بابكر بدري رائد تعليم الإناث في السودان
تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT
"أصدق التاريخ ما كُتب في زمانه وصدق فيه كاتبه وصدّقه معاصروه فيما روى"، بهذه العبارة صدّر بابكر بدري -وهو أحد أعلام السودان في نهاية القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20- مذكراته التي أودعها بين دفتي كتابه "حياتي"، هذا السِّفر الذي لا يسجل يوميات فرد فحسب، بل هو تأريخ لشمال السودان في تلك الفترة، ورسم دقيق لطبوغرافيته الثقافية والاجتماعية والسياسية.
فمن خلوات القرآن إلى ساحات المعارك ومن الزنازين إلى مقاعد التفتيش التربوي عاش بابكر السودان بكل تقلباته ووهب حياته للتعليم، مؤمنا بأن إصلاح المجتمع يبدأ من العقل، وجمع بين نضال السيف في صفوف المهدية ونضال القلم في معركة التعليم، في صورة عكست ملامح السودان في واحدة من أكثر مراحله التاريخية حساسية.
عاصر بابكر بدري فترة الحكم العسكري الثنائي (المصري البريطاني المشترك)، وشهد الثورة المهدية وكان عنصرا فاعلا فيها، ثم شاهدا على أفول نجمها، وذاق مرارة الأسر وظلمة السجن في مصر، وعاد إلى السودان تاجرا ومعلما في فترة الاحتلال البريطاني.
ويُحسَب لبدري أنه كان حامل لواء ثورة التعليم عموما، وتعليم الفتيات خصوصا، حتى نال لقب "معلم البنات" وعُرف به.
ويسجل له وعليه أحيانا أنه هادن الاحتلال البريطاني وانتقد رجاله في مواطن كثيرة، واستفاد من الفرص التي أتاحها في التعليم والإدارة المحلية، ومدحه في تطبيق العدالة وتوفير الأمن، وانتقد بعض محاولات الثورة عليه تغليبا لمصلحة عامة الناس، بحسب رأيه.
ولد بابكر بدري في 1861، وذكرت مصادر 1864، في منزل متواضع على نهر عطبرة لم يحدده بدقة، علما بأن مدينة عطبرة لم تكن قد تأسست، فقد كانت هناك قرية الداخلة التي أصبحت بعد ذلك حيا من أحياء مدينة عطبرة.
وهذه المنطقة كانت تدار ضمن مناطق قبيلة الرباطاب، ولعلهم كانوا جل سكان الداخلة والمناطق المحيطة بها، قبل أن تصبح المنطقة رئاسة لسكك حديد السودان.
إعلانويقول السفير الأسبق للسودان في الولايات المتحدة الخضر هارون إن أسرة بابكر بدري انتقلت وهو صغير إلى رفاعة، حيث درس كسائر أبناء جيله في الخلاوي، وحفظ القرآن في 7 سنوات على الشيخ أحمد حامد الكراس الذي كان متفانيا في تحفيظ القرآن ومتعففا لا يستغل التلاميذ لمصالحه الخاصة كما كان يفعل بعض المشايخ، ولا يسمح لهم بالتسول وتتبّع المآتم لأكل الصدقات.
ثم انتقلت به أمه إلى ود مدني، ليستزيد علما وفقها على الشيخ الأزيرق الذي كانت مكتبته تحوي 80 مجلدا بخط يده في مختلف العلوم الشرعية.
ويقول الكاتب السوداني حسين عبد الجليل "من قراءتي لكتاب "حياتي" يتبين أن هناك شخصيتين لعبتا دورا محوريا في تشكيل شخصية الفتي بابكر بدري، وهما والدته وشيخه الفقيه أحمد حامد الكراس".
ويتابع الخضر هارون في حديث للجزيرة الوثائقية قائلا إن "والدة بابكر هي التي أخذته وسافرا سويا لمبايعة المهدي، وكانت كما وصفها ابنها "صماء العقيدة" في إيمانها بالمهدية، وفي الأغلب تكون هي التي دفعته ليكون جنديا مجاهدا في صفوف المهدية، وهي من رافقته مع والده وزوجته وأخواته في حملة ود النجومي لفتح مصر".
أما شيخه الفقيه أحمد حامد الكراس -الذي تتلمذ على يديه في الفترة من 1871 إلى 1878- فقد كان شخصية غير عادية.
كان فوق الـ70 من عمره وهو يدرّس بمفرده ما يقارب 400 تلميذ في خلوته من الساعة الرابعة صباحا وحتى الـ11 مساء، وكان يستغل وقته استغلالا فذا، ولا يبالي بأهل الجاه والمال ولا يقبل الهدية.
بابكر بدري مجاهدا مع المهديةيخبرنا السفير الخضر هارون كيف التقى بابكر بدري بالمهدي، فقد كان المهدي يزور أقرباء له في رفاعة، فرآه أكثر من مرة وصلى معه المغرب.
وبعد ذلك انضم إلى ثوار المهدية ولبس الجبة المرقعة، وقد بلغت به الحماسة أنه كان يتعرض قصدا لرصاص السفن الحربية طلبا للشهادة، فجعلوا عليه حرسا كي لا يفعل، وهاجر تحت إلحاح والدته ملتحقا بالمهدي الذي كان يحاصر الخرطوم.
وشارك بابكر بدري مجاهدا في الجيش الذي أرسله المهدي بقيادة ود النجومي لطرد الإنجليز من المتمة، وكانوا قد جاؤوا لإنقاذ "غوردون" المحاصر في الخرطوم، والذي قُتل هناك عام 1885.
ثم شارك بدري في حملة ود النجومي إلى توشكي بعد وفاة المهدي، وهي رحلة موت ذاقوا خلالها الأهوال، ثم كانت الهزيمة النكراء في توشكي والوقوع في الأسر بمصر ثم العودة إلى السودان.
واحتال بابكر بدري يوم معركة كرري- كما روى- ليفر من الموت، وكان يقارن بين حاله تلك وحاله قبل ذلك وهو يتعرض للسفن الحربية طلبا للموت.
وبذلك الفرار انتهت قصة بابكر بدري المجاهد بحد السيف والمدفع ليبدأ فصلا جديدا في حياته، فبعد سقوط أم درمان حفلت سيرة الرجل بما يوحي بتغير نظرته تجاه الإنجليز مما سنراه من الأمثلة لاحقا.
تعامله مع المحتل البريطانيويرى الكاتب حسين عبد الجليل أن رؤية بابكر بدري تختلف عن رؤية كثير من المؤرخين الوطنيين لبعض الوقائع التي حدثت في عهديْ المهدية والاستعمار، فمعظم المؤرخين السودانيين كانت رؤيتهم للأحداث تغطيها غشاوة انحيازهم التام لكل ما هو وطني سوداني واستهجانهم لمعظم ما يصدر من الأجنبي المحتل.
إعلانلكن رؤية الشيخ لم تكن كذلك، فهو كمعاصر ومشارك في بعض الوقائع يقول ما يراه حقا بغض النظر عن تأثير قوله على "الكرامة الوطنية"، فالرجل كان صادقا لدرجة الجرأة أحيانا، وهو لم يكن محتاجا لصكوك غفران تثبت وطنيته، فقد شارك كجندي في جيش المهدي، ومشى على قدميه مئات الأميال مع ود النجومي الذي قاد قوات "لفتح مصر"، وذاق بدري ذل الأسر قبل أن يشارك في معركة كرري.
ويبدي بابكر بدري رأيه في حكم الاحتلال كأوضح ما يكون، فعندما سأله المسؤول البريطاني السير كيري في عام 1909 إن كان "الناس مبسوطين في الجزيرة بعد وصول السكة الحديد إلى سنار"، فأوضح له بابكر بدري حيرته بقوله "الطبيعة تأمرني بمحبتك ولكن الشريعة تنهاني عن حبك، لذا فأنا تعبان بين الطبيعة والشريعة".
وأضاف بدري "سعادتك سألتني وقد أجبتك بما أعتقده، ولو سألت غيري وأجابك بغير ما أجبتك به يكون قد غشك ونافق لك، وأنا لا أرى سببا لأن أنافق لك"، وهنا غضب المسؤول الإنجليزي وقال لبابكر "لا تقل هذا الكلام لكل واحد واحفظه في عقلك فقط".
