على مدّ البصر لصالح حمدوني.. حين تتحول الكاميرا إلى فلسفة
تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT
هل الصورة الفوتوغرافية مجرد توثيق عابر للواقع؟ أم أنها نصٌّ مفتوح يشارك في إنتاجه وتفكيكه؟ في زمن يغرق فيه عالمنا في بحر من الصور، يأتي كتاب «على مدّ البصر: في الفوتوغراف» للباحث والمصور صالح حمدوني، والصادر حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، ليُعيد طرح السؤال القديم الجديد حول سلطة الصورة ومعناها.
يقدم حمدوني مقاربة نقدية وفلسفية عميقة، معتبرا الفوتوغرافيا خطابا ثقافيا ومعرفيا يتجاوز الجماليات. إنه يدعو إلى النظر إلى "العين" بوصفها أداة مقاومة، ويعيد تفعيل نظريات فلاسفة كبار مثل رولان بارت وسوسير وبريشت، ليؤسس لقراءة عربية معاصرة في سيميائية الصورة.
الكتاب، الواقع في نحو 200 صفحة من القطع المتوسط، عمل نقدي بصري يتجاوز التوثيق إلى التفكيك والتمثيل، ويقدّم مقاربة فلسفية حيث يصف حمدوني الفوتوغرافيا بأنها "فضاء تأملي يربط بين الحسّ الجمالي والإدراك الاجتماعي"، معتبرا أن الصورة ليست انعكاسا للواقع فحسب، بل "نصٌّ مفتوح يشارك في إنتاج الواقع ذاته". ويستعرض المؤلف أمثلة من التاريخ الإنساني لتأثير الصورة الفوتوغرافية في تشكيل الرأي العام، من صورة الطفلة الفيتنامية كيم فوك إلى أعمال مصوّري الحروب مثل إدي آدامز وكيفن كارتر.
الفوتوغرافيا فعل تأويلي ومعرفييضع صالح حمدوني الصورة في قلب الأسئلة الفلسفية الحديثة، معتبرًا إياها نصّا مرئيا يمكن قراءته مثل اللغة. ومن خلال لغته التحليلية الرشيقة، يذهب إلى أن الصورة لم تعد مجرّد توثيق لحظة عابرة أو انعكاس للواقع، بل صارت موقعا للتمثيل وإعادة إنتاج العالم.
في فصل عنوانه «العين كأداة مقاومة»، يشرح حمدوني كيف يمكن للكاميرا أن تتحوّل من أداة للهيمنة إلى وسيلة للمقاومة، ومن أداة لتثبيت الخطاب السلطوي إلى مساحة لكشف التناقضات والتفاصيل المسكوت عنها في الحياة اليومية.
يستعين الكاتب بنظريات رولان بارت، سوسير، ألتوسير، وبريخت، ليؤسس لقراءة عربية معاصرة في فلسفة الصورة. يقتبس من بارت تأملاته في «أسطورة الصورة» وفي مفهوم «الرسالة الفوتوغرافية»، ليبين كيف تتداخل العلامة البصرية مع البنية الأيديولوجية، وكيف تُستخدم الصورة لتوجيه الانفعال الجمعي وصناعة الرأي العام.
كما يناقش حمدوني علاقة الصورة بالرمز والدلالة والسياق، في ضوء السيميائيات الحديثة، معتبرًا أن الفوتوغرافيا "لغة ثانية" تكتب بالضوء، وتُقرأ بالعقل والعاطفة معًا.
يمتد التحليل في الكتاب ليشمل البعد الاجتماعي والسياسي للصورة. فالكاتب يرى أن الصورة الصحفية مثلًا لا تكتفي بسرد الأحداث، بل تصوغ سردية كاملة عن العالم، وتعيد إنتاج السلطة والمعنى.
