لزوم ما يلزم في حوكمة التشغيل
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
حمد الصبحي
الحديث عن حوكمة التشغيل في سلطنة عُمان، لم يعد موضوعًا إداريًا محدود الأثر، بل أصبح ضرورة وطنية تدخل في صميم التحول الاقتصادي الذي تقوده "رؤية عُمان 2040"، فالرؤية- بوصفها عقدًا مجتمعيًا وإطارًا استراتيجيًا- لا تبحث عن تحسينات تجميلية في سوق العمل، بل تسعى إلى إعادة بناء المنظومة نفسها على أسس أكثر عدالة وكفاءة وتنافسية.
إن سوق العمل العماني مرَّ بتحولات متسارعة خلال العقود الماضية؛ توسعٌ في المخرجات التعليمية، نموٌّ في الأنشطة الاقتصادية، وتغير أولويات القطاع الخاص. وفي ظل هذه التحولات، كانت مساحة الارتجال في القرارات التشغيلية أكبر من مساحة التخطيط، وكانت الحلول الجزئية تعلو على الحلول الجذرية، الأمر الذي خلق اختلالات هيكلية يعرفها المتخصصون جيدًا: فجوة بين المخرجات والوظائف، اعتماد مفرط على العمل الوافد في بعض القطاعات، تفاوت في جودة بيئات العمل، وتذبذب في السياسات. وهنا، تظهر الحوكمة كمسار تصحيحي لا يهدف إلى السيطرة؛ بل إلى تنظيم الإيقاع وضبط المسار وإنتاج قرارات قابلة للقياس وللمساءلة.
الحوكمة- بمفهومها الحديث- لا تكتفي بوضع القواعد، بل تضمن الالتزام بها، وتحوّل المعلومات إلى بيانات، والبيانات إلى سياسات، والسياسات إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن في واقعه المهني والاقتصادي. إنها إطار يُنهي عهد القرارات المقطعية، ويقدم بدلاً منه منظومة تُدار بالأدلة، وتُراقَب بالمؤشرات، وتُقوَّم بالنتائج. وبهذا، تصبح منظومة التشغيل أكثر قدرة على التوقع، وأقل تعرضًا للتقلبات، وأكثر ثقة في نظر المستثمرين والباحثين عن عمل على حد سواء.
لقد راهنت «رؤية 2040» على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ولم تعد الدولة هي المشغّل الأول؛ بل المنظّم الأول. وهذا التحول- بقدر ما هو مهم- يحتاج إلى حوكمة صارمة تضع قواعد واضحة لدور كل طرف. فالقطاع الخاص يحتاج إلى مرجعية مستقرة وواضحة تشجعه على الاستثمار وتوسيع قاعدة الوظائف، والقوى العاملة تحتاج إلى ضمانات تحمي حقوقها وتمنحها بيئة عادلة ومحفزة، والجهات الحكومية تحتاج إلى أدوات تمكّنها من الرقابة والمتابعة والتحسين المستمر. من دون هذه العناصر الثلاثة، تفقد الشراكة توازنها، وتفقد السوق ثقتها، ويفقد الشباب يقينه بمستقبله المهني.
غير أن التحدي الأكبر لا يكمن في بناء الأنظمة، بل في إعادة بناء الثقافة المؤسسية. فالحوكمة ليست نصوصًا تُكتب بقدر ما هي سلوك يُمارس. إنها انتقال من منطق المجاملة إلى منطق الكفاءة، ومن إدارة المصالح الضيقة إلى إدارة المصلحة الوطنية، ومن منطق رد الفعل إلى منطق الاستشراف. فإذا لم تصبح الحوكمة جزءًا من الوعي اليومي للمؤسسات- العامة والخاصة- فسوف تبقى القرارات متقدمة لغويًا ومتأخرة فعليًا، وستبقى الطموحات أسرع من التنفيذ.
إنَّ مستقبل التشغيل في عُمان لا يُقاس بعدد الفرص فقط؛ بل بجودتها واستدامتها وارتباطها بالقطاعات الواعدة التي تراهن عليها الرؤية: الاقتصاد الرقمي، اللوجستيات، السياحة، الصناعة المتقدمة، والطاقة. وهذه القطاعات، بطبيعتها التنافسية، لا تقبل الفوضى ولا العشوائية، وتحتاج إلى سوق عمل منضبط بعقد حوكمة واضح يُحفّز الإنتاجية، ويكافئ الجدارة، ويحتضن المواهب الوطنية بوصفها رأس المال الأول لهذا الوطن.
ولذلك، فإن الحوكمة ليست محطة أخيرة؛ بل بداية الطريق. إنها الخطوة الأولى نحو سوق عمل يسير بمعايير لا بأمزجة، وبمؤشرات لا بوعود، وبثقة لا بتخمين. وحين تكتمل هذه المنظومة، ستصبح الوظيفة قيمة مضافة للاقتصاد، لا عبئًا عليه، وسنرى سوقًا يليق برؤية 2040 وطموح هذا الجيل الذي يملك الشغف والقدرة، ولا ينتظر سوى منظومة عادلة تفتح له الطريق.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مدير الإغاثة الطبية بغزة: تعثر الخدمات الصحية مستمر ونأمل بإدخال ما يلزم
في ظل الأوضاع الإنسانية القاسية التي يعيشها قطاع غزة بعد توقف الحرب الأخيرة لا يزال القطاع الصحي يرزح تحت وطأة الدمار الكبير الذي لحق بمرافقه وبكوادره الطبية، وسط آمال بأن تسهم المساعدات القادمة في إنعاش ما تبقى من هذا النظام المنهك.
