في إصداره الجديد (صائد النوارس) الصادر عام 2025م عن الجمعية العُمانية للكُتّاب والأدباء ودار جدل، يعيدنا محمد الصالحي إلى عوالم مكانية متعددة وشخوص لها مكانة في ذاكرة المكان، يُقدّم معها حكايات مهمة عن تاريخ المكان والإنسان القروي.

يشتغل الصالحي في كتابه على توثيق الذاكرة وإعادة سردها مرة أخرى في إطار حكائي، وإذ أقول هنا «توثيق الذاكرة» فإنني أعني ربطه الحاضر بالماضي، أو استنطاق الماضي في زمن تغيّرت فيه الملامح والوجوه والذاكرة.

من المهم الإشارة هنا إلى التوثيق الذي اشتغل عليه الصالحي كونه عملا يسرد فيه الحكايات ويعيد قراءتها في طابع حكائي قائم على إعطاء المكان أهمية كبيرة أو إبراز شخصياته في صورة بطولية يتفاعل معها القارئ، وهذا في حد ذاته مختلف عن إصداره السابق (الخضراء: لؤلؤة النهار وتغريبة المساء) الذي اشتغل فيه على فكرة التوثيق من زاوية توثيقية خالصة معتمداً على المعلومات المروية أكثر من السرد الحكائي، أما في (صائد النوارس)، فإن الصالحي قد نوّع في أسلوبه بين السرد والتخيل وجمع المعلومات وإعادتها مرة أخرى.

يُعد هذا الكتاب بحق اشتغالا مرجعيا مهما في إبراز صورة القرية وشخوصها وذاكرتها. لقد لعبت الذاكرة دورا مهما في عملية الاستعادة، وعزّزت الجانبين اللغوي والسردي؛ فتقودك الذاكرة إلى منعطفاتٍ من الحزن والألم، كما تشعل داخل القارئ الحنين المستمر إلى الماضي والطفولة، لقد قدّم الصالحي عملا إبداعيا نقل فيه القارئ إلى تخوم القرية، وطرقات الذاكرة الممتدة بين زمنين مختلفين أعاد من خلالها رونق الماضي وجمالياته.

جاءت حكايات القسم الأول من الكتاب معبّرة عن ارتباطٍ مكاني بالشخصيات، إلا أنّ للشخصيات حضورا طاغيا في عملية السرد؛ لقد اهتمّ الكاتب بشخصياته وأولاها قيمة عالية من المشاعر والأحاسيس عاد بها إلى واقعيتها خارج العمل الكتابي، إنها شخصيات مسكونة بالحزن الكبير، مقترنة بالمكان: بالقرية، وبالبحر، وبالوطن.

تصوّر الحكايات نفسية كل شخصية على حدة، فالآلام التي تسكنها لها جذور تترسخ في الذاكرة، لن تمحى ولو طال الزمن. نجد في شخصيات الصالحي صورة «صائد النوارس» الذي يواجه الغرق من أجل الحصول على نصف ريال بعد بيع طائر النورس، ليس الغرق وحده من يواجهه، بل يواجه الحر الشديد أيضا، والزمن الذي يخاتل الطفولة ويسلبها حقها في الحياة، إنها شخصية عليمة بطرق صيد النوارس، عليمة بأوقات تجمّعها.

يقدّم الصالحي شخصيات حكاياته بناء على مرجعية مكانية، يتذكر حضورها جيدا فيعمل على وصفها، وإبراز دواخلها ومشاعرها، ليجعل القارئ يتفاعل معها بصورة حميمية، فمن قرأ (صائد النوارس) يتأثر بالمواقف التي دفعت الشخصية الرئيسة إلى الصراع في الأحداث وانتهاء بنظرة التأمل الختامية في الحكاية: «شاهد سائق سيارة مارة، والنورس في يده. توقف بقربه وسأله من داخل السيارة: «بكم تبيع هذا الجريبي؟»

«بنصف ريال» ــ ردَّ.

ودون أن يخرج من السيارة، قال: «ضعه في دبة السيارة».

أخرج صاحب السيارة ورقة نقدية من فئة الخمس دراهم، تأملها الصياد وهو يخطو إلى مؤخرة السيارة والنورس في يده. تذكر كل ما فعله بدءًا من صنع المجدار حتى غرقه، تذكر رفرفات النورس ومحاولاته قطع الخيط ليلحق برفاقه، تذكر طرده من البيت وجلوسه وحيدا إلا من صياح النورس، فتح صندوق السيارة ثم أغلقه. رجع إلى مكانه ماسحًا دموعه بساعد يده، بينما كفه مازالت ممسكة ببعض ريش النورس الذي استدار حول المكان مودعا ثم اختفى في الأفق». (ص19)

إن شخصيات الكتاب جميعها، كانت مسكونة بهاجس الحزن والألم والخوف من المجهول؛ هل قصد الصالحي حشد شخصيات مختلفة من الذاكرة لتعبّر عن ذلك الألم بمصداقية تقارب الواقع في تشكّلها؟ أم أن الذاكرة في عملية المسح القديم كانت أكثر تشبثاً بدلالات الحزن والوجع؟ ننظر إلى «البانيان سيتوه» ورحلته القصيرة منذ الولادة إلى الموت بين أضراس سمكة القرش، إنها حياة مليئة بالمعاناة والتنمر ظل معها مبارك (البانيان) ثابتاً صامداً في مواجهة الآخر، إنها مرجعية تتكرّر في عالمنا المعاصر، فالتفريق العنصري بسبب اللون والمكانة والأصل حاضر، لكن مبارك البانيان ظل -رغم رحيله- خالداً بخلود المد الأحمر، هذا ما أراده المؤلف من خاتمة حكايته، إنه الخلود الزمني؛ فالذاكرة ممتدة تحكي عن تجاربها، جاء في نهاية حكاية مبارك: «حملت الأمواج دم مبارك، وكلما يأتي «المد الأحمر» يقول الصيادون: «هذا دم البانيان». (ص23) إنه ربط مدهش بين الحادثتين، وظّفه الكاتب توظيفاً جيداً خدم به قصته والشخصية التي يتناولها، وهنا أود الإشارة إلى أن الصالحي رائع في الاشتغال على قفلة حكاياته، فهو يُقدّم إنهاء محكماً في غير نص من نصوص المجموعة وهذا يدل على الاشتغال الجيد والرؤية الواسعة في التوظيف السردي.

تتجلى المرجعية الحكائية للشخصيات في قصص (سخي وهاردلك، والبوم/ البلم، وخصيف الدباغ، وفرحة الموت، والصيد البري للبحّار، وسيّد البحار) وكلها نصوص اشتغلت على عنصر سردي مهم وهو الشخصية التي لعبت أدوارها السردية في محيط مكاني مهم، انطلقت في أغلبها من ذاكرة قروية بسيطة، ثم عبرت تخوم الحكاية معبّرة عن واقع تعيشه. والمتأمل في قصص الكتاب يجد أنها في جزئها الأول كانت أكثر دهشة وتعبيراً ووصولاً إلى مخيلة القارئ، لا يعني ذلك أنّ الصالحي لم يوفق في نصوصه الأخرى، لكن المشاعر والأحاسيس واشتغالات اللغة في الجزء الأول تحيلنا على انفتاح مرجعي واسع على الذاكرة المكانية.

إنها ذاكرة تجسد الماضي، تعيش معه في الحاضر وتحاول أن تبني له صرحاً بين تخوم الكتابة الأدبية. كان الاشتغال الذي قصده الصالحي هو إبقاء الذاكرة متوهجة، وإبقاء المكان ناصعاً، وإبقاء الشخوص زمنياً على قيد الحياة، وهو الأمر الذي جعلنا نتوقف عند كل شخصية في اختلافها عن غيرها داخل النصوص من حيث الطبائع، وندهش بنهايتها المختلفة، الأمر الذي أعطى انطباعاً صادقاً في التعبير والنقل السردي.

في الختام: هل لنصف الريال قيمة معينة في مخيلة الصالحي؟ فالنورس بيع بنصف ريال، والأرنب هو الآخر بنصف ريال!!. سؤال أوجهه إلى محمد الصالحي وذاكرته.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

تجاوزت مليار دولار.. الكشف عن معاملات مالية مشبوهة لجيفري إبستين مع شخصيات بارزة في وول ستريت

(CNN) --  بعد شهر من وفاة رجل الأعمال الأمريكي جيفري إبستين في زنزانته أثناء انتظاره المحاكمة بتهم الاتجار بالجنس، أبلغ بنك جي بي مورغان تشيس السلطات عن معاملات تجاوزت قيمتها مليار دولار اعتبرها البنك "مشبوهة"، وفقا لسجلات محكمة كُشف عنها حديثا.

وصدر هذا الإخطار في 26 سبتمبر/ أيلول 2019، ضمن تقرير عن الأنشطة المشبوهة، وهو تقرير سري تُقدمه المؤسسات المالية إلى وزارة الخزانة  للإبلاغ عن أي أنشطة مشبوهة محتملة.

ويُسلط تقرير جي بي مورغان الضوء على معاملات تجاوزت قيمتها مليار دولار أجراها إبستين من أكتوبر/ تشرين الأول 2003 حتى يوليو/ تموز 2019 مع العديد من الشركات ذات الصلة، وعمالقة وول ستريت، ومحاميه السابق، وآخرين، وارتبط حسابان مدرجان في التقرير ببنكي ألفا بنك وسبيربنك الروسيين.

وكتب البنك في تقريره أنه يُبلغ عن هذه المعاملات بسبب التغطية الإعلامية السلبية لمزاعم اتجار إبستين الجنسي بالقاصرات، وتقارير إعلامية عن مزاعم اختلاسه للأموال بصفته مستشارا استثماريا، واستخدامه حسابات متعددة، والبنوك الروسية، وعلاقاته مع رئيسين أمريكيين.

وأُلقي القبض على إبستين في يوليو 2019 ووُجهت إليه تهمة الاتجار الجنسي بالفتيات القاصرات، وتوفي بعد أسابيع منتحرا في مركز متروبوليتان الإصلاحي أثناء انتظاره المحاكمة.

مقالات مشابهة

  • الشهادة الزهرة الفواحة في ميدان الكرامة
  • لماذا سلطنة عُمان مثال ناجح لإدارة الدين العام؟
  • ميزة جديدة من واتساب تنقذ المستخدمين من امتلاء الذاكرة
  • فاسد وقاتل.. شخصيات مثيرة للجدل تفتح المتحف المصري الكبير
  • OpenAI تطلق ميزة جديدة في Sora لإنشاء شخصيات رقمية من حيواناتك الأليفة ورسوماتك
  • وكيل الصحة للتخطيط والتنظيم الصحي لـ(عمان): توسعة 4 مستشفيات مرجعية لتعزيز نهج عدم المركزية في الخدمات التخصصية
  • مواصفات وأسعار السيارة الكهربائية ROX 001
  • من المتحف إلى العالم.. مصر تُعيد تقديم حضارتها برؤية المستقبل
  • تجاوزت مليار دولار.. الكشف عن معاملات مالية مشبوهة لجيفري إبستين مع شخصيات بارزة في وول ستريت