تشبه الحالة السودانية الراهنة أجواء نيفاشا القديمة، لا من حيث الزمان والرجال، بل من حيث منطق إدارة الأزمة لا حلّها الذي لطالما اتبعته القوى الكبرى تجاه السودان.
تتبدّل الجغرافيا، وتتبدّل أدوات الصراع، غير أن الفاعل الدولي الأبرز، الولايات المتحدة،لا يزال يدير خيوط المؤامرة ذاتها: تفكيك المركز عبر الأطراف، وإعادة تشكيل الجسد السياسي السوداني وفق مقاسات النظام الدولي الجديد.


في مطلع الألفية، كانت واشنطن تُشعل فتيل التمرّد في الجنوب، وتغلفه بخطاب إنساني زائف، حتى انتهى المشهد باتفاق نيفاشا الذي منح الجنوب حق تقرير المصير؛ فكانت النتيجة تفكيك السودان الأكبر، وإقامة أول دولة مولودة من رحم الوصاية الدولية.
واليوم، تتكرّر التجربة في دارفور، ولكن بلغة أكثر حداثة ودهاء.
ظهرت الولايات المتحدة في المشهد السوداني مجدداً عندما استعرت الحرب في دارفور. قبل عام ونصف، قدّمت واشنطن عرضاً مغرياً للقيادة السودانية: (الخرطوم مقابل الفاشر)، أي تسوية تُعيد ترتيب السلطة المركزية مقابل التنازل عن نفوذ الدولة في الغرب، رفضت القيادة العرض.
بعد عام ونصف، سقطت الفاشر بدعم أمريكي غير معلن، جاء بعد تعثّر مفاوضات سويسرا التي حاولت واشنطن عبرها فرض “هدنة” لتثبيت واقع سياسي جديد.
ليست واشنطن معنية بوقف الحرب بقدر ما تسعى إلى تجميدها عند خطوط تماس تخدم هندستها الجيوسياسية الجديدة،دارفور شبه دولة مستقلة إدارياً وسياسياً، تُفرغ ديمغرافياً من سكانها المحليين، ثم يُعاد ملؤها بـ”عرب الشتات” لتغيير الخريطة السكانية تمهيداً للفصل الجغرافي الكامل.
في العمق، لا تحارب مليشيا آل دقلو بالوكالة عن الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل “الإنسان الدارفوري” كما تزعم، بل من أجل الموقع.
دارفور اليوم هي بوابة الصراع بين القوى الكبرى على الفضاء الإفريقي، والبحر الأحمر هو الرئة التي تتنفس منها مشاريع السيطرة الجديدة.

تحاول واشنطن كبح التمدّد الروسي المتسارع في إفريقيا، إذ تسعى لإقامة نطاق نفوذ يمتد من تشاد إلى البحر الأحمر، لتقطع الطريق على موسكو وبكين في الوصول إلى ذلك الساحل.
داخلياً، تدرك القيادة السودانية أن الاستجابة للضغوط الأمريكية ستكون انتحاراً سياسياً، وأن المزاج الشعبي والوجدان العسكري متوحّدان حول شعار واحد: لا تفريط في السيادة.
الجيش الذي قدّم آلاف الشهداء لن يقبل أن تُعاد صياغة الدولة بقرار خارجي. ومع ذلك، تمارس القيادة نوعاً من الواقعية السياسية؛ تراوغ الغرب لتفادي مصير “البشير”، وتحاول تحييد سلاح العقوبات والمحكمة الجنائية دون أن تسقط في فخ الخضوع الكامل.
لكن المعركة الأخطر ليست في الميدان، بل في الوعي الجمعي؛ إذ تجيد واشنطن، ومعها تل أبيب، صناعة الحرب النفسية وتوجيه الرأي العام المحلي لإضعاف الثقة في القيادة، وإحداث شرخ في الجبهة الداخلية.
في لحظة التحوّل هذه، يقف السودان أمام اختبار وجودي جديد: إما أن يتحوّل إلى ساحة دائمة للوصاية الخارجية، وإما أن يُعيد إنتاج سيادته من رماد الحرب.

رشان أوشي
محبّتي واحترامي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الأمم المتحدة: الحرب تخرج عن السيطرة.. والجيش السوداني يدرس مقترح هدنة أمريكي

الخرطوم "وكالات": حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، اليوم، من أن الحرب في السودان "تخرج عن السيطرة" بعدما سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر في دارفور المحاصرة، والتي تعاني من المجاعة.

ودعا جوتيريش من قطر، إلى الوقف الفوري لإطلاق النار في هذا الصراع المستمر منذ عامين، والذي تحول إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

وقال جوتيريش إن "هناك مئات الآلاف من المدنيين المحاصرين بسبب هذا الحصار"، مضيفا أن "الأفراد يموتون بسبب سوء التغذية والأمراض والعنف".

وأشار الأمين العام للأمم المتحدة إلى "تقارير موثوقة تفيد بوجود عمليات إعدام واسعة النطاق منذ دخول قوات الدعم السريع المدينة".

