العمدة المسلم في كنف الحرية والعلمانية

خالد فضل

يعتنق الشاب الأمريكي محمود ممداني الدين الإسلامي كمعتقد روحي، وينحدر عرقياً من أسرة إفريقية يوغندية، وينتمي سياسياً إلى الحزب الديمقراطي الأمريكي، ويتبنى فكرياً مبادئ الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. تدعو تلك السيرة المختصرة إلى تأمل عميق، إذ تكشف بوضوح لا لبس فيه المكونات الإنسانية للفرد، وتناغمها لتجعل منه رمزاً لقاعدة واسعة من الجمهور، تمنحه ثقتها بحر إرادتها، وتضعه في موقع المسؤولية لرعاية مصالحها.

يحمل منصب عمدة مدينة مثل نيويورك من الرمزية ما يجعله معياراً للبيئة الخصبة التي تزدهر فيها القيم الإنسانية الرفيعة، فهنا تنتصب معاني الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتجسيدها عملياً قبل أن ينتصب مجسماً بشعار الحرية كواحد من أبرز معالمها. هنا مقر الحكومة العالمية، الأمم المتحدة، عبارة موحية بالفعل، وتذكير دائم بوحدة الإنسانية في مواجهة واقع عيشها على بلدها المشترك، الأرض التي بسطها الخالق كما في اعتقاد الروحانيين أو أوجدتها الطبيعة كما يتصور الدهريون، وليس في اختلافهما أي مشكلة طالما سادت بينهم قيم الحرية والمساواة وقوانين وأحكام الديمقراطية المؤسسية وعلت مبادئ حقوق الإنسان كما هي في علوها على أي اختلاف بسبب العرق، النوع، الدين، الثقافة، اللون، المنحدر الاثني، إلخ.

لا غرو أن مارتن لوثر كنج رائد المطالبة بالحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة قد كان لديه حلم منذ الستينات من القرن الماضي، وفي البيئة الصالحة المتطورة الناهضة المتطلعة للمستقبل، فاز أوباما بالمنصب الأول في بلد المساحات الشاسعة والشعوب المتعددة، ومنحدره من كينيا الإفريقية، ثم أتى ممداني ليفوز بعمودية المدينة العالمية ليؤكد صحة رؤيا كنج وسلامة بصيرته ودقة أحلامه. الإنسان بدون أحلام قطعة حطام.

يعتبر الدستور المنظم لحياة البشر في الولايات المتحدة الأمريكية دستوراً وضعياً، لم يدع واضعوه أنهم رسل الله أو خلفائه الموكلين بقيادة الناس إلى طريق الهداية وأبواب الجنان في يوم القيامة، لم يزعموا أنهم يجاهدون بالموت والفناء والإفناء ليحوزوا الطيبات من حور عين وولدان مخلدون وفاكهة وأباً وجداول عسل ولبن مما يشتهون. بل كانت غايتهم تنظيم وتيسير سبل العيش للإنسان من حيث هو إنسان فقط على الأرض من بداية تخلقه نطفة في رحم الأم وحتى مرقد جسده في مدفن يليق أو أي طقس يراه للتعامل مع موتاه دون تمييز ولو كان حرق الجثمان بأعواد الصندل أو ألواح الزان. المهم هنا يتوفر لكل طقس مكان، فالإنسان غاية الحكومات ومنتهى أمل السلطات، أما شؤون ما بعد الموت فليس لمن هم على الأرض عليها سلطان، تلك معادلة واضحة ظاهرة يتعامى عنها كثير من الناس فتراهم يسيرون في ركب من يبيعهم الأوهام وهم مصدقون، يقودهم للحتف وهم منقادون كالسوام لا يعقلون، ولو سأل سائل منهم سؤال بسيط لفك الطلسم المطروح، سيدي القائد هل لك أن تؤكد لنا حيازتك أنت شخصياً لمقعد صدق عند عزيز مقتدر كما تقول؟ نعم أنت تحوز الآن على مقعد الزعامة بوضع اليد أو الانتخاب سيان، لكن من يضمن لك المقعد في حيز آخر ليس فيه نحن الجمهور فننتخبك أو الجيوش فتنفذ عبرها الانقلاب؟ قبهت الذي ادعى وخاب.