ويستعرض المؤلف نماذج أيقونية من تاريخ الفوتوغرافيا العالمية، مثل صورة الطفلة الفيتنامية كيم فوك وهي تهرب من القصف بالنابالم، التي التقطها المصور نيك أوت عام 1972، وصورة الجنرال الفيتنامي وهو يعدم أحد الأسرى في الشارع بعدسة إدي آدامز عام 1968، وهي الصورة التي حازت جائزة بوليتزر وأثارت جدلا أخلاقيا حول وظيفة الكاميرا بين التوثيق والفضح.
كما يتناول الكتاب تجربة المصور الجنوب إفريقي كيفن كارتر الذي التقط صورته الشهيرة لطفلة سودانية تتضور جوعا في مجاعة السودان عام 1993، وما تلاها من انتحاره بعد عام واحد. يرى حمدوني في تلك الحادثة ذروة المأزق الأخلاقي للمصوّر حين يجد نفسه بين فعل الشهادة وفعل التدخل.
يخصّص حمدوني فصولا متقدمة للحديث عن العلاقة بين الصورة والضمير، مستعينًا بما يسميه "الأخلاقيات البصرية" التي تحكم فعل النظر في زمن الانكشاف الكامل. ويرى أن المشاهد لم يعد بريئا، وأن الكاميرا الحديثة لم تعد تكتفي بتمثيل المأساة، بل تصنعها أحيانا أو توظفها في لعبة السوق والإعلام.
يقول الكاتب في إحدى خلاصاته النظرية إن "الصورة لا تكتفي بأن تقول، بل تملي علينا كيف نرى"، وهي بذلك تتحول إلى أداة تشكيل إدراكي وجمالي وسياسي في آن واحد.
في سياق عربي، يقدّم حمدوني قراءة في دور الصورة الفلسطينية في بناء الذاكرة الجمعية، من خلال ما يسميه "الوعي المقاوم بالكاميرا"، حيث تتحول العدسة إلى شكل من أشكال الفعل الوطني والثقافي. يربط هذا الوعي بتحولات الإعلام الجديد وتكاثر المنصات الرقمية التي جعلت الصورة أكثر سرعة وانتشارًا، لكنها في الوقت نفسه أكثر هشاشة وتعرّضًا للتلاعب. ويذكّر المؤلف بأن الصورة الفلسطينية لم تكن يومًا ترفًا بصريًا، بل شكلًا من أشكال تدوين التاريخ الشعبي ومواجهة النسيان.
أهمية الكتاب وموقعه في الحقل العربييمثل "على مدّ البصر" امتدادا للمسار النقدي العربي في دراسة الصورة، بعد أعمال قليلة سبقت في هذا الميدان. لكنه يتميز بتناوله الفوتوغرافيا من داخل لغتها، لا من موقع التنظير الخارجي، جامعا بين الدرس الأكاديمي والوعي الجمالي والفكر النقدي.
والكتاب موجه إلى الباحثين في الفلسفة والنقد الثقافي والفنون البصرية، وإلى الصحفيين والمصورين وكل من يرى في الكاميرا وسيلة للتفكير في العالم.
ويُعدّ هذا الكتاب من الإصدارات العربية القليلة التي تدمج بين النظرية السيميائية والنقد الثقافي للفوتوغرافيا، إذ يستعير حمدوني أدوات التحليل من الفكر البنيوي وما بعد البنيوي ليفكك أنساق الصورة في الإعلام والفن المعاصر، مؤكدًا أن الصورة أصبحت شكلا من أشكال الخطاب السياسي والجمالي في آن واحد.
يكتب حمدوني بلغة عربية رشيقة، تتوازن فيها المصطلحات السيميائية مع النبرة التأملية، مما يجعل نصه قريبا من القارئ المتخصص والعام في آن معا. يتنقل بسلاسة بين التحليل النظري والمثال الواقعي، ويمنح القارئ شعورا بأنه أمام كاتب يعرف الصورة من داخلها، ويكتب عنها بضمير المصوّر ومخيلة الفيلسوف.
أسئلة مقلقةفي زمن تغمر فيه الصورة حياتنا اليومية من الشاشات إلى الهواتف، يأتي كتاب "على مدّ البصر: في الفوتوغراف" ليعيد الاعتبار إلى التفكير في الصورة قبل استهلاكها، وإلى إعادة النظر في فعل النظر ذاته.