وقال مدير جمعية الإغاثة الطبية في مدينة غزة الدكتور محمد أبو عيشة إن النظام الصحي في القطاع يعاني من شلل شبه تام بعدما أثقلت الحرب المستشفيات والمراكز الصحية وأخرجت الكثير منها من الخدمة، مشيرا إلى أن التعافي يتطلب إدخال مستلزمات عاجلة لإعادة تشغيل المرافق وتوفير الرعاية الأولية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الاحتلال يمنع إمدادات حيوية لغزة والمعاناة مستمرة بالقطاع الصحيlist 2 of 2"لا وقت كافيا".. النرويج تطالب بضغط دولي عاجل لإغاثة غزة وإنقاذهاend of listوأوضح أبو عيشة في حديثه للجزيرة أن الرعاية الصحية الأولية -التي تشمل خدمات الحوامل والأطفال ومرضى الأمراض المزمنة- تواجه اليوم تدهورا خطيرا، إذ يتجاوز عدد المرضى المزمنين في غزة 350 ألفا، في حين تعاني برامج التطعيمات والخدمات الوقائية من توقف شبه كامل.
وبيّن أن مؤسسته فقدت أكثر من 9 مراكز ثابتة دُمرت بالكامل، فضلا عن عيادات متنقلة كانت تشكل خط الدفاع الأول في تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، لافتا إلى أن إعادة هذه المرافق إلى العمل تمثل أولوية عاجلة لا تقل أهمية عن تشغيل المستشفيات.
مستويات مقلقة للعجزوأضاف أبو عيشة أن العجز في المستلزمات الطبية وأجهزة المختبرات والأشعة بلغ مستويات مقلقة، الأمر الذي يعيق تقديم أي رعاية مناسبة للمرضى، ويجعل الوضع الصحي في غزة على حافة الانهيار الكامل ما لم تُفتح المعابر بشكل منتظم لإدخال الإمدادات اللازمة.
وأشار إلى أن الطواقم الطبية لم تسلم بدورها من آثار الحرب، إذ فقد القطاع عددا كبيرا من الأطباء والممرضين والعاملين الصحيين بين شهيد ومصاب ومعتقل ومفقود، مؤكدا أن استهداف الكوادر كان ممنهجا ويهدف إلى شل المنظومة الصحية برمتها.
وأوضح أبو عيشة أن النقص الحاد في الكفاءات الطبية ينعكس مباشرة على مستوى الخدمات، داعيا إلى إدخال طواقم متخصصة ومستشفيات ميدانية لدعم الكوادر المحلية التي تعمل في ظروف بالغة الصعوبة وبإمكانيات محدودة.
إعلانورأى أن إنشاء المستشفيات الميدانية والعيادات المتنقلة بات ضرورة لا تحتمل التأجيل، خاصة مع الدمار الكبير الذي طال المستشفيات والمراكز في أنحاء القطاع، مشيرا إلى أن جمعيته تشغّل عددا من العيادات المتنقلة داخل مراكز الإيواء وتعمل بتنسيق مع مختلف المؤسسات الصحية لتغطية الاحتياجات العاجلة.
ولفت إلى أن ما شهده القطاع من نقص في الأدوية وتفاقم الأمراض المزمنة على مدى العامين الماضيين يجعل التعاون بين الجمعيات الطبية والمستشفيات ضرورة لإنقاذ ما تبقى من النظام الصحي الذي وصفه بأنه "مدمر بالكامل ويحتاج إلى جهود جماعية لإنعاشه".
أمل في العودةورغم المشهد القاتم فإن أبو عيشة عبّر عن أمل كبير في عودة الحياة إلى غزة، قائلا إن القطاع يمتلك خبرات طبية متميزة قادرة على النهوض مجددا إذا توفرت الإمكانيات اللازمة.
وأكد أن غزة وصلت في السنوات الماضية إلى مستويات متقدمة في الطب رغم الحصار، وشهدت إجراء عمليات زراعة كلى وقرنيات وقسطرة قلبية.
وأضاف أبو عيشة أن الطواقم الطبية داخل غزة لا تزال على قدر كبير من الكفاءة والالتزام، لكنها تحتاج إلى دعم بالأجهزة والمختبرات والتجهيزات الحديثة لإعادة بناء نظام صحي قادر على مواجهة التحديات الراهنة.
وأكد أن مستقبل غزة الصحي مرتبط بتوفير الإمكانيات الكافية لبناء المستشفيات والمراكز المتخصصة، مشددا على ضرورة وضع سياسات واضحة لإنعاش المجتمع صحيا وغذائيا، خصوصا الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية وأمراض ناتجة عن نقص الغذاء والدواء.
وأكد مدير الإغاثة الطبية على أن إنقاذ الجيل الجديد من آثار الحرب وسوء التغذية هو المهمة الأكثر إلحاحا، وأن غزة بحاجة ماسة إلى مراكز متخصصة لمعالجة هذه الحالات، مضيفا أن الأمل لا يزال حاضرا بفضل عزيمة العاملين في الميدان وإصرارهم على إعادة الحياة إلى نظام صحي يليق بإنسان القطاع.
ويسري حاليا وقف إطلاق النار في قطاع غزة بموجب الاتفاق الذي أُبرم في شرم الشيخ المصرية في 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بوساطة قطر ومصر وتركيا ومشاركة الولايات المتحدة، بعد عامين من الإبادة الإسرائيلية.
ورغم الاتفاق فإن إسرائيل لم تتوقف عن شن غارات جوية وقصف مدفعي في قطاع غزة، كما تواصل إغلاق معبر رفح بين القطاع الفلسطيني ومصر، ولا تزال شاحنات المساعدات تنتظر في الجانب المصري من المعبر.