تبرز هنا مدينة نيويورك، يقطنها ملايين البشر، من كل السحنات والمعتقدات، لكنهم رأوا فيما يطرحه ممداني سبيلاً لترقية أوجه حياتهم فاختبروه بالانتخاب وهم على نزعه من المنصب أصحاب الحق في الأجل المرقوم، هنا لم يك للدين اعتبار أو كونه أسود يوغندي من معنى، فهو اشتراكي ديمقراطي الفكر والتوجهات، وبالطبع علماني لا يزعم أنه نور الله أو وكيل الغيب. فهو مثل الملايين يطمح لتأمين السكن والمعاش والطرق والجسور ووسائل المواصلات والتوظيف، ليذهب من يشاء يوم الجمعة للمسجد أو السبت للكنيس وفي الأحد الكنيسة فذاك من حق الاختيار لمن يروم هدأة الروح ومن لم يختار فهو حر كما يشاء. ذاك ببساطة مفهوم العلمانية، البناء على مشتركات الحياة، والتعددية فيما وراء القبور. في هذه البيئة نشأ ممداني، تفتح وعيه، انخرط سياسياً، ونشط اجتماعياً، فحاز على الرضا والقبول والانتخاب. فهل من متدبر في هذا المسار، وهل لبني السودان فسحة للتأمل أم غاب عن أفقهم ضوء الصباح فباتوا رهائن لدي غلالات التضليل. نسأل الله السلامة.

الوسومالعلمانية العمدة المسلم الولايات المتحدة خالد فضل عمدة نيويورك كنف الحرية مارتن لوثر كينج محمود ممداني الدين

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: العلمانية العمدة المسلم الولايات المتحدة خالد فضل عمدة نيويورك

إقرأ أيضاً:

لماذا تخاف إسرائيل من زهران ممداني؟

أصبح زهران ممداني أول عمدة مسلم لمدينة نيويورك، المركز المالي للولايات المتحدة الأميركية، وذلك بعد انتخابات استثنائية بكل المقاييس استطاع فيها المرشح الشاب (عن الحزب الديمقراطي) أن يتغلب على السياسي (الديمقراطي أيضا) أندرو كومو، الحاكم السابق لولاية نيويورك لمدة 11 عاما، الذي خاض الانتخابات مستقلا مستفيدا من مساندة واسعة من لوبيات المال والأعمال في المدينة، وأيضا من الدعم السياسي المعلن من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رغم الخلاف الواسع بين الرجلين اللذين سبق أن هاجما بعضهما بعضا بشراسة في أكثر من مناسبة أبرزها خلال جائحة "كوفيد-19".

لم يكن ذلك هو ملمح الاستثنائية الوحيد في هذه الانتخابات، فتلك هي المرة الأولى التي تحظى فيها نيويورك بعمدة مسلم، وقد حدث ذلك في انتخابات صوَّت فيها أكثر من مليونَيْ شخص من بين 4.7 ملايين ناخب مسجل في المدينة، وهي نسبة لم تحدث منذ عام 1969.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل ينقلب المسيحيون الإنجيليون في أميركا ضد إسرائيل؟list 2 of 2قناع الغرب الذي نعرفه يسقط ووجهه "القبيح" يوشك أن يظهرend of list

كانت حملة ممداني "يسارية راديكالية" في نظر الكثيرين، إذ وعد بزيادة في الضرائب على أغنى سكان المدينة، بهدف توفير الأموال لتحسين الخدمات للطبقة المتوسطة، وعلى رأسها جعل حافلات النقل العام مجانية وزيادة سرعتها بالنظر لحقيقة أن واحدا من كل 5 من سكان نيويورك يُكافح لتحمل تكلفة الأجرة المتزايدة باستمرار لوسائل النقل.

كما وعد ممداني بتجميد إيجارات الشقق التي تستهلك نسبة كبيرة من دخول العاملين في المدينة، وتعهد برفع الحد الأدنى للأجور تدريجيا إلى 30 دولارا للساعة بحلول عام 2030، علما بأن الحد الأدنى الحالي للأجور في مدينة نيويورك يبلغ 16.50 دولارا فقط، وهو رقم متدنٍّ وفق أي "مقياس معقول للمعيشة في المدينة" بحسب تعبير معهد السياسة الاقتصادية الأميركي.

بالإضافة إلى ذلك، فقد تعهد ممداني بتأسيس متاجر تابعة للمدينة توفر الأمن الغذائي لسكان المدينة، بالإضافة إلى توفير رعاية كاملة للأطفال. وبعد إعلان فوزه مباشرة، أعلن ممداني أن هذا الفوز يُمثِّل تفويضا لممارسة نوع جديد من السياسة ولإحداث التغيير الذي ينشده الناخبون.

زهران ممداني، عمدة مدينة نيويورك المنتخب، يخاطب أنصاره بعد فوزه التاريخي في انتخابات البلدية مساء الثلاثاء 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، في مدينة نيويورك (الأناضول)زهران ممداني.. طوابير الغاضبين

لا عجب إذن أن فوز ممداني أزعج الكثيرين ممن يقتاتون على بقاء الأوضاع الراهنة. وبحسب وكالة "رويترز" يأتي على رأس المنزعجين أغنياء المدينة وأصحاب الشركات، إذ جعلت وعود ممداني الخاصة بزيادة الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى بعض الخبراء يترقبون نزوح الأثرياء والشركات من المدينة، وهو ما قد يؤدي إلى تعطيل وعود العمدة الجديد نفسها، إذ سيفتقر في تلك الحالة إلى الأموال التي ينتظر أن يجنيها من الضرائب على الأثرياء، هذا فضلا عن أن حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوكول ربما تعرقل خطته تلك باعتبار أنها تنتمي إلى تيار أكثر "وسطية" في الحزب الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية.

إعلان

جدير بالذكر هنا أن واحدا من أهم شعارات حملة ممداني كانت "نيويورك للجميع وليست للأثرياء فقط" و"الكرامة الاقتصادية للجميع"، وقد صرح ممداني في تجمع انتخابي في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأن هناك مليارديرات أنفقوا أموالا طائلة تُقدَّر بملايين الدولارات في هذا السباق الانتخابي، مثل بيل أكمان ورونالد لودر، من أجل منع وصوله إلى منصب العمودية، معتبرين أنه يُشكِّل تهديدا وجوديا.

وعقَّب ممداني على ذلك قائلا: "سوف أعترف بشيء، إنهم على حق. نحن نُشكِّل تهديدا وجوديا للمليارديرات الذين يعتقدون أن أموالهم قادرة على شراء ديمقراطيتنا". وبحسب تعبير مجلة "تايم" الأميركية فإن ممداني هزم جيشا من المليارديرات عندما خرج منتصرا في انتخابات عمدة مدينة نيويورك يوم الثلاثاء.

وبخلاف الأثرياء الذين أربكهم فوز ممداني، فقد أزعج انتصاره بشدة رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب نفسه، الذي وجّه إليه ممداني خطابه مباشرة بعد فوزه قائلا: "أعلم أنك تشاهد.. ارفع الصوت".

وفي المقابل، وصف ترامب العمدة المنتخب بأنه يتبنَّى "خطابا غاضبا"، مشيرا إلى أن عليه أن "يُبدي احتراما أكبر لواشنطن إذا أراد أن ينجح". كما اتهم ترامب ممداني أنه يتبنَّى "أجندة شيوعية"، مُدعيا أن الولايات المتحدة "خسرت جزءا من سيادتها في نيويورك"، وأن الانتخابات "جرت بطرق غير نزيهة".

وبصورة أوسع، يُعد اتهام "الشيوعية" إحدى المقولات المتكررة في خطاب ترامب تجاه ممداني، إلى درجة أنه هدد بقطع التمويل الفيدرالي للمدينة "باستثناء الحد الأدنى المطلوب"، في محاولة لإثناء المواطنين عن انتخابه.

في ضوء ذلك، لا يُعد فوز ممداني، الذي وصفه السيناتور بيرني ساندرز بأنه إحدى أعظم المفاجآت السياسية في التاريخ الأميركي الحديث، معتبرا أن ممداني أصبح بالفعل واحدا من زعماء الحزب الديمقراطي، لا يُعد فوزا عاديا بأي حال، فقد جاء ليعكس تغيرات عميقة في السياسة الأميركية، وربما تمتد أصداؤه إلى خارج الولايات المتحدة.

لقد كان هذا الفوز إيذانا بعودة السياسيين اليساريين لوضع الاقتصاد وهموم الفقراء في صدارة الأولويات، بعد أن كان الخطاب اليساري في الغرب قد انهمك تماما في قضايا "الحريات والهويات الجنسية"، مع نسيان وتجاهل واضح للمشكلات الأكبر التي يواجهها المواطنون الأقل حظًّا، وهو التجاهل الذي تسبب في تعميق الفجوة بين الخطاب اليساري والجماهير.

وعلى جانب آخر، فإن هذا الفوز في مدينة بحجم نيويورك جاء أيضا ليشير إلى حقيقة أن الجماهير ربما أصبحت تتوق إلى خطاب آخر مختلف عن الخطاب اليميني الذي صعد بقوة كبيرة في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة خاصة، وفي الغرب عموما.

وأخيرا، ربما يعكس هذا النصر حقيقة أن الجماهير في العالم الغربي باتت تحمل رؤى مختلفة بشدة عن النخبة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. فالواقع أن مواقف ممداني المؤيدة لفلسطين والمعادية لدولة الاحتلال كانت لتصبح عقبة لا يمكن تجاوزها في طريق فوزه في سنوات ماضية، لكن هذه المرة كان هذا الموقف من أهم أسباب نجاح ممداني في مدينة تُعد أكبر معقل لليهود في العالم خارج إسرائيل.

إعلان

وبحسب تعبير الصحيفة العبرية "تايمز أوف إسرائيل"، لطالما عُدَّ دعم إسرائيل شرطا للفوز في أميركا، "لكن ممداني حطَّم هذه السُّنة، إذ شكّل تحالفا لم يضمّ التيار اليهودي السائد، واستغلّ غضب الديمقراطيين تجاه إسرائيل بسبب حرب غزة ونجح في ذلك"، ذلك النجاح الذي أزعج دولة الاحتلال بشدة، تماما كما أزعج الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأثرياء مدينة نيويورك.

الصهاينة الغاضبون

ليس من المستغرب إذن أن توالت التصريحات والمواقف الغاضبة من إسرائيل في أعقاب فوز ممداني، سواء على ألسنة المسؤولين أو في الصحف العبرية.

وبحسب صحيفة "جيروزاليم بوست"، أعرب السياسيون الإسرائيليون من كل التيارات السياسية عن بالغ انزعاجهم من فوز زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، فعلى سبيل المثال، صرَّح داني دانون سفير دولة الاحتلال لدى الأمم المتحدة بأن "انتخاب المرشح اليساري المناهض لإسرائيل، زهران ممداني، عمدة لمدينة نيويورك لن يُثنينا، وأن تصريحاته التحريضية لن تُثنينا. فالجالية اليهودية في نيويورك وجميع أنحاء الولايات المتحدة تستحق الأمان والاحترام، وسنواصل تعزيز علاقاتنا مع قادة الجالية اليهودية لضمان أمنهم ورفاهيتهم".

في حين صرَّحت نائبة وزير الخارجية شارين هاسكل بأن انتخاب ممداني مقلق للغاية بالنظر إلى تاريخه الحافل بالخطابات المعادية لإسرائيل ولليهود، وأن الجالية اليهودية في نيويورك "تستحق قادة يحمونها، لا قادة يستهدفونها". وكذلك صرَّح وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير بأن انتخاب ممداني "سيُذكِّرنا إلى الأبد بالعار" بحسبه، ففوزه يعني أن "معاداة السامية انتصرت على المنطق السليم"، واصفا ممداني بأنه "مؤيد لحماس، وكاره لإسرائيل، ومعادٍ صريح للسامية".

تصريح بن غفير كان مشابها تماما لما قاله أفيغدور ليبرمان، الوزير السابق ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، الذي قال إن نيويورك "انتخبت رجلا عنصريا وإسلاميا، يدعم حماس ويهاجم إسرائيل، ويُحمِّل الغرب مسؤولية كل أزمات العالم".

أكثر من ذلك، اعتبر ليبرمان أن نيويورك انتخبت "رمز الجهاد الصامت"، بل ووصل الأمر إلى أنه دعا يهود نيويورك للهجرة إلى "وطنهم الحقيقي" في إسرائيل، فيما صرَّح عضو الكنيست أوهاد طال، رئيس كتلة العلاقات الإسرائيلية الأميركية في الكنيست، أن نيويورك اختارت "قائدا إسلاميا شيوعيا ومعاديا للسامية".

سادت النبرة ذاتها في تغطيات الصحافة العبرية، إلى درجة أن مقال رأي بصحيفة "هآرتس" العبرية البارزة سخر من تعامل وسائل الإعلام في دولة الاحتلال مع فوز زهران ممداني، قائلا إنها "صوَّرت ممداني بأنه أكبر تهديد لوجودنا، وإن استوديوهات الأخبار فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي في إسرائيل شهدت حالة ذعر شامل بعد بث إعلان انتخابي لممداني يتحدث فيه باللغة العربية، وهي لغة زعيم حركة المقاومة الإسلامية حماس يحيى السنوار"، بحسب ما رصده المقال.

بل إن باراك أوباما بعد أن أعلن دعمه لممداني بدأت جميع البرامج الحوارية على "القناة 12" الإسرائيلية، وهي قناة غير حكومية، فجأة بالإشارة إليه باسم باسم "باراك حسين أوباما" بدلا من باراك أوباما، مع التركيز على كلمة "حسين" التي تحمل طابعا إسلاميا، وفق "هآرتس". وقد وصف مقال رأي آخر في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" ممداني بأنه لم يترك أي مجال للشك في أن "دعمه للفلسطينيين ورفضه الاعتراف بشرعية إسرائيل بوصفها دولة يهودية يُشكِّلان جوهر هويته وهدفه السياسي".

جاء كل هذا الهجوم من دولة الاحتلال رغم أن ممداني قد أعلن عن تطلعه للعمل مع جميع القادة اليهود في مدينة نيويورك، سواء كانوا مسؤولين منتخبين أو حاخامات أو قادة مجتمع مدني، كما تعهد بحماية يهود نيويورك، والاحتفاء بهم وتقديرهم وإعطائهم معاملة مميزة، مؤكدا أنه سيرفع ميزانيات منع جرائم الكراهية بنسبة 800%.

لماذا تخاف إسرائيل؟

لا يُخفي زهران ممداني هويته أو مواقفه، وربما ذلك ما يجعل خطابه مؤثرا إلى هذا الحد. وبحسب ممداني فإن الولايات المتحدة الأميركية هي الشريك الرئيسي في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وقضية فلسطين هي قضية رئيسية، إذ لم يعد ممكنا بحال أن تكون "تقدميا" في كل شيء إلا فيما يتعلق بفلسطين، بحسب تعبيره.