يضع صالح حمدوني القارئ أمام أسئلة مقلقة حول حدود الجمال، والأخلاق، والتمثيل، والسلطة، والذاكرة، ويقترح أن نرى العالم لا كما يُقدَّم لنا، بل كما يمكن أن نعيد تصويره بأنفسنا.
ويمثل الكتاب إضافة نوعية إلى المكتبة العربية في مجال الدراسات البصرية والنقد الفوتوغرافي، إذ يفتح أفقا واسعًا لمساءلة الصورة بوصفها فعلا ثقافيا ومعرفيا لا يقل شأنا عن الكلمة المكتوبة، بل يوازيها في قدرته على بناء المعنى وتشكيل الوعي الجمعي
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أن الصورة على مد
إقرأ أيضاً:
قرابة 6 ملايين زائر في الدورة الـ28 لصالون الكتاب
أُسدلت مساء اليوم ستائر الطبعة الثامنة والعشرين من صالون الجزائر الدولي للكتاب، بحضور وزيرة الثقافة والفنون الدكتورة مليكة بن دودة ومحافظ الصالون محمد أقرب.
وكشفت وزيرة الثقافة والفنون عن توجيه تعليمات لتمديد أيام الصالون في الطبعات المقبلة، تأكيدا على نجاح الدورة الحالية، التي قارب فيها عدد زوارها الستة ملايين زائر.
وقالت الوزيرة في كلمتها بالمناسبة إن الحدث تجاوز حدود التظاهرة الثقافية ليغدو صوتا وطنيا مفتوحا على العالم. يثبت أن الجزائر حين تتحدث، ينصت إليها الجميع.
وأوضحت بن دودة، أن هذه الدورة جسدت تعطش المجتمع الجزائري للمعرفة والكتاب. مبرزة أن “الجزائر التي تقرأ وتفكر هي الجزائر التي تبني”.
وأضافت: “منذ أن توليت مهامي، كان الكتاب أولويتي الأولى، وقد عملنا كفريق واحد لنقدم صورة الجزائر المتفتحة على العالم، المتمسّكة بهويتها، والمؤمنة بأنّ الثقافة قوة بناء”.
وشدّدت الوزيرة على ضرورة جعل القراءة ممارسة يومية ومشروعا وطنيا دائما. مؤكدة أن الحدث المقبل سيكون ثمرة تعاون كل المؤسسات الوطنية، من أجل أن يصل الكتاب إلى كل ربوع الوطن.
ومن جهته، أعلن محافظ صالون الجزائر الدولي للكتاب محمد أقرب عن تسجيل رقم قياسي في عدد الزوار بلغ أكثر من خمسة ملايين وستمئة ألف زائر. مؤكدًا أنّ الحصيلة النهائية ستتجاوز ستة ملايين.
وأوضح أقرب أنّ هذه الدورة استقطبت 1258 عارضًا من 49 دولة، على مساحة 23 ألف متر مربع، قدّموا ما يزيد عن 140 ألف عنوان. وشارك فيها 270 ضيفًا من مختلف القارات، ضمن برنامج ثقافي ثري تجاوز 530 نشاطًا، شمل الندوات وورشات التوقيع والحوارات الفكرية.
وشهد حفل الختام توزيع جائزة “كتابي الأول” الخاصة بالشباب، والتي شارك فيها 75 عملاً “55 بالعربية، 10 بالفرنسية، 8 بالإنجليزية، و2 بالأمازيغية”.
أما جائزة أفضل جناح فكانت من نصيب المكتبة الوطنية الجزائرية عن جناحها الفاخر الذي جمع بين الجمالية والتنوّع.
كما تمّ تكريم ثلة من الشخصيات الثقافية التي ساهمت في إثراء المشهد الإبداعي الجزائري.
واختُتمت فعاليات “سيلا 28” ببثّ لقطات من نشاطات الأيام الماضية، وسط تصفيق جمهور غفير ودّع الصالون.
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور