السبيل الحاسم لإحياء الدول العربية من جديد
تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT
لم تعد تخفى على أحد تلك الحيرة التي ترتسم على وجوه المسؤولين السياسيين في بعض البلدان العربية، وهم يقفون أمام المشاكل المتراكمة المتعلقة بالشباب. بل كثيرا ما يظهر كما لو أن الطرفين يفتقدان إلى لغة مشتركة، وأن العلاقة الوحيدة الممكنة، هي سوء فهم مستمر.
ولعل العزوف الكبير للشباب اليوم عن السياسة تعبير صارخ عن هذا التطور الدراماتيكي الذي ينبئ بسقوط قطاعات واسعة من المجتمع بين براثن العدمية، والانعزالية.
ولا ريب أنه ستكون للأمر تبعات سياسية وخيمة، وذلك على الرغم من الاستثمار المفرط في "الحل الأمني".
طبعا، يمكن العودة بهذا المشكل إلى أسباب مختلفة، ومنها تبني الدولة العربية المعاصرة أجندة نيوليبرالية دون اعتبار للخصوصية الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية لبلدانها، فاصلة بذلك قدرها عن قدر المجتمع، لكن ما يُعمق أكثر من هذه الأزمة، التي تقترب في بعض البلدان العربية من حرب أهلية غير معلنة، هو غياب شبه تام للدور التربوي للدولة.
لا تنحصر التربية في المجال الخاص، وذلك حتى وإن جاء تدخل الدولة في التربية متأخرا في السياق الغربي.
تُقدم ألمانيا نموذجا مركزيا في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ كان عليها أن تنقل المجتمع من نظام ثقافي وعقدي نازي إلى تبني قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان- ما اصطلح عليه المؤرخ الفرنسي دنيس غولديل بـ "المنعطف الغربي لألمانيا"- والخروج من إرث وسحر "المسار الخاص"، الذي جعل منها، في لغة الفيلسوف الألماني، هيلموت بليسنر، "أمة متأخرة".
ولعب الحلفاء، وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، دورا مركزيا في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب في هذه العملية التربوية، وهو الدور الذي لن تلعبه، مثلا، في العراق، ومناطق أخرى من العالم، رغم كل الضجيج الإعلامي حول دمقرطة الشرق الأوسط.
يتعرض المجتمع الحديث لهزات قوية، تُعبر عن نفسها في سياق عربي وثالثيّ بشكل متطرف، ويحدث ذلك لأسباب:
إعلان أولا، حين تختل العلاقة بين الجماعة أو الجماعات والمجتمع (الطائفية في المشرق العربي). وثانيا، بين الفرد والمجتمع، فلا يشعر الأفراد بانتماء إلى مجتمع يحرمهم من تحقيق ذواتهم، فيطرقون باب الهجرة، الواقعية منها والرمزية، كما الحال مع عديد من النخب المتعلمة في شمال أفريقيا، التي باتت تفضل البرد الكندي على بلدان ما برحت تزداد ضيقا بالفرد وحرياته. وثالثا، حين تغترب الدولة عن المجتمع، كما يُفرز ذلك النموذج النيوليبرالي.يكتب إيمانويل كانط في محاضرته حول التربية: "إن الإنسان لا يمكنه أن يصبح إنسانا إلا عبر التربية"، ويمكننا أن نواصل، وهذه المرة مع جون ديوي، بأنه لا يمكنه أن يُصبح مواطنا إلا من خلال التربية، وأن وحده الإنسان الحر يمكنه الدفاع عن الحرية.
وتلعب الدولة في التربية على المواطنة دورا محوريا، لا يتوقف عند أبواب المؤسسات التعليمية، أو ينتهي بتوزيع شهادات جامعية، بل الأمر يتعلق بمشروع مجتمعي متكامل، يُعبر عن نفسه في السياسات العمومية للدولة، في مؤسسات المجتمع المدني، في القيم التي تسود المجتمع والثقافة التي يتبناها، بل ويُعبر عن نفسه أيضا، فيما يصطلح عليه ريتشارد سينيت في كتاب يحمل العنوان نفسه: في "البناء والسكن".
إذ التربية على المواطنة شرط أساسي لبناء "مدينة مفتوحة"، يشعر المواطن بالانتماء إليها، ولا يشعر بالاغتراب أمام مؤسساتها، ويُقبل بمسؤولية على فضائها العام.
وهنا، يجب ألا نترك التربية لأيدٍ أجنبية، غريبة عن الثقافة والقيم المحلية، أو نسارع- في عُقد نقص مستحكمة- إلى الاحتفاء بالوافد الجديد، ونبذ القديم.
إن التربية على المواطنة منفتحة على العالم، ولكنه انفتاح في ظل التقاليد، يسمح بإغناء هذه التقاليد وتحويلها بشكل يخدم الفرد والجماعة، ويأخذ بعين الاعتبار حاجات الثقافات المحلية، إذ كثيرا ما ننجرّ إلى "مشاريع ثقافية" كبيرة في العناوين التي تطرحها، ولكنها صغيرة وضئيلة التأثير في نتائجها.