إعلان

وقد بدأ ممداني تعبيره الصاخب عن وقوفه الصلب إلى جانب القضية الفلسطينية منذ أن كان في الجامعة، وبحسب تقرير مطول لصحيفة "نيويورك تايمز" فإن أصدقاء زهران في الجامعة يؤكدون أنه لم يكن لديهم أي شك في حماسه الشديد تجاه القضية الرئيسية التي اختارها، وهي قضية نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، لدرجة أنه أسس فرعا لحركة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" في جامعته.

زهران ممداني، يتحدث في المركز الثقافي الإسلامي في مسجد برونكس في نيويورك يوم الجمعة 24 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (أسوشيتد برس)

لم يتردد ممداني منذ كان طالبا في الاحتفاء بالرموز الفلسطينية، بما يشمل ارتداء الكوفية الفلسطينية، ووضع ملصق على حاسوبه المحمول كُتب عليه "أنهوا الفصل العنصري الإسرائيلي"، وبحسب برايان بورنيل، وهو الأستاذ الذي أشرف على مشروع ممداني الختامي في الجامعة الذي يربط نظرية العقد الاجتماعي للفيلسوف جان جاك روسو بأفكار الفيلسوف الشهير المناهض للعنصرية فرانز فانون، فإن ممداني كان يطرح باستمرار نقاشات وأسئلة متعلقة بضرورة ممارسة العنف في النضال ضد الاستعمار، تحديدا في سياق الكفاح الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وفي مايو/أيار عام 2023، تقدم ممداني بصفته عضوا في جمعية ولاية نيويورك (تعمل بمنزلة المجلس التشريعي للولاية) بمشروع قانون بعنوان "ليس على حسابنا"، بهدف إنهاء تمويل ولاية نيويورك لعنف المستوطنين الإسرائيليين، وذلك عن طريق منع الشركات غير الربحية من الانخراط في دعم غير مصرح به للنشاط الاستيطاني الإسرائيلي، وفي عام 2025 أعلن ممداني أيضا أنه إذا انتُخب عمدة للمدينة فإنه سيلغي مجلس تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وإسرائيل الذي أنشأه سلفه أريك أدامز.

ومنذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، أعلن ممداني صراحة أن إسرائيل بدأت حرب إبادة جماعية ضد قطاع غزة، وأنه ينبغي لأصحاب الضمير أن "يطالبوا بوقف التمويل العسكري الأميركي لإسرائيل"، وربما كان واحدا من أكثر تصريحات ممداني جرأة هو ما قاله وكرَّره في أكثر من مناسبة حول نيته اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حال زيارته لنيويورك، لأن على المدينة أن تتوافق قيمها مع القانون الدولي.

كما صرح أنه لا يتقبل فكرة إسرائيل بوصفها دولة يهودية تتبنى نظاما هرميا يمنح الامتياز لأصحاب دين معين على حساب الآخرين، ولا يمكنه أن يقبل بها ويدعمها إلا إذا أصبحت دولة مواطنة تمنح الحقوق للجميع بالتساوي.

لكن الواقع أن دولة الاحتلال لم يصبها كل هذا الغضب والأسى من فوز ممداني بسبب آرائه الجريئة ضد إسرائيل أو تأييده للحقوق الفلسطينية فحسب، فمنصب ممداني في النهاية لا يؤهله للعب دور بارز في تغيير مسار السياسة الأميركية تجاه دولة الاحتلال في الوقت الراهن، لكنه يُشكِّل ناقوس خطر كبير حول المستقبل، وتلك هي الأزمة الكبرى بالنسبة لدولة الاحتلال.

بحسب منصة "بوليتيكس توداي" فإن ممداني حين فاز رغم كل الملايين التي أنفقها المليارديرات ذوو التوجهات الصهيونية لمنع فوزه فإنه انتصر على إسرائيل أيضا، مُثبتا أن هناك تغيرا كبيرا وغير مسبوق يجتاح "الأمة الأميركية" منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث أصبحت آراء الأميركيين وخاصة الشباب منهم تجاه دولة الاحتلال تتجه نحو الأسوأ، بل بات المسيحيون الأميركيون يغادرون الكنائس وينتقدون الكهنة الذين يوجّهونهم للدفاع عن إسرائيل، كما بات قطاع كبير من الشعب الأميركي يتساءل دون خوف حول الأسباب الحقيقية لدعم الولايات المتحدة لدولة الاحتلال، وما الذي تجنيه الولايات المتحدة من تحالفها مع دولة ترتكب انتهاكات مريعة مثل إسرائيل.

يعكس انتخاب ممداني حالة التغير الجذري تلك أوضح ما يكون. تنوه صحيفة "نيويورك تايمز" للأمر نفسه قائلة إن سكان نيويورك في الواقع أصبح موقفهم يميل إلى موقف ممداني تجاه إسرائيل، رغم أن هذا الموقف كان بعيدا كل البعد عن التيار السائد في الولايات المتحدة قبل الحرب الأخيرة.

وبحسب استطلاع للرأي أجرته جامعة "كوينيبياك" في أوائل أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فقد عبَّر 41% من الناخبين المحتملين في مدينة نيويورك عن أن آراء ممداني بشأن إسرائيل هي الأقرب إلى آرائهم، مقارنةً بـ26% اعتبروا آراء منافسه هي الأقرب إلى آرائهم. وقد عبَّرت "أسوشيتد برس" عن تلك الحالة بالقول إن "دعم إسرائيل كان يُعد أمرا حتميا وضروريا لمَن يريد أن يكون سياسيا في نيويورك إلى أن جاء زهران ممداني".

إعلان

إن قلق دولة الاحتلال البالغ من فوز ممداني يتعلق بما يخبئه المستقبل، فقدرة ممداني على تحقيق الفوز في تلك المدينة المهمة داخل دولة تُعد هي أهم حليف لدولة الاحتلال منذ تأسيسها، رغم كل ما أظهره من دعم للقضية الفلسطينية وازدراء لإسرائيل، يوحي بأن تغيرا عميقا في الرأي العام الغربي قد حدث، وأنه مرشح للتصاعد في المستقبل، فما لم يكن يمكن تخيله قبل طوفان الأقصى والحرب الإبادية الإسرائيلية بات الآن واقعا، وفي السنوات القادمة ربما سيفكر السياسيون في الدول الغربية مرات عديدة قبل أن يُظهروا دعمهم الصريح لإسرائيل.

هذا التغير العميق هو ما يُقلق دولة الاحتلال من فوز زهران ممداني، إضافة إلى التداعيات السياسية المرتبطة به، وعلى رأسها التخوف الكبير من أن يتحول الحزب الديمقراطي الأميركي إلى حزب معادٍ لإسرائيل في قادم السنوات.

مقالات مشابهة

  • أذكار الصباح اليوم.. رفيق المسلم في يومه ومفتاح للطمأنينة والبركة
  • راح للي أحن مننا.. رسالة مؤثرة من نهال طايل بعد وفاة إسماعيل الليثي
  • لماذا نجح زُهران ممداني؟
  • تعرف على فيديو.. حوار الوفد عن هل هناك تعارض بين العلاج بالقرأن و الطب النفسي
  • فوز شكَّل زلزالًا سياسيًا…!
  • الأمم المتحدة: الولايات المتحدة تنسحب من مراجعة سجلها الحقوقي في جنيف
  • كراهية النوم من غير ذكر الله
  • أذكار الصباح اليوم الأحد.. حصن المسلم من الهم والحزن
  • لماذا تخاف إسرائيل من زهران ممداني؟