ويتكرر رأي بابكر بدري المعقد في الحكم الاستعماري مرة أخرى، ففي عام 1916 عندما زار مدرستهم مسؤول حكومي إنجليزي وسمع بابكر بدري يقول لتلاميذه "إن الحكومة عاقلة"، فسأله المسؤول الاستعماري "ولماذا تقول للتلاميذ الحكومة عاقلة ولا تقول لهم الحكومة عادلة؟"، فرد عليه المؤلف "لأنها ليست عادلة"، وواصل قوله "بالنسبة لنا فعقلها خير لنا من عدلها".
ولم تمنعه وطنيته السودانية من الشعور بالامتنان للإنجليز لتصرفهم السريع الذي جنّب البلاد الوقوع في براثين مجاعة طاحنة في عام 1914، فهو يقول "اهتمت بعد ذلك الحكومة بصورة ملحة بتموين السودان، فجلبت غلالا من الهند ولولا ذلك لمات من السودان ما لا يقل عن 20% من سكانه جوعا".
انتهز الشيخ نداء مدير التعليم فى الجزيرة المستر "بلوت" لفتح المدارس فأقنع عددا من وجهاء رفاعة بتسجيل أبنائهم كي يتبعهم الناس، وبالفعل تقرر فتح مدرسة في رفاعة وعين الشيخ أستاذا لها عام 1903، وهكذا بدأت رحلة الرجل مع التعليم، ونال تدريبا لـ3 ايام فقط في الخرطوم، ولم يكن قبلها قد رأى "سبورة ولا بشاورة" كما قال، وبدأ المدرسة في بيته برفاعة.
وتوالت إنجازات الشيخ في التعليم، فافتتح بعد ذلك أول مدرسة للبنات في رفاعة، وبدأها ببناته تشجيعا للآخرين، وفي سنة 1917 اقترح على المستر كروفوت فتح خلاوي نظامية في البوادي "لتعليم أولادهم بفقهائهم إن وجدوا، أو بأمثالهم من فقهاء السودان"، ونفذت الحكومة المقترح فورا حتى عمت الخلاوي النظامية كل بقاع السودان.
ترقى بعدها الشيخ ليكون مفتشا للمعارف، فجاب أطراف السودان البعيدة من حلفا إلى الفاشر والجنينة، فالقضارف وكسلا وجبال النوبة على ظهور الدواب ثم الشاحنات بعد أن دخلت السودان، وكانت الخلاوي النظامية تدرّس إلى جانب القرآن مبادئ النحو والإملاء ومبادئ الحساب.
واستمر الرجل يعمل مفتشا في المعارف بهمة صاحب رسالة لا بمثابرة موظف ينتظر الترقيات، وكثيرا ما تدخل لدى رؤسائه لإنصاف المظلومين من زملائه، واستمر على ذلك حتى أحيل على المعاش أواخر عام 1929 وقد شارف الـ66 من العمر.
وليس أدل على صلابته وقوة عزيمته من أنه بدأ في تأسيس صرح الأحفاد في رفاعة، وبدأت بالفعل بأحفاده ثم ضمت عددا من أبناء كبار الأنصار.
معارضته للعنف
يستقرئ كثير من الكتّاب السودانيين -ومنهم أبو ذر الغفاري بشير عبد الحبيب- مجموعة من الحوادث التي وردت في مذكرات بابكر بدري، والتي تنم عن تحوّل مفصلي في علاقته بالإنجليز بعد احتلالهم السودان، ومنها ما لاحظه في شخصية ود حبوبة (رفيقه في الجهاد) من تمرد على الحكومة ومحاولته ثنيه عن ذلك، وذلك قبل البداية الفعلية لحركته المسلحة بما يزيد على 3 سنوات.
إعلانوكان تقديره أن السعي لطلب المعرفة خير من العمل السياسي المناهض للإدارة الاستعمارية، فقال في وصيته لطلاب قسم المعلمين والقضاة بكلية غوردون، قبيل حركة 1924 -وهي الحركة التي قُتل فيها السير لي أستاك، وعلى أثرها انتهى الحكم الثنائي، وخرجت مصر من السودان- "يجب عليكم أن تجعلوا الكلية دار علم لا دار سياسة، فإني أخاف إذا تماديتم في طريقكم هذا أن تقفل الحكومة الكلية ولو إلى أجل، فتسدوا الباب على أنفسكم وعلى الجيل الذي بعدكم على الأقل".
شهادات في الرجل
وجاء في ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي لمذكرات البروفيسورة "إيفا م. تي. باول" "لقد كان بابكر بدري رجلا موهوبا وذا حساسية عالية تجاه الأطفال والنساء ومصاعبهن في الحياة، ويُذكر للرجل فضل السبق في إقامة أول مدرسة للبنات بالسودان، كانت أول تلميذاتها هن بناته وبنات بعض أفراد عائلته".
وكان من رأيه أن تعليم البنات السودانيات سيحض الشباب السودانيين على عدم الاقتران بالأجنبيات.
وكان كثيرا ما يعين ويستضيف في بيته الأمهات المطلقات أو اللواتي هجرهن أزواجهن وفقدن بذلك العائل.
وكان يستند إلى حس إنساني رفيع ومعرفة عميقة بالشريعة الإسلامية في عدله مع النساء في بيته وفي وطنه الكبير.
وعندما كان في منتصف عمره وقف معارضا لبعض القوانين التي رأى أنها تعيق تطور المرأة، ووقف ضد بعض العادات الموروثة مثل بقاء المرأة مع عائلة أمها حتى بعد الزواج، وطبق ذات الشيء على بناته، وكان ديدنه دوما معاملة المرأة معاملة عادلة، وكان يعد ذلك واجبا أخلاقيا وروحيا، منه يستمد الرجل سلطته".
ويعتبر بابكر بدري أول من ألّف الشعر للطفل السوداني، وضمّنه كتاب "المطالعة"، وقد قام المستر سكوت والأستاذ يوسف بدري بترجمة بعض فصول كتاب "حياتي" إلى اللغة الإنجليزية.
وفي فيلم "معلم البنات"- الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- بدا بابكر بدري شغوفا بالتعلم والقراءة، فلا يكاد يلقاه أحد إلا وهو ممسك كتابا يطالعه.
وتقول عنه الناشطة النسوية رباح الصادق المهدي "كان الشيخ بابكر بدري مثقفا بمقاييس أهل السودان في وقته، ودخل الخلوة "الكُتّاب" مثل غيره من الفتيان وشجعته أمه "السيدة مدينة" بشدة على طلب العلم، مع أنها أمية".
ومن أقواله المأثورة ما جاء في كتابه "حياتي" تحت عنوان "حوادث الأيام علمتني"، فكتب يقول "إن المحركات للدفاع أربعة: الدين والعِرض والمصلحة والحظ، أما الدين إذا أهين فعلى المسلم الدفاع عنه حتى يموت شهيدا، وأما العرض إذا ثلم فيجب الدفاع عنه حتى يقف المدافع على شفير الموت ثم ينظر، فإذا كانت حياته أحفظ للعرض فليحيا، وإذا كان موته أستر للعرض فليمت، وأما المصلحة إذا عرضت فليعرض طريقها على الدين والعِرض فإن وافقا عليها، وإلا فتركها أولى، وأما الحظ فلا قيمة له".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات بابکر بدری السودان فی أول مدرسة فی رفاعة بعد ذلک
إقرأ أيضاً:
القومي للمرأة يعلن أسماء المشروعات الفائزة في برنامج الحاضنة الابتكارية للقضاء على ختان الإناث بالأقصر
أعلن المجلس القومي للمرأة أسماء المشروعات الفائزة في المرحلة الثانية من برنامج الحاضنة الابتكارية لريادة الأعمال الاجتماعية للقضاء على ختان الإناث، والذي نُفذ بمحافظة الأقصر بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، في إطار جهود اللجنة الوطنية للقضاء على ختان الإناث.
وقد فاز في البرنامج خمسة مشروعات للحصول على منح لتمويل النماذج الأولية لأفكارهم، وجاءت النتائج بفوز مشروعات "الندى – فيد واستفيد" و"ريحان" و"الكرم كلين" و"لينوس" و"أرز الأمان".
ويأتي هذا البرنامج في إطار حرص المجلس القومي للمرأة على تمكين الشباب وتشجيع الابتكار الاجتماعي كأداة فعّالة في مناهضة الممارسات الضارة التي تؤثر على المرأة والفتاة، وتعزيز جهود الدولة لتحقيق التنمية المستدامة.
ويهدف البرنامج إلى دمج مفاهيم التوعية المجتمعية بالقضاء على ختان الإناث داخل نماذج مشروعات ريادية مبتكرة، بما يعزز الدور الفعّال للشباب في تحقيق التنمية المحلية المستدامة ودعم رؤية مصر 2030.