وقد أفادت تقارير بأن قوات الدعم السريع قتلت أكثر من 450 شخصا في مستشفى ونفذت عمليات قتل جماعي تستهدف المدنيين على أساس عرقي وارتكبت اعتداءات جنسية أثناء سيطرتها على المدينة الأسبوع الماضي.

مقترح هدنة

من جهة أخرى، يبحث مجلس الأمن والدفاع السوداني برئاسة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان مقترح هدنة تقدّمت به الولايات المتحدة لوضع حد للنزاع الدامي في السودان منذ أكثر من عامين، بحسب مصدر حكومي في بورت سودان.

وامتدت رقعة الحرب التي أودت بعشرات الآلاف وهجّرت الملايين في السنتين الماضيتين، إلى أماكن جديدة في السودان في الأيام القليلة الماضية مثيرة المخاوف من اشتداد الكارثة الإنسانية بشكل أكبر.

وبعد وساطة في نزاعات أخرى في إفريقيا والشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة، تسعى الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في السودان.

ورفضت السلطات الموالية للجيش مقترح هدنة في وقت سابق كان ينص على استبعادها واستبعاد قوات الدعم السريع المتقاتلتين، من عملية الانتقال السياسي بعد إنهاء النزاع.

وتأتي المحادثات الأخيرة عقب تصعيد ميداني إذ تستعد قوات الدعم السريع لشن هجوم على ما يبدو على منطقة كردفان (وسط) بعد أن استولت على الفاشر، آخر معاقل الجيش في دارفور في الغرب.

وقال المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته نظرا إلى أنه غير مخوّل التحدّث إلى الإعلام إن "مجلس الأمن والدفاع سيعقد اجتماعا لبحث مقترح الهدنة الأمريكي".

وروى عدد من الناس الذين فروا من الفاشر لوكالة فرانس برس مشاهد الخوف والعنف.

وقال محمد عبدالله (56 عاما) لفرانس برس إن مقاتلي الدعم السريع أوقفوه أثناء فراره من الفاشر السبت، بعد ساعات على سقوطها.

وأكد أن عناصر الدعم السريع "طلبوا منا هواتفنا وأموالنا وكل شيء. قاموا بتفتيشنا بشكل دقيق".

وأثناء توجهه إلى طويلة، على مسافة 70 كيلومتر غربا شاهد "جثة في الطريق يبدو وكأن كلبا نهشها".

جثث مكدسة

فيما أعلنت شبكة أطباء السودان اليوم أن عشرات الجثث مكدسة داخل المنازل في مدينة بارا بولاية شمال كردفان بوسط السودان، مشيرة إلى أن الدعم السريع يمنع ذوي الضحايا من الاقتراب منها.

وقالت شبكة أطباء السودان، في بيان صحفي، إنها تتابع بقلق ما يجري في مدينة بارا من جرائم مروعة ترتكبها الدعم السريع بحق المدنيين العزل، في مشهد يلخص أبشع صور الانتهاك الإنساني والقتل الممنهج.

وأشارت إلى أن التقارير الميدانية تفيد بأن عشرات الجثث مكدسة داخل المنازل بعد أن منعت الدعم السريع ذوي الضحايا من دفنهم، ليبقى الموتى محاصرين في بيوتهم، والأحياء محاطين بالرعب والجوع والعطش"، لافتة إلى تزايد أعداد المفقودين يوميا، مع انقطاع كامل للاتصالات وانعدام أي وجود طبي أو إنساني فاعل في المدينة.

وأضافت أنه في ظل هذا الجحيم، تتواصل موجات النزوح الجماعي من بارا في ظروف بالغة القسوة، حيث يفر المدنيون سيرا على الأقدام نحو المجهول، دون غذاء أو دواء أو مأوى، بينما تنهار الخدمات الصحية تماما وتنتشر الأمراض وسوء التغذية بين الأطفال والنساء وكبار السن.

وأكدت شبكة أطباء السودان أن ما يحدث في بارا جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس، واستمرار الصمت الدولي تجاهها يمثل تواطؤا مخزيا.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: الحرب تخرج عن السيطرة.. والجيش السوداني يدرس مقترح هدنة أمريكي
  • غوتيريش يحذّر من خروج الحرب عن السيطرة في الفاشر
  • الحكومة السودانية تدرس مقترحاً أمريكياً.. أمير قطر يدعو لوقف الحرب
  • الأمم المتحدة: قوات الدعم السريع لا تزال تمارس الانتهاكات بحق المدنيين في الفاشر
  • تقرير دولي: المجاعة تنتشر في مدن بدارفور وكردفان
  • تقرير أممي: الملايين يواجهون المجاعة في الفاشر وكادوغلي بالسودان
  • الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: أعمال عنف وحشية في الفاشر تجبر الآلاف على الفرار
  • الولايات المتحدة تدين “الفظائع الجماعية” في الفاشر وتدعو لوقف العنف العرقي
  • واشنطن تدين "فظائع الدعم السريع" بحق المدنيين في الفاشر السودانية