وذلك على الرغم من كل الضجيج الإعلامي والأكاديمي الذي يحيط بها، بل وسنجدها تقف حجر عثرة أمام حوار مجتمعي صحي، وهي تصطف إلى جانب طائفيات معينة، أو تنخرط في الحروب القبلية للأنظمة السياسية، أو تكتفي بنقل أجوف، وفي مازوخية، للموضات الغربية.
لا غرو أننا نحتاج إلى تربية تؤهل الشباب العربي للحياة في القرن الـ21، والتأقلم مع تحديات "التسارع" المختلفة، وهذا لا يرتبط بنقل موضات تعليمية غربية، أو تبني أسلوب حياة غربي، أثبت فشله في عقر داره، بل يجب أن نهدف إلى بناء نموذج تعليمي وتربوي مستقل، دون أن تعني استقلاليته انغلاقه أمام التجارب الأخرى، فهو سيظل في حوار مستمر مع تلك التجارب، ولكن انطلاقا وفي ارتباط بحاجات ولغات وأسئلة سياقاته.
تحمي التربية البناء المجتمعي، وتحافظ على لحمته وتحصنه أمام التأثيرات الخارجية، وترافق تحولاته في وعي بهذه التحولات ومتطلباتها، ولا يمكن للاعب رئيس مثل الدولة، وكما يكتب أحد كبار المتخصصين الألمان في عمليات الإصلاح التربوي، إنغو ريشتر: " أن يغفل البتة التربية. إن ذلك يعني أن تغمض الدولة عينيها أمام واقع التربية"، ومن خلال ذلك أمام واقع المجتمع.
إعلانولكن دور الدولة هنا لا يقوم على تربية مجتمع يقول فقط نعم للدولة، بل مجتمع يقول نعم للحريات العامة، ومستعد للعب دور المعارضة المسؤولة متى اقتضت الظروف ذلك.
فالأمر لا يتعلق بتربية توتاليتارية ترسم حركات وسكنات المجتمع، وتعطل التقسيم الاجتماعي، وتُكمم الأفواه، وتُلغي لعبة الأجيال، ولكن بتربية حرة ومُحررة.
وهذا ما تُعبر عنه مختلف الاحتجاجات التي تعرفها الدول الديمقراطية اليوم، ومنها تلك التي أضحت تتوجه إلى النظام الديمقراطي نفسه، والتي يمكن تلخيصها فيما تصطلح عليه بعض الأصوات في ألمانيا بـ "ديمقراطية الطقس الجميل"، وهي تلك الديمقراطية التي لا تستطيع الصمود أمام الأزمات الحقيقية التي تضرب المجتمع.
ولكن، إذا عدنا إلى سياقنا العربي، فإنه من شروط نُضج الدولة وتحولها من مجرد سلطة متسلطة على المجتمع إلى دولة تمثل طموحاته الأساسية- وهو ما نعدمه في كتابات المنظرين للدولة في سياق عربي- تحمل الدولة مسؤولياتها التربوية تجاه المجتمع، مثلا من خلال تبني حياد تام تجاه وجهات النظر المختلفة إلى العالم، أو تأسيس معاهد للتعليم المستمر أو تعليم الكبار.
وكذلك أيضا من خلال إحياء الأحزاب التقليدية، وتفعيل دورها التربوي، وتعميم نوادي الشباب، والتشجيع على تأسيس جمعيات تهتم بصورة المدينة والحياة بداخلها، فلا بد من استعادة المجتمع قبل فوات الأوان، وذلك خصوصا بالنظر إلى التحديات الخارجية الكبرى التي تواجهها الدول العربية اليوم، والتي لا ينفع معها الهروب إلى الأمام.
نعيش اليوم، في سياق عربي، في "دولة غير مكتملة" بلغة القانوني التونسي علي المزغني، والتي هي- لا ريب- امتداد لما أسميه بالمجتمع غير المكتمل، ومن هنا فالحاجة ملحة إلى اقتراح تربوي جديد، يؤسس لعلاقة مبدعة بالتقاليد، وهو ما يشترط الاعتراف بحقوق الأجيال الجديدة في إغناء هذه التقاليد.
يقول ابن القيم الجوزية: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وهو اقتراح سيطالب بانفتاح نقدي على الحداثة ومنجزها التربوي، وبضرورة الالتزام بالقضايا الكبرى للمجتمع.
يعتقد عالم النفس النمساوي، زيغفريد برنفيلد في كتابه الشهير: "سيزيف أو حدود التربية"، بأن التربية تقوم على المحافظة، وأنها لم تسهم يوما في تغيير بنية المجتمع، وغالبا ما اقتصر دورها على شرعنة النظام الاجتماعي القائم.
