اليمن بين أوكرانيا وروسيا.. وحسابات البحر الأحمر
تاريخ النشر: 4th, November 2025 GMT
يبدو أنّ المطلوب من اليمن هو الاختيار بين إدانة صريحة لروسيا وقطع لخطوط التواصل معها، أم إبقاء قنواتٍ قد تُصبح غدا مفاتيح تسوية. اتهاماتٌ تُقدَّم كحقائق مكتملة، من تجنيدٍ وتسليحٍ وتموضعٍ عسكري، بينما البحر الأحمر وباب المندب يطلبان سياسة تُخفّف الاشتعال لا تزيده.
تبدأ القصة من سفارة أوكرانيا في الرياض، من مكتبٍ تتوالد فيه الرسائل والهمسات والضغط الناعم الذي يريد أن يتحوّل إلى قرار علنيّ معادٍ لموسكو.
ليس الأمر بيانا يمضي وتنساه وسائل الإعلام بعد أيام، بل مسعى منسّق هدفه وضع اليمن في خانة اصطفافٍ سياسي مُعلن، مع ما يستتبعه ذلك من كلفة على التوازنات الهشة في البحر الأحمر وباب المندب، في اختبار لقابلية اليمن لمجاراة موجة استقطابٍ دولي تُسقط حمولاتها على ملفٍ محلي شديد التعقيد.
المعلومات تفيد بأنّ لقاء في الرياض، جمع السفير الأوكراني لدى المملكة العربية السعودية بوكيل وزير الخارجية اليمنية منصور علي سعيد بجاش في شهر حزيران/ يونيو الفائت. على تلك الطاولة الدبلوماسية، سُلّمت إلى الجانب اليمني "حزمة" من الادعاءات المصاغة بإحكام، وتفيد بأنّ رجل الأعمال اليمني عبد الولي الجابري الموجود في مناطق تسيطر عليها حركة أنصار الله، يجند وينقل سكانا محليين يمنيين عبر سلطنة عُمان وإثيوبيا، للمشاركة في العملية العسكرية الروسية الخاصة، وأن موسكو، عبر إيران، تُزوّد الحوثيين بالأسلحة التي تُستخدم لمهاجمة السفن في البحر الأحمر.
لا تقف الاتهامات عند هذا الحدّ، بل تتخطاها إلى حدّ اتهام روسيا بنشر مستشارين عسكريين في صنعاء. بهذا النَسَق، يُراد للحكومة المنية أن ترى روسيا لاعبا مباشرا في الساحة اليمنية، وأن تختار القطيعة معها كموقفٍ أخلاقيّ.
لكن، حين ننقل الملف من لغة الاتهام إلى منطق المصلحة والبرهان، تتبدّل الصورة؛ روسيا تدعو إلى تسوية سياسية في اليمن، وتُبقي قنواتها مفتوحة مع جميع أطراف النزاع في اليمن، تحديدا مع الحكومة المعترف بها دوليا وكذلك مع ممثلين عن "أنصار الله" على السواء.
هذا التموضع، بذاته، لا يُشبه سلوك طرفٍ يسعى إلى تغذية الحرب كما يحاول الجانب الأوكراني تصوير الأمر، بل يضع موسكو في خانة "الوسيط المحتمل"، الذي يحتاجه أيّ مسار تفاوضي جدي. إبقاء الخطوط ساخنة مع الجميع ليس ترفا دبلوماسيا، بل أداة عملية حينما تهدأ المدافع ويحين تدوير الزوايا.
أمّا الادعاء بأنّ موسكو تمدّ الحوثيين بالسلاح عبر إيران، فتلك التهم التي تنفيها موسكو بشكل قاطع، تصطدم بغياب أدلة دامغة لدى أيّ آلية رقابية دولية، وبما فيها الأمم المتحدة.
إذا، الاتهام هنا سياسيّ أكثر منه قضائيّ؛ هو يطلب من الحكومة اليمنية لتبنّي خلاصته من دون أن تُقدّم براهينه. والأهم أنّ تصوير روسيا كعاملٍ لتجويف أمن البحر الأحمر لا يتسق مع مصلحتها المعلنة في استقرار الملاحة، ومع مشاركتها في مبادرات الأمن البحري، ولا مع قلقها المتكرر من هشاشة الوضع في مضيق باب المندب. من يريد ضبط الإيقاع في المضيق لا يوغل في إشعال النيران حوله، ومن يدرك حساسية الممرات لا يغامر بتوسيع لائحة الخصوم على حساب قنوات الوساطة.
تهمة تجنيد "مرتزقة" عبر مسارات عُمان وإثيوبيا، تعاني بدورها من عجز في الإسناد؛ لا مصدر مستقلا يؤكد الرواية. وعليه، يمكن القول إنّنا أمام حكاية تُدفع إلى الواجهة على أمل أن يتحول تكرارها إلى حقيقة.. وحين تتكفّل وسائل إعلام موالية للدولة الغربية بتدوير الاتهامات وتكثيفها، يصبح المطلوب من حكومة اليمن أن تتعامل مع الأمر ضمن سردية واحدة: روسيا تُجنّد وتُسلّح وتتموضع عسكريا، وعلى هذا الأساس، يجب قطع الخطوط معها فورا. لكن اليمن ليس مسرحا لخطاب الشعارات، بل ساحة تتقاطع فيها حسابات الأمن الإقليمي والممرات البحرية وموازين القوى الداخلية.
في المقابل، تبني السياسة الرشيدة موقفها على قاعدتين: الدليل والمصلحة. الدليل الغائب لا يصنع سياسة، والمصلحة اليمنية تقتضي خفض التصعيد في البحر الأحمر، لا رفع منسوب التوتر بإغلاق أبواب الوساطة.
ومن هذا المنطلق، يصبح المشهد كالتالي: إنّ الضغط من أجل إدانة موسكو وقطع الاتصالات معها قد يبدو في لحظته مكسبا خطابيا، لكنّه عمليا يسحب من يد الحكومة اليمنية ورقة توازن قد تحتاجها غدا حين يفتح المسار السياسي كوة في جدار الأزمة. لا أحد في المنطقة يريد باب المندب رهينة سجالٍ دولي يستعير قضاياه من حربٍ أخرى، ثم يترك أمن الملاحة معلّقا على حبال الإعلام.
إنّ وضع الاتهامات في إطارٍ دوليّ شفّاف، هو الطريق الوحيد لتحويل الخطاب إلى حقيقة قابلة للبناء عليها. أمّا الاكتفاء بضغوطٍ دبلوماسية ورسائل إعلامية، فلن يغيّر معادلات القوة على الأرض، ولن يضمن حرية الملاحة، ولن يصنع استقرارا في اليمن.
المطلوب، بداهة، هو نسج سياسة تحمي الممرات وتُبقي الجسور سليمة، لا سياسةٌ تُعاقِب القنوات وتستبدلها ببيانات إدانة. ومن هنا تبدو محاولة كييف إلى جرّ اليمن لاصطفافٍ حاد ضد موسكو، هو أقرب إلى إدارة معركة رمزية، تُسقِط وقائع حربٍ أوروبية على ساحةٍ عربية مختلفة في حساباتها ومخاطرها وحدودها.
وفي المحصلة، فإنّ ما يُبنى على اتهاماتٍ بلا أدلة لن يصمد أمام رياح البحر الأحمر، ولا أمام ضرورات الأمن الإقليمي. كما أنّ اليمن، وهو يعيد حساباته بين الداخل والممرات، يحتاج إلى شبكة علاقاتٍ مرنة تُوفّر له هوامش مناورة ومخارج تفاوض، لا إلى قطيعةٍ تُقفل الأبواب قبل أن تُطرق. السياسة التي تُحسَب بميزان المصالح لا تُدار بالانفعال، بل بالوقائع والقنوات المفتوحة، وباستثمار كل وسيطٍ محتمل حين يحين الوقت لتقليل الخسائر وتهدئة المضيق.. وهذا ما على الحكومة اليمنية أن تدركه جيدا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء اليمن الحوثيين روسيا اليمن روسيا الحوثيين اوكرانيا البحر الاحمر قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحکومة الیمنیة البحر الأحمر
إقرأ أيضاً:
كيف حولت أوكرانيا حربها ضد روسيا إلى لعبة إلكترونية؟
ابتكر الجيش الأوكراني استراتيجية تعتمد على الطائرات المسيرة، حولت حربه ضد الجيش الروسي إلى ما يشبه لعبة إلكترونية، إذ يحصل الجنود على مكافآت مقابل قتلهم، أو أسرهم لجنود روس.
وقال نائب رئيس الوزراء الأول الأوكراني ميخائيل فيدوروف، إن هذا النظام انتشر بين الوحدات العسكرية الأوكرانية، ويتم توسيعه ليشمل عمليات الاستطلاع والمدفعية واللوجستيات.
وتتنافس فرق الطائرات المسيرة على جمع نقاط في نظام يعرف بـ"مكافآت جيش الطائرات المسيرة"، وفقا لما ذكرته صحيفة "غارديان".
وتمكنت الفرق البالغ عددها 400 وحدة في سبتمبر من قتل أو إصابة 18 ألف جندي روسي، وفقا لمسؤولين أوكرانيين.
ويتيح هذا النظام، الذي أُطلق قبل أكثر من عام، للجنود الذين يقتلون أو يصيبون الجنود الروس الحصول على نقاط يمكن استبدالها بمزيد من الأسلحة عبر متجر إلكتروني يحتوي على أكثر من 100 نوع من الطائرات المسيّرة، والمركبات الذاتية، وغيرها من المعدات الحربية للطائرات المسيرة.
وأوضح فيدوروف، أن هذا النظام يعد مثالا بارزا على زيادة "أتمتة الحرب"، مضيفا:"جميع القوات المسلحة تعلم بوجود هذا النظام"، مشيرا إلى "احتدام المنافسة" بين الفرق على النقاط للحصول على طائرات مسيرة وأنظمة حرب إلكترونية.
وتابع:"كلما قتلت المزيد من المشاة تحصل على المزيد من الطائرات المسيّرة لقتل المزيد من المشاة؛ هذا أصبح نوعا من دائرة ذاتية التعزيز".
وازداد عدد الضحايا الروس في سبتمبر مقارنة بأكتوبر الماضي، ويرجع ذلك، جزئيا، إلى مضاعفة الحكومة الأوكرانية مكافأة قتل المشاة الروس من ست نقاط إلى 12 نقطة.
وأشار فيدوروف إلى أن الاستخبارات الأوكرانية تعتقد أن روسيا قد تطور نظاما مماثلا.
وتمنح 12 نقطة مقابل قتل جندي روسي، و25 نقطة مقابل قتل مشغل طائرةٍ مسيّرة، و120 نقطة في حال استخدام طائرة مسيّرة لأسر جندي روسي.
ويختبئ مشغلو الطائرات قرب الخطوط الأمامية في مواقع خفية أمام شاشات الحاسوب لتوجيه الضربات، ويستخدمون أحيانا أدوات شبيهة بوحدات التحكم في ألعاب الفيديو.
وسع الجيش الأوكراني نظام النقاط ليشمل وحدات المدفعية، ووحدات الاستطلاع، ووحدات الفرق اللوجستية؛ إذ تحصل كل وحدة على نقاط بعد أداء مهمتها بشكل جيد.
وتزامن توسيع النظام منح النقاط مع تحذيرات من الاعتماد المتزايد على حرب الطائرات المسيّرة، بسبب تطور الدفاعات الجوية المضادة لهذه التقنيات.
ودعا خبراء من معهد الخدمات المتحدة الملكي إلى إعادة التركيز على المدفعيات التقليدية والطائرات، وفقا للصحيفة