مجرد شراكة سياسية، بل تواطؤ كامل في مشروع الإبادة، واستمرار للمنطق الاستعماري الذي يرى في حياة الآخر ثمناً طبيعياً لبقاء “الحضارة”.
ما يميز خطاب ترامب ليس فقط عنصريته الفجة، بل صراحته الوقحة في التعبير عن ما كان يُقال همساً في أروقة السياسة الغربية. إنه الوجه العاري لعقيدة استعمارية لم تتغير، لكنها لم تعد تحتاج إلى الأقنعة. فبدلاً من الحديث عن “السلام” و“حقوق الإنسان”، يتحدث عن “الاستيلاء” و“الملكية” و“النقل القسري”، دون خجل أو مواربة. هذه الجرأة تكشف حجم التحول الأخلاقي في الغرب، حيث لم تعد الإبادة تُدان، بل تُقدَّم كخيارٍ عقلاني، بل وكإنجازٍ سياسي.
الاستعمار اليوم لا يرفع أعلامه القديمة، لكنه يستمر بأدواتٍ جديدة: بالقصف بدل الغزو، وبالعقوبات بدل الاحتلال، وبالإعلام بدل التنصير. أما فلسطين فهي الميدان الأكثر وضوحاً لانكشاف هذا الفكر، إذ يجتمع فيه الاستعمار القديم والجديد، السياسي والديني، العسكري والاقتصادي. تصريحات ترامب ليست إلا المرآة التي تعكس جوهر تلك العقيدة — عقيدة ترى في الأرض غنيمة وفي الإنسان الأصلي عقبة.
لكن ما يجهله أصحاب هذا المنطق أن التاريخ، مهما طال انحرافه، لا يُمحى؛ فالفلسطيني الذي يريدون “نقله” سيبقى شاهداً على أن الأرض لا تُنظَّف من أهلها، بل من الغزاة الذين يعتقدون أنهم يملكون الحق المطلق في تقرير مصير الآخرين. وبينما يحاول ترامب وأمثاله إعادة رسم خريطة الاستعمار بلغة “المشاريع الاقتصادية” و“إعادة الإعمار”، تبقى الحقيقة ناصعة: ما يحدث ليس تطويراً للأرض، بل استمراراً لنهبها، وليس بناءً للمستقبل، بل محاولة لدفن الذاكرة.
وهكذا، فإن ترامب، بوقاحته الخطابية وصراحته الفجة، لا يمثل خروجا عن منطق السياسة الغربية، بل تجسيدًا صادقًا لامتداد الفكرة الاستعمارية التي ما زالت تحكم رؤية العالم للآخر المختلف. إنه الوجه الجديد للاستعمار القديم، يطلّ علينا اليوم بثقة المنتصر، ناسياً أن الشعوب التي تُسلب أوطانها لا تنسى، وأن الأرض التي تُغتصب لا تُسلَّم للأبد.
فهل فينا من لا يزال لم يستوعب التاريخ ؟!