وهو هنا يتحدث عن وجه واحد للتربية، وهو لا ريب وجه ضروري، فلا بد من الحفاظ على المجتمع وليس تخريبه، ولكن إلى تلك المحافظة ينتمي، لا شك، أيضا الدور النقدي للتربية، والمتمثل في ذلك الطموح المستمر إلى مجتمع أفضل، وأكثر قدرة على الإبداع والتواصل مع العصر. فيجب ألا ننسى أن تاريخ التربية في الغرب، هو بالأحرى تاريخ نقدها للمجتمع أكثر منه تاريخ محافظتها عليه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات من خلال عبر عن
إقرأ أيضاً:
روسيا تتوقع وصول حجم التبادل التجاري مع الدول العربية إلى 50 مليار دولار
أكد رئيس مجلس الأعمال الروسي العربي سيرجي جوركوف، أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية يبلغ حوالي 34 مليار دولار، مع إمكانية وصوله إلى 50 مليارا.
وقال جوركوف في تصريح نقلته قناة روسيا اليوم الإخبارية اليوم السبت "إذا كنا نتحدث عن الدول الـ 22 الأعضاء في جامعة الدول العربية؛ فإن حجم التبادل التجاري بحلول عام 2024، وصل إلى حوالي 34 مليار دولار، وهناك إمكانية للوصول إلى 50 مليار دولار وأكثر.
وأضاف أنه رغم "قيود الدفع"؛ فقد نما حجم التبادل التجاري بنسبة 5 - 10% خلال العام الماضي.. مشيرا إلى تزايد الطلب على المنتجات الروسية في الأسواق العربية، بما في ذلك المنتجات الغذائية وغيرها من السلع والتقنيات.
المجلس الوطني الفلسطيني يدين ارتكاب الاحتلال مجزرة في حي الزيتون بغزة
أدان رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح، المجزرة المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء أمس الجمعة، في حي الزيتون شرق مدينة غزة، عندما استهدفت مركبة مدنية تقل أفراد عائلة شعبان ما أدى إلى استشهاد 11 مواطنا بينهم سبعة أطفال وامرأتان، في جريمة تعكس السياسة المنظمة التي ينتهجها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.
وقال فتوح في بيان صدر عنه، اليوم السبت، إن استهداف العائلة بذريعة اقتراب المركبة مما يسمى "الخط الأصفر" يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني، ودليلا جديدا على استهتار الاحتلال بالقيم الإنسانية وخرق الاتفاقيات وجميع المواثيق الدولية التي تحرم استهداف المدنيين.
وأكد أن هذه الجريمة ليست عملا معزولا بل جزء من نهج مستمر يقوم على القتل والتدمير في ظل تراخي دولي واضح عن محاسبة المجرمين ووقف العدوان.
وحمل فتوح، حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة التي تعتبر جريمة حرب ضد الإنسانية، داعيا المجتمع الدولي إلى اتخاذ اجراءات فورية لإدخال قوات دولية لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني.
وطالب، الأطراف الدولية والإدارة الأميركية بتثبيت وقف العدوان وتوفير ما يلزم لشعبنا الفلسطيني من مأكل ومأوى وخدمات صحية علاجية، والانتصار للعدالة والحق الفلسطيني.
أمريكا تعلن اعتقال فلسطيني بزعم مشاركته في أحداث 7 أكتوبر
ذكرت وزارة العدل الأمريكية أنها اعتقلت شاباً فلسطينياً في لويزيانا للاشتباه بتورطه في عملية 7 أكتوبر 2023. ويُدعى الشاب محمود أمين يعقوب المهتدي، ويبلغ من العمر 33 عاماً، وهو من مواليد غزة.
وأعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) عن توقيف محمود المهتدي في ولاية لويزيانا، للاشتباه في انتمائه للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وارتباطه بأحداث 7 أكتوبر 2025 في غزة.
ومثل أمام قاض فيدرالي الجمعة وجه إليه تهمتَي «دعم منظمة إرهابية» في إشارة إلى حركة حماس، وتقديم معلومات كاذبة للحصول على تأشيرة إلى الولايات المتحدة، وفقا لوثائق المحكمة.
وجاء في نص الدعوى الجنائية أنه في صباح 7 أكتوبر 2023، علم المهتدي بتوغل حماس وتسلح وجمع آخرين وعبر إلى إسرائيل بهدف المساعدة في عملية طوفان الأقصى.
وأضاف أن الأدلة تشير إلى أن هاتف المهتدي استخدم برجا خلويا يقع قرب كيبوتس كفار عزة في إسرائيل، وهو موقع عملية حماس.
وتتضمن الدعوى مقتطفات من مكالمات هاتفية يعتقد أن المهتدي أجراها صباح 7 أكتوبر 2023 لمناقشة خططه للانضمام إلى العملية، كما جاء في نص الدعوى الجنائية.
وقالت وزارة العدل الأمريكية إن توقيف المهتدي جاء بناء على معلومات وردت من الحكومة الإسرائيلية وعمل قوة مهام مشتركة شكّلت للتحقيق في الهجوم.